أمريكا وإيران .. والصراع على الجسد العربي

 

شاع في التحليلات المكثفة خلال الأزمة الأخيرة، أن قواعد الاشتباك بين أمريكا وإيران تغيرت، وأن الخطوط الحمراء بينهما تكسّرت، ولهذا وقف العالم على قدميه مترقباً بقلق كبير انفجار ما أسماه البعض حرباً عالمية ثالثة تنطلق من الشرق الأوسط، أو في أقل الحدود، حرباً شاملة تكون ساحتها المنطقة العربية.

موجات التصريحات العنيفة الصادرة من كافة المسؤولين في إيران، وعلى رأسهم المرشد الأعلى، وتصريحات وكلائها في المنطقة، وكلها تتوعد وتهدد بالانتقام من أمريكا على قتلها قاسم سليماني، والتهديدات المضادة من ترامب وأركان إدارته، والتغطية الواسعة المتواصلة للإعلام بمختلف اللغات، كل هذا ساهم في صنع أجواء الحرب التي كان الناس يتوقعون نشوبها بين لحظة وأخرى.

صناعة الحرب

وقد تم خلق الحرب في المخيلة الجماعية للجمهور العام، بينما الساسة صناع القرار في البلدين، وربما في بلدان قريبة منهما، كانوا يدركون أنه لا حرباً عالمية أو إقليمية، ولا مواجهة شاملة أو محدودة، إنما صناعة أجواء حرب، وجعل إيران تحرز نقطة شكلية مُرضية لها تخفف عنها مفاجأة ومهانة نتائج الضربة الأمريكية الأولى المباشرة في المواجهة الطويلة بين البلدين، وهي قتل الجنرال الأبرز في النظام الحاكم.

عملية الاغتيال كانت أول استهداف أمريكي لإيران منذ بدء الصراع بينهما عام 1979 مع اختطاف 52 رهينة أمريكية، واحتجازهم في سفارة بلادهم في طهران لمدة 444 يوماً، وهذا هو سر الـ 52 هدفاً إيرانياً التي ذكرها ترمب خلال تحذيره طهران من أي استهداف للقوات أو المصالح الأمريكية، أمام كل رهينة اُختطفت قبل 41 عاماً سيتم تدمير هدف، وضمنها أهداف ذات قيمة خاصة للثقافة الإيرانية كما قال.

العودة إلى قواعد الاشتباك الثابتة

وبعد أن هدأت العاصفة تقريباً، فإن التحليل المستقر في فهم طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية يعود مؤكداً ثباته وصلاحيته، وهو أنه لا مواجهة شاملة، ولا حرب مباشرة بين البلدين.

نعم، حصلت أخيرا رشقة سريعة متبادلة، ثم عاد البلدان إلى قواعد الاشتباك الأولى المعروفة، وتم بناء ما تكسّر من خطوط حمراء، ومرد ذلك أن انطلاق الرصاصة الأولى قد يكون سهلاً، بينما إسكات البنادق يكون صعباً، لكن الهدف المشترك المنفرد لكل بلد منهما هو التلاعب بالعرب وابتزازهم والتمدد على أجسادهم.

وفي محصلة أسبوع لم تشهد المنطقة سخونة وتوتراً مثله بين أمريكا وإيران بشكل مباشر، حققت إدارة ترامب هدفها بالخلاص من سليماني ليسجل الرئيس نقطة لاستثمارها في عام الانتخابات، وكما يبدو من فجيعة إيران، ووكلائها، فإنه كان بالفعل الشخص الأهم في النظام بعد المرشد الأعلى.

صفعة رمزية

وإذا كانت هذه الضربة مُؤلمة ومُذِلة لإيران، فإنها خففت من أثرها معنوياً على صورتها لدى جانب من شعبها وأنصارها بالخارج عندما اعتبرت أنها وجهت صفعة لأمريكا بالصواريخ التي أطلقتها على قاعدتين بالعراق توجد فيهما قوات أمريكية.

الضربة الأمريكية كانت مؤثرة بإنهاء حياة قيادي إيراني كبير جداً، لكن الضربة الإيرانية كانت رمزية حيث لم تُسقط أي ضحايا أمريكان، ومن التفاصيل التي أعقبتها فقد بدت مُخططة ومُسيطراً عليها لتسجيل رد شكلي فقط دون أن تؤذي القوات الأمريكية حتى لا تجلب تداعيات خطيرة ورداً مقابلاً من واشنطن وتندلع حرب لن تتحملها إيران، أو أمريكا، رغم فوارق القوة الهائلة بين البلدين لصالح الأخيرة.

خطاب الجمهور .. وقرارات الغرف المغلقة

شتان الفارق في سياسة الدول بين خطابها العام للجمهور، وبين خطابها الحقيقي في الغرف المغلقة الذي تُتخذ على أساسه القرارات، وهذا تجسّد إيرانياً عندما خرج الرد العسكري مختلفاً عن عواصف التصريحات الكلامية التي أزالت أمريكا من على الخريطة، حيث جاءت الضربة الصاروخية شديدة التواضع فلم تكسر حجراً في واحدة من القاعدتين، وهذا كاشف لمدى إدراك القيادة الإيرانية للنتائج الكارثية عليها فيما لو انفجرت حرباً مع قوة عسكرية عظمى سيكون انتقامها ساحقاً، ويمكن أن يهدد وجود النظام الذي يواجه أزمة اقتصادية داخلية عنيفة وانتفاضات شعبية بسبب نتائج العقوبات الأمريكية، ولولا الحكم الحديدي، والقمع السياسي، لكان واجه مصير نظام الشاه.

وما يُقال عن احتشاد شعبي وراء النظام في موضوع سليماني لا يعكس حقيقة أن الشعب كله على قلب رجل واحد، هناك أكثر من  80 مليون مواطن في إيران، وعندما يتضامن عدة ملايين منهم مع السلطة فلا يعني ذلك أن الدعم الشعبي شامل، تتشارك إيران مع البلدان العربية في غياب الاحتجاج والتظاهر السلمي الحر للتعبير عن المواقف، ومنع استطلاعات الرأي العام المستقلة المحايدة التي تقيس نسب التأييد للحكومات، ونسب التأييد للمعارضات.

مكسب بعيد لـ إيران

مع ذلك هناك مكسب مهم بعيد لإيران رغم رمزيته، فقد تجرأت واستهدفت مباشرة قواعد أمريكية، وهذه سابقة، وإذا لم تكن ضربتها مؤلمة هذه المرة، فإنها في مرة أخرى قد تُؤلم.

 ورسالة الاستهداف تتجاوز واشنطن إلى حلفائها، وهم عرب الخليج، فالجرأة الإيرانية في ضرب أهداف أمريكية جعلت طهران تحذر بشكل واضح من أن أي رد سيكون مصدره البلدان الحليفة للولايات المتحدة سيتم ضربها، وغير القواعد الأمريكية في العراق وسوريا – والبلدان يقعان تحت نفوذ إيران – فإن رسالة طهران موجهة أساساً إلى الحلفاء الخليجيين الذين تستضيف بلادهم قوات وقواعد ومصالح أمريكية.

وهذه دول أقل قدرة عسكرية بكثير من إيران، وهي ليست بلدان حرب، وهي مهتمة بالتنمية، حتى وإن كان بعضها يقوم بأدوار سلبية تساهم في تعميق الأزمات والصراعات والاحتراب في بلدان عربية.

 وسقوط صاروخ إيراني واحد في بلد منها سيكون له تداعيات خطيرة على أوضاعها العامة، فهي لا تتحمل بالفعل ضربة خاطفة، ولهذا دعت للتهدئة وضبط النفس وعدم التصعيد لإدراكها خطورة الحرب، حيث ستكون ضمن ساحاتها، وستتضرر أكثر من الإيرانيين والأمريكيين، وهذا لا يمنع أن يكون بعضها في حالة سعادة باغتيال سليماني وباللهجة التصعيدية لـ ترامب تجاه إيران.

انكشاف أمريكي أمام الحليف الخليجي

وفي نفس الوقت تنكشف أمريكا أكثر أمام حلفائها الخليجيين الذين توفر لهم الحماية مقابل أموال ضخمة وسياسات موجهة، إذ عندما تبدو إيران مكافئاً لأمريكا، وتدفع حلفاءها في العراق لإخراج القوات الأمريكية، ويستجيب هذا البلد، وتقوم بضرب قواعدها، ثم يكتفي ترامب بعقوبات اقتصادية، وليس بضربة عقابية أشد قسوة، خشية الغرق في مستنقع لبلاده وقواته ومستقبله السياسي، فإن مآلات كل ذلك سلبية على حلفاء واشنطن الذين ستزداد إيران تنمراً عليهم في مقبل الأيام.

 واتصور أن القلق العربي من واشنطن سيتزايد، والثقة فيها ستتراجع، وعندما يقول ترامب إن بلاده لم تعد بحاجة لنفط الشرق الأوسط، فالمعنى البرجماتي أنه يمكن أن يغادر المنطقة في أي لحظة ويتركها نهباً للقوى المهيمنة فيها، ومنها إيران.

صراعات أجنبية على أرض عربية

المُلاحظ أن المواجهة السريعة الأخيرة جرت كلها على أرض عربية، وهي العراق، ولم تتم لا على أرض إيرانية، أو أمريكية، وإذا كانت المواجهة اتسعت، فإن ساحاتها ستكون في أراض عربية أخرى غير العراق، والعرب لم يكونوا طرفاً مباشراً في هذا الصراع، لكنهم وقوده، وهم وقود كل صراع، أرضاً وبشراً وأمناً واستقراراً وسلاماً اجتماعياً وقومياً واستنزافاً لمواردهم وتخريباً لتجاربهم التنموية.

أمريكا حققت مكاسب، وإيران أيضاً، حتى وإن كانت رمزية، أما العرب فهم الوحيدون الذين تلحق بهم الخسائر، سواء في أزمة اليوم، أو في أزمات الأمس.

العقل العربي لو كان مسؤولاً

وبعد هذا الأسبوع الساخن، المفترض في العقل العربي – إذا كان عقلاً حكيماً ناضجاً مسؤولاً – أن يقوم بإعادة التفكير في وضع وحالة أمة العرب وكونها رهينة عند المتصارعين على جسدها وفوق ترابها ومن يسعون لالتهام ثرواتها مجاناً بهدف السعي للخروج من عباءة الحماية الأمريكية، ومغادرة حائط الخوف من التهديد الإيراني.

 ومن المفترض أيضاً أن يبدأ هذا العقل عصفاً فكرياً في اتجاه بناء قوة حقيقية مُهابة، فالعرب ليسوا مضطرين للدعم الأمريكي المُكلف الذي قد يخذلهم في لحظات، وليسوا ضعفاء منسحقين إلى الحد الذي تطمع فيهم قوى إقليمية إيرانية أو إسرائيلية، وتجعلهم في حالة قلق أو خطر دائم.

ما لم يكن العرب مؤمنين بشعوبهم وكرامتها وحرياتها، عادلين مع مواطنيهم وعزتهم ورفاهيتهم وحقوقهم، راشدين في حكمهم، مؤتمنين على حسن إنفاق ثرواة بلادهم، مُوحدين في صفوفهم وكلمتهم، فإنهم سيظلون مطية لكل القوى الأجنبية؛ قريبة منهم، أم بعيدة عنهم.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه