أفق الإسلام السياسي أمام المسألة الاجتماعية؟

د. نور الدين العلوي*

سيبدو السؤال غريبا لمن عاش طويلا على مقولة “الإسلام هو الحل” إذ لا فاصل عنده بين الإسلام والسياسة والاجتماع فالكل واحد في تعدد متداخل ينقصه التحديد المنهجي. لذلك فالسؤال المثير للريبة سيتم الرد عليه بقين جاهز “الإسلام حل شامل” لكن السائل يحتفظ بحقه في السؤال ؟ هل الإسلام السياسي مشروع له معنى لذاته أم أنه في غياب مشروع اجتماعي يفقد الإسلام السياسي معناه؟ ومصدر هذا السؤال/ المفاضلة الآن وهنا هو النتيجة التي أفضت إليها تجارب الإسلام السياسي الذي وصل إلى الحكم وخاصة بعد تجربتي الإخوان في مصر وحزب النهضة في تونس بعد ثورات الربيع العربي. ورغم أن هذا الأمر سيستدعي أطروحات بحث في قادم الزمن إلا أنه لا بأس من وضع بعض الفرضيات الأولى عسى أن تكون لنا عودة  أوسع واشمل بعد اختمار القراءة.
صدمة نابليون في مصر أيقظت موات الوعي وطرحت السؤال الإشكالي عن سبب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم. وهو سؤال يعيد الخيال إلى الحروب الصليبية لكنه قبل الظفر بإجابة شافية ومشروع تحرر ونهضة حضارية وجدت أمة العرب والإسلام نفسها ترزح تحت الاحتلال الغربي المباشر فتعمق سؤال الهوية وتشابك مع مشروع التحرر السياسي وخاصة بعد إسقاط الخلافة الرمزية الجامعة. الرد الأقرب إلى القلوب قبل العقول كان الإسلام هو الحل. وكان الوازع الديني محركا  قويًّا لمعركة التحرر الوطني من الاستعمار. لكن حصول الأمة على استقلالها السيادي الشكلي ولو تحت ظل التجزئة القطرية طرح حلول التنمية والتحرر الاقتصادي (كيف نعيش) وركن سؤال الهوية(من نحن). اتجهت الدويلات الحديثة إلى بناء مشروع اقتصادي واجتماعي بوسيلة السياسة وحدها فوقعت في إنتاج تقاليد الحكم السلطاني القديمة في نفس الوقت الذي كانت مشاريعها التنموية المزعومة تفشل وينفض الناس من حولها بحثا عن حلول فردية منها الهجرات العشوائية للغرب المستعمر السابق الذي كان عدوا فصار ملجأ مما ضاعف من حدة سؤال الهوية دون الظفر بإجابة منهية للسؤال الهوياتي.فصب ذلك في خانة الإسلام السياسي العائد بقوة بعد هزيمة67.

فلسطين المحتلة مثير إضافي لسؤال الهوية.
الاحتلال المباشر لقطعة من قلب الوطن حرضت سؤال الهوية بقوة. وفي نفس الوقت الذي كانت الأنظمة تناور مع العدو لحفظ بقائها بخدمته من وراء ستار محاربته الكاذبة. كان الناس يرون كل الحلول السياسية تسقط في وحل المناورة ويتوسع المحتل على الأرض والمقدسات. فدفع ذلك إلى المزيد من توسيع وإعادة تدوير سؤال الهوية فصار التحرر سؤالا دينيا إذ صنف مشروع جهاد في سبيل يُؤْجَر بالجنة في المعاد أو بوطن حر في الحياة الدنيا. 
لكن هذا الربط سمح في نفس الوقت بتأجيل السؤال الاجتماعي. والذين طرحوا التحرر الاقتصادي والتنمية قبل تحرير الأرض المحتلة من خارج منظومة الهوية أولا لم يفلحوا في تقديم الإجابة بحكم وجود الاحتلال نفسه. وهكذا وجد الإسلام السياسي نفسه يقود معركة التحرر ويحدث ثغرات متتالية في قوة العدو من جنوب لبنان ومن غزة. ويثخن في الاحتلال المتتالي في أفغانستان وفي غيرها. وكانت كل حرب تزين شعار الإسلام هو الحل ويريح من سؤال كيف يكون المواطن المسلم في دولته. هل يكفي أن يكون مجاهدا متعبدا ؟ ألا يجب أن يكون غنيا ومستقرا يعرف طرق الرفاه المادي وإمكانياته؟  هذا السؤال الذي طرحته وعجزت دونه الحركات العلمانية بعد أن اجتنبت بدورها سؤال الهوية الذي يحرجها.
لقد كان التطرف  في سؤال الهوية  الذي أنتج الإسلام المسلح  أكبر هروب مقصود ومدفوع  بعيدا عن لإجابة  عن السؤال الاجتماعي بشكل يشكك فعلا في نوايا  محرضيه. إذ أن نتيجة الظاهرة  هي صرف الجهد إلى حرب غبية  نتيجتها الأبرز هي إنقاذ الأنظمة  التي يقوم ضدها.بتحويلها إلى أنظمة مدافعة عن شرعية بقاء المجتمعات نفسها.
الربيع العربي وضع الإسلام السياسي أمام ضرورة الإجابة عن السؤال الاجتماعي.
وصل ممثلو الإسلام السياسي للسلطة بالطرق الديمقراطية. وواجهوا اشتراطات الحكم في أعقاب ثورات اجتماعية بالأساس فهل أفلحوا في الإجابة عن السؤال الاجتماعي؟ سنجد للتجربتين الكثير من الأعذار بأن الحكم في مرحلة انتقالية ليس كافيا ولم يكن والواقع الدولي موافقا مما جعل الاختبار صعبا والنجاح مستحيلا في مرحلة ضيقة لكن العذر لا يمنع من طرح السؤال عن الفكرة القائدة لأن من شروط النجاح حسن التفكر.
اعتقد أن المعضلة التي عاينها الإسلام السياسي وسيقع فيها دائما هي غياب الجواب العملي عن السؤال الاجتماعي وأعني به إيجاد الحلول الشرعية (إن شاء الفتوى) والعملية (إن شاء التنظير) للمعاناة الاجتماعية التي ترزح تحتها الشعوب العربية دون تفضيل.(مشروع تحرير الإنسان من الحاجة).
لقد وقع الإسلام السياسي بصيغته بالاخوانية خاصة  في التبرير و غطي بنص ديني مسالة التبعية ضمن  نطاق الليبرالية الطرفية التابعة للمركز العولمي المتحرك وروج لخطاب تحفيز الاستثمار  ولم يختلف في هذا عن الأنظمة التي أسقطتها الثورات.
لستر هذه العورة ذلك  أخلاقيا  سمعنا الخطاب القائم على أن إصلاح المجتمع هو أولا إصلاح أخلاقي فإذا صلحت الأخلاق صلحت بقية المسارات بما في ذلك نهاية الفساد الاقتصادي الذي ينخر المجتمعات وهذا في اعتقادي مدخل مغلوط. الحلول ليست تربوية فردية وإن كانت التربية  مثير جيدا للعمل والتنظيم. لكن هناك مسائل أخرى تتعلق أساسا بالمسألة الاجتماعية هي بوابات الحل الحقيقي وهذه ليس فيها فتوى ولا نص مقدس بل اجتهاد على قاعدة من الاقتصاد السياسي للتنمية والتحرر في سياق عولمي متوحش. ولهذا السؤال تفريعات كثيرة ذات طبيعة وضعية تفرض الاجتهاد على قاعدة غير دينية (نصية)
منها ما يتعلق بحق الملكية المقدس شرعا والذي دخلت منه الرساميل المحلية والأجنبية إلى تكديس ثروات  أنتجت فوارق اجتماعية تكسر كل احتمال للتربية على القناعة  لدى المفقرين. فلا يمكن مواجهة الملكية  الفاحشة بحسن خلق القناعة والرضا.(هذه تجربة كنسية  واجه بها الإقطاع فقراءه معتمدا على الكنيسة) وقد ولى زمنها.
ومنها ما يتعلق بشرعية ربط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد العالمي وهل يسمح ذلك ببناء اقتصاد يستجيب لحالة الفقر العامة ويعالجها دون إذلال ولا تبعية.وهذه بدورها بوابة لعودة سؤال الهوية ضمن السؤال التنموي وليس ضمن أفق إجابة جهادية تتكفل بتحرير الأرض فقط. بل تحرير الإنسان في وطنه من عدو خارجي ومن عميل داخلي يشتغل مناولا للمستعمر.
ومنها سؤال عن حكمة اقتصاد الاستهلاك التفاخري وكيف نحد من الفوارق التفاخرية دون إلزام أخلاقي تربوي. بوسائل الاقتصاد الاجتماعي وحدها.انطلاقا من المجتمع ليس فقط مجتمع المؤمنين بل هو بالأساس مجتمع غير المؤمنين المُشَكَّلِ من طبقات اجتماعية متمايزة ومتناحرة على المنفعة.
يتسع السؤال ليشمل قضايا الأسرة والمرأة والحرية والعلاقات الاجتماعية وهل يمكن بعد إلزامها بنص ديني ولد في لحظة تاريخية تجاوزتها التطورات الاجتماعية؟ هل لا يزال التنظيم الاجتماعي على أساس  الوجوب الديني للزواج حلا لمشكلة الحريات الجنسية ومشكلة تأخر سن الزواج في مجتمع يقوم على الحق في العمل  للجنسين لا على واجب القوامة الذكورية.
المشروع التربوي الإسلامي لم يعد يجيب على السؤال الاجتماعي.
الحل ليس في الصدقات والإحسان والوعد برضا الغيب على المحسنين. فالمسألة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة متشعبة ومعقدة وقد تطورت وتعقدت في ظل المجتمع الرأسمالي،خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين وهي الفترة التي عاشتها تنظيمات الإسلام السياسي مدافعة عن وجودها المادي البشري في الحد الأدنى. بما عزلها عن هذه الأحداث والتعقيدات والتنظيرات التي كأنما كانت تتم في عالم آخر فلم تنشغل بها ولم يجد لها مفكرو التيارات الإسلامية الحلول لا النظرية ولا الفقهية الملائمة لها. بما جعل ممثلي الإسلام السياسي  يفيقون صبيحة الربيع العربي وهم في السلطة وليس بين أيديهم حلول ولا حتى أفكار أولية يمكن البناء عليها حول كيفية الرد على أسئلة فلسفية وفكرية واقتصادية شديدة التعقيد ولها مرجعيات متعددة تعرضت بدورها إلى تحديث متواصل بما جعل الرد على صيغها الأخيرة ملزم بتتبع نشأتها التاريخية لمعرفة سبل انبثاقها وتطورها وحداثتها وما بعد حداثتها. فهناك أنجزت الأبحاث ووجدت الحلول على أسس من القانون الوضعي الذي أنتج حلولا لأعقد المسائل دون مرجعية دينية وإنما بمرجعية ديمقراطية وضعية وهو ما لا يتمتع به تيار الإسلام السياسي الذي أعيد بسرعة ونتيجة لضعفه وغياب برامجه وحلوله إلى وضعية الدفاع عن جسده . 
هل إلى خروج من سبيل ؟
أن يتوقف الإسلام السياسي عن وعظ الناس بحسن الخلق وأن ينشغل بتنظير المسألة الاجتماعية على أساس مكتسبات المجتمع الحديث طبقا لقوانين نسميها دنيوية أو وضعية لا نظير لها في النص الديني لأنه نص ما قبل المجتمع الحديث. أي أن يخرج من محشر سؤال الهوية أولا إلى معمعان المعركة حول الاجتماعي بشروط الاجتماعي الحديث في مجتمع معولم ورغم أن معركة تحرير الأرض ليست ناجزة فإن البقاء في دائرتها سيفتح على صباح آخر بلا برنامج ليوم الغد.
ماذا سيبقى من الإسلام السياسي إذا انشغل بالمسألة الاجتماعية بشروطها الوضعية. وتوازناتها الداخلية(الطبقات الاجتماعية في صراعها الدائم) والدولية (اقتصاد دولي معولم) هل سنواصل تصنيفه في خانة الحركات الدينية الأصولية بقطع النظر عن درجة تمسكها بحرفية النص؟ أم سنؤسس للحديث عن إسلام اجتماعي وما هي الجدوى والفاعلية لوصف تيار اجتماعي بالإسلام إذا كانت أولوياته اجتماعية قبل هوياتية. هذا أفق تفكير وليس أجوبة تامة واثقة من نفسها. أعتقد أن الخليفة الأموي الذي عرب الديوان الفارسي (الإدارة) قد وجد نفسه أمام معضلة  مماثلة.

______________________

*أستاذ علم الاجتماع وكاتب تونسي 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه