أما آن لسنوات غربة الوطن العجاف أن تنتهي!

العاصمة المصرية القاهرة - أرشيفية

تلك الأرصفة الباردة التي تسير عليها في بلاد غربية أثناء تيه الغرق في أوجاع قلبك وعقلك ومشاعرك .. أرصفة حملت معك آلام غربتك فيها؛ لكنها باردة جدا على نبض عروقي التي تتنفس في صعيد آخر هناك على بعد آلاف من الأميال ..
تلك الأرصفة يموت فيها المحبون للأوطان  الذين كتب عليهم أن يدفعوا من أعمارهم سنوات وسنوات بعيدا عن هواء حلموا أن يتنفسوه بحرية وعدل ومساواة ..
 أما آن لنا نحن الذين هناك على الجانب الآخر من الوطن أن يلاقيهم الموت على أرصفة ليست بهذا القدر القاسي من البرودة ..  

إن الموت المنتشر في شوارع الوطن بكل بقاع الأرض العربية باحثا لأجيال جديده عن مستقبل اقل سوءا واكثر بهجة وعدالة افضل للعشاق من هذا الموت الذي يلاقينا على رصيف بارد في بلاد فتحت لنا أبوابها في وقت أغلقت كل بوابات الوطن
هذا الموت الذي يمكن لنا أن نبتسم له في ساحة التحرير بالعراق، أو في ميادين الجزائر، أو أمام مقر قيادة الجيش في السودان، أو في ميادين الثورة في لبنان، أو في شارع محمد محمود ومجلس الوزراء وميدان التحرير في القاهرة لهو أحب إلينا من موت على أرضية تلك الأرصفة الباردة الخالية من مشاعر المحبة والمليئة بالجمود وغياب الإحساس.  
علم وطن يرفرف على بيوت من الحجر؛ تلك البيوت التي نلاقيها في ساحات البلاد الغريبة ويرفع عليها علم الوطن؛ ألم يحن لها الوقت أن تحن على غربتنا وتفتح لنا تلك البوابات الحديدية لتشعر ولو لحظات أنك في أرض وطن هان في سبيله كل غال لدينا فما وجدنا منه إلا عسكري يوسف أدريس الأسود يلاقينا في غربتنا فيحيل حنينا للوطن وتضحية من أجل غده إلى كابوس يلاحقنا على أرصفة الغربة التي لا نعرف لها ملامح لغيابنا عنها. 
هذا العلم كنا نتمناه ومازلنا نتمنى أن نكفن به حين يأتينا الموت في بلادنا البعيدة ننظر إليه بكل شوق المحرومين من رؤيته علي أرض الوطن صار على أعلى تلك البيوت الحجرية عنوانا مضافا على قهر الغربة تتحسس أقدامنا ونحن نقترب منه وتدور بعقولنا مئات من أسئلة دون إجابات. 

دخول بلا عودة في المغارة 

لك أن تتخيل أن بيتا من بيوت الوطن يسمى سفارة أو قنصلية عليك أن تتخذ كافة وسائل الأمان عندما تدخله كي تخرج منه سالما، وتحسب لحظات الوجود فيه، وتنظر لكل شخص تقابله نظرة ريبة وشك ربما يكون هذا الشخص الذي تنظر إليه هو بوابة ذهاب إلى مكان مجهول! 
وما حادثة صحفي الأهرام رضا هلال بعيدة عنا؛ والذي اختطف من أمام منزله منذ سنوات بعيدة قاربت ١٦ عاما .. 
وما عملية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قلب سفارته عنا ببعيد، ونحن نقترب من بيوت حجرية سميت سفارات وقنصليات بلادنا المحكومة بالنار والحديد .. وتعد تلك البنايات جزءا من أراضيها ..
آه يا بلاد يا غربية 
عدوه ولا حبيبة 
في الليل تصحي عيوني 
وعيونك مش قريبة 
ليالي الغربة أحزان بلا مرسى 
كل ليالينا في غربة الوطن طويلة بحجم  سوادها نبحث كل لحظة عن بقعة أمل تنير لنا صباحا ويشرق معها الفجر ..  
في السنوات الست الأخيرة من عمر الوطن (مصر) لحظات كثيرة كنا نظن أن الثورة فيها والخلاص من كابوس حكم السيسي ديكتاتور ترمب المفضل وصديق نتنياهو قد قرب وفي تلك الليالي كنا نبحث عن أول ضوء من نور الصباح لكى يحملنا إلى الشارع علنا نجد مرسى لأحلامنا في الحياة .
والليلة وأنا أكتب هذا المقال طالعت تدوينة على فيس بوك لصديق يقول: إن أطول ساعات الليل من الواحدة بعد منتصف الليل حتي طلوع النهار .. 
هذا الصديق الذي يعاني من تدابير احترازية بعد سجنه سنتين في قضية الدفاع عن تيران وصنافير .. 
وعلقت عليه بقولي : وجع قلب ما بعده وجع، الآن ورغم توفر طائرة سفر فلا أدري هل أستطيع أن أحجز تذكرة طيرانها أم تلاحقني الوساوس والهموم؟ّ
 يصبح الليل في الغربة أشد ظلمة منه عند صديقي الذي يذهب كل شهر إلى التدابير الاحترازية وهو يخشى ألا يخرج منها .. إن ليالي الوطن طويلة على المحبين ..وليالي الغربة عليهم أشد وطأة وقسوة .. أما آن لتلك الليالي من نهايات صور الماضي تطارد أحلامنا ..  
أما آن لهذه الصور القادمة من أعماق الماضي البعيد حيث قرانا الطيبة وأهلنا الذين رحلوا والذين تباعدت بينا وبينهم المسافات وصار حلم لقائنا بهم بعيدا .. أما آن لها أن تغادرنا في أحلامنا ونذهب لها في الحقيقة .. 
أما آن لنا أن ندفن أحبابنا الذين يأتيهم أجلهم أو نزور أحبابا مرضى .. أو نعود أدراجنا في شوارع مدينتا القاهرة الساهرة مع أصدقائنا فنراهم و نتحسس وجوها باعدت بينا وبينهم الأيام .. نتقابل فنرى تلك الشوراع مره أخرى بعيون الحرية والعدل والمساواة.
 

شوارع القاهرة .. حنين لا ينتهي 

نلتقي فنلامس مقاعد المقهى ونحتسي أكوابا من الشاي وفنجانا من القهوة السادة  ونستنشق هواء بلادنا بعد هطول المطر في شوارع المدن التاريخية .. نلامس زهرة البستان، وقهوة أم كلثوم، وأتيلية القاهرة، وكوبرى قصر النيل، والمبني العتيق الذي عشت عمرا فيه (ماسبيرو) ..
 أما آن لتلك الأيام في ليالي التغريب والغربة في بلاد الله أن تنتهي بنا إلى مرسى الوطن؛ أما آن لسنوات الوطن العجاف أن تنتهي!
أم لا يزال أمامنا الكثير، وربما يكتب علينا أن نغادر العالم دون أن ولا توارى أجسادنا في تراب الوطن الذي نعشقه؛ فهل سيحملنا تراب الوطن أم يقسو علينا حتى عندما نموت كما فعل مع أصدقاء لنا ما وجدوا في هذا الوطن مدفنا لهم؟!
ملحوظه: حين بدأت كتابة هذا المقال كان صوت الشيخ محمود علي البنا -رحمه الله- يأتيني عبر الراديو مرتلا سورة ( يوسف)؛ فقلت ربما هي سنوات الوطن السبع العجاف؛ فماذا تبقى منها: هل هي السنة الأخيرة تلك التي بدأت أما نذهب إلى سنوات سبع عجاف لم تبدأ بعد؟!  وقبل أن أذهب بعيدا في التحليل جاء صوت محمود علي البنا مرتلا من سورة يوسف: ” حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” صدق الله العظيم.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه