أكذوبة الأمن والآمان في مصر

«أنا اسم بلا لقب صبور في بلاد كل ما فيها يعيش بفورة الغضب»… كلمات للشاعر الراحل محمود درويش لا تفارق ذهني منذ فترة وتؤرق أفكاري ليس عن شجن وإنما لما أراه فيها من تناقض يعكس الحال النادر للشخصية المصرية والتي أنا جزء منها، فأنا أعيش في وطن غاضب، ثائر، رافض، ينهشه الفقر كل يوم، وتدوسه أقدام الطغاة كل لحظة، ومع كل هذا فصفتي وصفة قومي الأولى الصبر!

الصبر في عقيدتي فضيلة وربما عبادة، وفي وطني نقيصة وربما كفر بفريضة الجهاد ضد الحاكم الظالم، ومن هنا الارتباك الأول ما بين فضيلة الصبر والكفر به.

وطن الجرائم النادرة

نعيش في وطن كثرت فيه الجرائم وأفرز أنواعا جديدة منها، وفي الظاهر الكثرة لها أسباب والإبداع الإجرامي له أسباب مختلفة، إلا أن المنبع والمصدر الرئيسي لهما واحد، أما الكارثة الأكبر فتتعلق بالحقيقة وأقصد حقيقة مرتكب الجرائم وكثرة الاحتمالات التي جعلتنا في حالة شك وريبة مستمرة من نتائج التحقيق في معظم الجرائم، بل أصبح الأقرب للمنطق أن هناك من تم إعدامه أو سجنه وهو برئ، وأن هناك مجرما قاتلا يعيش حرا يمارس حياته في جبروت وطغيان وربما يرتكب جرائم أخرى وهو مطمئن بأن غيره الذي سيدفع الثمن.

وبصرف النظر عن دقة وصف هذه الحالة أو كونها مبالغة من شخص محبط إلا أنه المؤكد أن حالة الشك والريبة أصبحت سلوكا متفشيا بين المصريين وهذا في ذاته ليس من فراغ، وفي جريمة ميت سلسيل البشعة التي راح ضحيتها طفلان بريئان.
وأظهرت التحقيقات أن والدهما الذي يحبهما بشدة هو القاتل ولم تقدم التحريات والتحقيقات مبررات منطقية سوى قشور من أسباب معتادة مثل عدم القدرة على النفقات المعيشية، وتبين أن الرجل ميسور الحال، أو الإدمان وهو ما نفاه شهود من القرية وأكدوا على السلامة الذهنية والعقلية والنفسية والأخلاقية للرجل.
ومما يزيد من الارتباك هو اعتراف الرجل بالجريمة، بل وتمثيله لها، وهو سبب كافٍ لإدانته وإفقاده تعاطف المحيطين به، ورغم ذلك خرج أهل القرية في مظاهرة حاشدة يطالبون بالحقيقة ويتهمون جهات التحقيق بالكشف عن أسرار تخفيها لحماية مراكز قوى ومافيات آثار أو غير ذلك.

ربما يكون الرجل هو قاتل أبنائه وخاصة أن المجتمع في السنوات القليلة الماضية شهد جرائم في مثل هذا المستوى من قتل الأبناء والآباء والأمهات والانتحارات، وربما يكون بريئاً، خاصة أيضاً أن المجتمع شهد في السنوات القليلة الماضية نجاة قتلة وسفاحين ومجرمين من عقوبات لجرائم ثابتة عليهم، والعفو عن هشام طلعت مصطفى الذي ثبت قيامه بقتل المطربة سوزان تميم بعد قضاء نصف المدة، وممارسته حياته الطبيعية ضمن عوالم دوائر الحكم!
ومثل براءة ضباط ومخبرين قتلوا مواطنين داخل الأقسام وخارجها، وجرائم كثيرة يفلت المدانون فيها لعلاقاتهم بدوائر الحكم واتخاذ القرار، ومشاهد أخرى تثير الريبة والشك حول إدانة أبرياء بجرائم لم يرتكبوها مثل اتهام سيدة بحرق أبنائها، وإلقائهم أمام ترعة المريوطية فيما ظهر قبل اكتشاف الجثث بأيام على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لنفس السيدة وهي تستغيث وتطالب بالبحث عن أبنائها الذين تم اختطافهم وتهاجم تقاعس الشرطة.
 ورغم أن التقارير أثبتت أن الجريمة وقعت قبل اكتشاف الجثث بيوم إلا أن الشرطة فجأة أظهرت نفس السيدة التي كانت تبحث عن أبنائها قبلها بأيام واعترافها بأن أبناءها احترقوا نتيجة إهمالها وانشغالها عنهم بالدعارة، وغضت جهات التحقيق النظر عن بلاغها بخطف الأطفال والسابق عن الواقعة بأيام، وهو ما أغلق القضية، ولكنه لم يغلق التساؤلات لدى الرأي العام وأثار المزيد من الشكوك.

المنطق الأعوج

عندما يسود المنطق الأعوج في مجتمع فتوقع أي مشاهد أو أحداث تصنفها المجتمعات السوية ضمن الأحداث الشاذة.
والاعوجاج تكون بدايته من رب الدار الذي يبادر بضرب دف الفساد والطغيان والانحراف، نغمات دف الفساد والفاشية بدأت عقب استقرار حاكم تولى بالمؤامرة والخديعة وكسر كل حدود المنطق لدى شعب دفعته الخديعة إلى استخدام فضيلة الديمقراطية للإطاحة بحاكم أعطى لهم حق مناقشة سلبياته وتنصيب آخر سلب منهم هذا الحق وحولهم إلى وقود لأطماعه ومخططاته التي كانت مختبئة وراء وجه مسيلمة الكذاب.
 وهنا بدأ المنطق الأعوج وتحول القاتل إلى حاكم وسيد وخرج الفساد من الجحور ليشكل دائرة حكم فاشي فاسد وتحالفت كل أدوات الطغيان والفاشية والفساد والانحراف والاستغلال لينقلب القاتل إلى مدع والمقتول إلى مدعى عليه وتضيع الحقوق وتزهق الأرواح وتهتك الأعراض تحت مسمى الاختيار الشعبي.
ومن هنا بدأت أيضا حالة الريبة والشك في أي نتيجة تصل إليها أي جهة تحقيق طالما هي تابعة لجوقة رب الدار الضاربة بالدف، وهو ما يبرر إصرار أهالي ميت سلسيل على عدم تصديق نتائج التحقيق وبنسبة أكبر قد تكون شكوكهم في محلها، خاصة أن كثيرا من القتلة ومجرمي النظام لم ينالوا جزاءهم.

خديعة الحاكم

لكل سلطان فاسد بهاليل يهللون له ويبررون انحرافاته بل وتصل بهم المخادعة إلى أنهم يحولون الجرائم والفساد إلى فضائل تحمل دوافع خفية، ومنهم من برر كل حوادث الطرق ووسائل المواصلات وكوارث اختلال الأمن، والتي ارتفعت بمعدلات غير مسبوقة على أنها خارج مسؤولية الحاكم حتى إن أحدهم قال نصا «هو الرئيس حا يقف على المزلقان ولا حا يفتش المطار!!».
اللافت أن هذه الجوقة من البهاليل هي نفسها التي استغلت فضيلة الديمقراطية التي سمح لهم بها الحاكم السابق، والذي أطيح به في مؤامرة وخديعة وقدموا حوادث أقل بكثير مما تحدث الآن في تحريض إعلامي مبالغ فيه على أنها مبررات تحتم الإطاحة بالحاكم والانقلاب عليه!!، هي يا سادة كارثة الكيل بمكيالين ونتيجتها ابتلاء الوطن بالأمراض التي تفرضها الأغراض الحقيرة والمستفيدة وشهوات أصحاب المصالح الضيقة.

يرونه بعيداً ونراه قريباً

يقول الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر إن الإمام أو الخليفة أو الأمير العام واحد من عامة الناس تولي منصبه وهو رعاية شؤونهم. فهو وكيل عن الأمة ونائب عنها في تحقيق مصلحتها. وفي الوقت نفسه ليس معصوماً عن الخطأ ولا مفوضاً من الله أن يفعل ما يشاء.
فمن حق الشعب أن يعزله إذ لم يقم بواجبه، ومن حقهم أن يرقبوا تصرفاته ويوجهوه إلى الخير.

وأتفق مع إمامنا الراحل في هذا التعريف الذي لم يلاق الطريق الصحيح عند التطبيق حتى بعد أول ثورة شعبية خالصة عام 2011 فما حدث أن أصحاب المصالح المندسين وسط الشعب استخدموا من هذا التعريف حق عزل الحاكم الذي كان يحاول القيام بوجباته دون أي مراقبة بتصرفاته أو توجيهه للخير، وعجلوا بقرار الإطاحة به دون إعطاء المساحة الكافية للاختبار ونصبوا حاكما أعلن منذ اللحظة الأولى أنه غير مسؤول عن تحقيق أي مصالح لهذا الشعب بل وتوعدهم بالفقر ومزيد من الهموم والأزمات التي وصلت بالبلد إلى أعلى مراحل الانهيار، وفي نفس الوقت حجب عن الشعب حقه في عزل الحاكم الذي لم يقم بواجبه.

ربما كشفت عن أزمة وورطة شديدة تحيط بالشعب المصري، ولكنها إشارة إلى أن الحل لن يكون إلا في اعتبار أن ما حدث ردة في مرحلة من ثورة مستمرة لم تكتمل حلقاتها بعد، ولكنها حتما ستكتمل في يوم قد يرونه بعيداً ونراه قريباً.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه