ألعاب الفيديو في العالم العربي وتحدي الهوية

 

عندما ظهرت لعبة بونغ عام 1972، وهي أول لعبة فيديو في التاريخ، لم يكن من الممكن التنبؤ بمستقبل صناعة الألعاب، ولم يكن متوقعا بلوغ أرباحها المليارات. لكن الأمر لا يقتصر على الأرباح، فكل لعبة تحمل معها فلسفتها، وتعبر عن ثقافة صانعيها، لذا لطالما اشتكى الأهالي في العالم العربي من إدمان أبنائهم ألعابا تروج للعنف والسرقة، وتحوي مشاهد خمور وتعرٍ بشكل يتناقض مع القيم الإسلامية، وهنا يطرح نفسه سؤال ملح للغاية: أين موقع العرب من تطوير ألعاب خاصة بهم تعكس ثقافتهم، وتخرجهم من دائرة الاستهلاك إلى دائرة الإنتاج في هذه السوق الواعدة؟

سوق واعدة وتحديات كبرى:

تتفوق سوق الألعاب في إيراداتها على سوق السينما، بمبيعات تتجاوز مئة مليار دولار سنويا. ورغم فتوة العالم العربي، ووجود ما يقارب الـ 400 مليون نسمة فيه، ورغم كون اللغة العربية رابع لغة في العالم، فإن المحتوى العربي على الانترنت لا يمثل إلا 1% من المحتوى العالمي بما فيه الألعاب الإلكترونية، وهذا يعني وجود سوق عربية عريضة ونامية، لا يوجد ألعاب كافية تخاطبها بلغتها وتُستقى من ثقافتها، وهذا يشكل ثغرة كبيرة في هذه السوق، يمكن استغلالها لتحقيق أرباح مذهلة.

لكن هذا الإغراء الكبير لم ينجح في إقناع المستثمرين العرب بضخ أموالهم في هذا القطاع، خاصة وأن هذه الصناعة غير تقليدية وغير مضمونة الأرباح، بالإضافة إلى أن أرباحها المحتملة لا تُحصد بشكل فوري، ناهيك عن ارتفاع تكلفة الإنتاج، وصعوبة المنافسة مع المنتجات العالمية ذات الجودة العالية، يُضاف إلى ذلك كله قلة الكفاءات العربية المتخصصة في هذا المجال، وصعوبة جذبها للعمل في استديوهات ناشئة، قد تنتهي بعد أشهر إلى الإفلاس.

هذه الصعوبات جعلت مطوري الألعاب العرب وناشريها، يلجؤون إلى مسرعي المشاريع Start ups لتمويلهم، مثل شركة طماطم الأردنية الناشرة للألعاب التي تأسست عام 2013، والتي حصلت على تمويل كبير ساعدها على تثبيت قدميها في هذا السوق الجديد، وتحقيق أرباح عالية بلغت حسب مؤسسها 2,500,000 دولار في العام 2017، وبنسبة نمو 150% سنويا.

تعريب ونشر ألعاب الهاتف.. خطوة صغيرة:

إن قيام الشركات الأجنبية بتعريب ألعابها، بغية استمالة المستهلك العربي، يسيء للغة والثقافة العربيتين، بسبب جهل هذه الشركات بهما، وهذا ما دفع شركات عربية ناشرة للألعاب للاضطلاع بهذه المهمة، وذلك باستيراد ألعاب الهاتف المحمول، ثم تعريبها وجعلها مناسبة للثقافة العربية، وذلك بإضفاء تغييرات على بيئة اللعب والموسيقى والأسماء وغير ذلك، في عملية لا تستغرق أكثر من أسابيع معدودة في أقصى الحالات، بينما نأت هذه الشركات بنفسها عن تطوير ألعاب الفيديو، التي تتطلب سنوات من العمل وميزانية طائلة، علما أن ألعاب الهاتف المحمول لا يمكن أن تسد ثغرة الحاجة إلى ألعاب فيديو عربية.

ألعاب الفيديو، وضوح الهوية وتعثر البدايات:

كان أول من غامر بخوض ميدان تصميم ألعاب الفيديو ثلاثية الأبعاد في أوائل الألفية الثانية، شركة أفكار ميديا السورية، بلعبتيها: تحت الرماد وتحت الحصار، اللتين حُمِّلتا بالقضية الفلسطينية، باستحضار أحداث كالانتفاضة ومجزرة الحرم الإبراهيمي وغيرهما، والتي يكون على اللاعب فيها مواجهة عدوه الصهيوني أثناء اللعب، بحيث تشكل المستوطنات والقذائف المسيلة للدموع والسيارات المصفحة، ثم الأعلام الإسرائيلية التي يتوجب على اللاعب نزعها عن دبابات الميركافا، جزءا من وعي اللاعب بالقضية، وهذا ما جعل موقع اللعبتين يتعرض للقرصنة عدة مرات، الأمر الذي لم يمنع نجاحهما وانتشارهما. تلت هاتين اللعبتين لعبة قريش الاستراتيجية، التي تناولت الحقبة النبوية، وجسدت شخصياتها الإسلامية وقبائلها وغزواتها وبيئتي مكة والمدينة المنورة، ولكن شركة أفكار ميديا اضطرت للإغلاق عام 2009.

في الرياض كان هناك محاولة ملفتة للنظر عام 2013 من قبل استديو سيما فور بلعبته ثلاثية الأبعاد “ركاز: في أثر ابن بطوطة”، التي تقوم قصتها على تتبع أخوين، لآثار الرحالة ابن بطوطة عبر عدد من البلدان العربية، بدءا من طنجة مرورا بجبال الأطلس وأحياء دمشق القديمة وانتهاء بميناء الإسكندرية ودبي، الأمر الذي يعكس ربطا وثيقا للعبة بالتاريخ والثقافة العربيتين.

وبالإضافة إلى الحوارات المستوحاة من الثقافة الإسلامية، وملامح الأبطال العربية، بما فيها الحجاب الذي يعلو رأس عالمة الآثار، الشخصية النسائية في اللعبة، نجد اهتماما بتفاصيل البيئة المكانية، حيث تصادفك أثناء اللعب الأسواق الشعبية المسقوفة، والنساء المنتقبات، ومتاجر البهارات والصناعات اليدوية، واللافتات المكتوبة بالعربية، والمساجد، ومصاطب الجلوس على الأسطحة، والمسابح المعلقة في السيارات، في حين ترى في المنازل النوافذ عربية الطراز، والسجاجيد المعلقة على الجدران، ودلال القهوة والفوانيس، وغيرها من التفاصيل التي تنطق بالهوية العربية، ولكن ركاز مع ذلك لم تلق الرواج المطلوب بسبب عيوب تقنية.

نجاحات في الأفق:

ورغم تعثر الكثير من المحاولات العربية، بسبب ضعف التمويل وشراسة المنافسة، فإن مطوري الألعاب العرب لا يزالون يحاولون تعبيد هذا الطريق الصعب، فبعد فشل لعبة ركاز، أنتج استديو سيما فور لعبته الثانية عام 2016، لعبة بادية، والتي لقيت نجاحا تكلل بالوصول إلى”PC Gamer Show” في لوس أنجليس، رغم كونها لا تزال قيد التطوير. واللعبة قائمة على فكرة البقاء على قيد الحياة في بيئة الخليج العربي الصحراوية، حيث تقدم البيئة بأزيائها، وخيامها المؤثثة، وأوانيها النجدية، وطقوس قهوتها المطبوخة على مواقد الجمر، ورياضة صيد الطيور الجارحة، وصرح مطوروها أن تصميم العربات القتالية فيها استند إلى فيلم عمر المختار للمخرج السوري مصطفى العقاد.

أما أكثر الأمثلة الحالية وضوحا في السعي، لا لاستلهام الثقافة العربية فقط، بل لاستلهام البعد التاريخي والديني فيها تحديدا، فيتمثل في استديو رمبلينج جيمز المصري الذي يعمل منذ 2016 على تطوير لعبة فرسان النور، المستوحاة من معركة القادسية عام 636 م، والتي شكلت حدثا مفصليا في التاريخ الإسلامي، حيث تُستلهم الشخصية الرئيسية في اللعبة من الشخصية الإسلامية الشهيرة القعقاع بن عمرو، التي سحرت مطوري اللعبة بصفاتها الاستثنائية كما صرحوا في أحد لقاءاتهم.

وتم الاعتماد في تطوير اللعبة على خبراء متخصصين، فقصة اللعبة كتبت من قبل روائي، وتصميم الحركات القتالية تم بالاستعانة بمدرب فنون قتالية، وتضاريس بيئة اللعبة تمت مطابقتها مع جغرافيا العراق. وللنجاح في ربط اللعبة بهذه اللحظة من التاريخ الإسلامي تمت العودة إلى المراجع التاريخية، لتمثيل البيئة الصحيحة، والمواقع الأثرية، وعادات السكان، والشخصيات التاريخية، بحيث يستطيع اللاعب أن يحيا هذه الموقعة بكل تفاصيلها، متقمصا واحدة من شخصياتها.

وكلفت اللعبة ميزانية ضخمة، لتستطيع تقديم مشاهد ذات طابع سينمائي، لكن مطوريها صرحوا بأن كلفة التسويق للعبتهم ستتجاوز ربما ميزانية تطويرها، الأمر الذي حدا بهم إلى إطلاق حملة لمتابعة تمويلها في تموز يوليو 2018، ثم إلى الدخول المبكر على ستيم هذا العام، بإصدار جزء صغير من اللعبة بسعر مخفض، لتحقق للأستوديو ربحا يمكنه من متابعة تمويل اللعبة، وجعلِ انطلاقتها المقررة في 2020 ممكنة.

ومن الجدير بالذكر أن أول خطوة قام بها المطورون قبل أن يشرعوا في تطوير لعبتهم هو التأكد من عدم رفض منصة بلي ستيشن لفكرتها المستلهمة من التاريخ الإسلامي تأثرا بالإسلاموفوبيا، بأن قاموا أولا فقط برسم بورتريه للعبة، تعمدوا فيه إظهار الطابع الإسلامي لها، من خلال أزياء المقاتلين ورايتهم التي كتبت عليها الشهادتان، وبعد أن تمت الموافقة على البورتريه شرعوا بالعمل، ولعل هذه المخاوف تشكل تحديا إضافيا للمطورين العرب الذين يريدون استلهام تاريخهم في أعمالهم، وتقديمه لا للاعبين العرب فقط، بل لمجتمع اللاعبين في كل أنحاء العالم.

مستقبل تطوير الألعاب في العالم العربي:

ينشط تطوير الألعاب بشكل خاص في الأردن ومصر ولبنان والسعودية، حيث تُفتتح باستمرار استديو هات جديدة يتجمع فيها شبان وشابات موهوبون في غرف متواضعة، ليبدؤوا بالعمل على مكاتبهم الصغيرة، حاملين طموحات كبيرة، لكن للأسف تنتهي الكثير من هذه الاستديو هات إلى الإفلاس، بسبب صعوبات الصمود في هذه السوق الشرسة، وستبقى هذه الصعوبات على حالها، مادام المستثمرون العرب لا يدركون أهمية ملء هذا الفراغ والجدوى الاقتصادية للاستثمار فيه، حتى يجد هؤلاء الشبان رؤوس أموال تتبنى إبداعاتهم، فينجحوا في تطوير ألعاب منافسة تزيح هيمنة الألعاب الأجنبية على السوق العربية، وتساهم بطريقتها الجذابة في تعزيز الهوية الثقافية لدى اللاعب العربي، وتقدم له، إلى جانب الترفيه، جرعة من الوعي بقضاياه السياسية، وفلسفة أخلاقية تتناسب مع دينه وعروبته.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه