أغاني الحشيش والمكايدة السياسية

 

الهوجة السائدة في مصر وفي نقابة الموسيقيين حول أغنية تم فيها ذكر الحشيش، لا تتناسب إطلاقا مع السياق العام والتدهور في الأوساط الغنائية والفنية في مصر، وخاصة ما استتبعها من مبالغات في الثورة المفاجئة على ما أطلق عليهم مغنيين المهرجانات، بدعوة وقوف النقابة والدولة ضد الإسفاف والنهوض بالذوق العام.

في البداية أحب أن أشير إلى أن الدولة ليس دورها النهوض بالذوق العام ،وإنما دورها تهيئة الظروف المعيشية لحياة ملائمة كريمة تفرز بحكم استوائها ذوقا عاما راقيا، ومن الطبيعي أيضا أن المجتمعات الفقيرة، المرتبكة الواقعة تحت ضغط القمع والاستبداد والفساد، تفرز منتجا فنيا ردئا.

أنا متفهم تماما هذه الحالة الغارق فيها النظام الحاكم المصري، ويحاول بسببها نشر مشاهد في كافة المجالات تثير حالة من الاستنفار الوطني المجتمعي، ويبث أوهاماً بأن هناك حروبا طاحنة يخوضها النظام من أجل المجتمع ويحقق فيها انتصارات وبطولات. فهو نظام فقير في إنجازاته على الصعيد الداخلي وفاشل وعلى المستوى الخارجي، هو نظام تخلى عن دوره في حماية الأرض وفرط فيها، وتحالف مع الأعداء التاريخيين للوطن، ولهذا لا يجد ما يقدمه إلى الشعب على أنه إنجازات سوى معارك زائفة وانتصارات وهمية، مثل مشهد معركة الدولة السينمائية مع فيروس كورونا، ومشاهد إعادة المصريين من الصين واستقبالهم وتكريم طاقم الطائرة الذي احضرهم، وكأنهم أسرى مخطوفون تم تحريرهم من يد الأعداء، وهو المشهد الذي أطلقت عليه وزيرة الصحة « العائدون من يووهان!!.

الإلهاء

ومن هذه المشاهد أيضا التغطيات الإعلامية المبالغ فيها التي تتناول قضايا محاربة الفساد وتقديم العديد من صغار الفاسدين كبش فداء يلهي الرأي العام بينما هناك فساد أكبر وأخطر ينخر في جسد الوطن ومنه ما كشف عنه الصراع بين المقاول محمد علي والنظام.

وأيضا ضمن التخطيط الإعلامي الهادف لإلهاء الشعب عن البحث عن مخرج لأزمته، أو مواجهة النظام بثورة من أجل التغيير، هذه المعارك المشتعلة تحت راية الحفاظ على الذوق العام والارتقاء بمستوى الفن.

الذوق العام ليس منتجا ماديا يتم تصنيعه بقرار رسمي أو قوانين وإنما هو انعكاس لثقافة شعب تتأثر صعودا وهبوطا بالحالة المعيشية للمجتمع اقتصاديا واجتماعيا.

فمثلا من الصعب أن تجد في تقسيمة جمهور السيمفونيات العالمية الطبقية من هم من الفقراء والمعدمين، إلا من رحم ربي وقفز إلى هذه المكانة بحكم طفرة ثقافية خاصة، وهم قلة، أو تجد في المجتمعات ذات الأصول الطبقية الثرية من يهتم أو يردد أغاني هابطة مثل حجرين ع الشيشة وحاشرب حشيش، ويا حبشتكا يا حبشتكا، إلا من الصاعدين بثراء مفاجئ من معسكر الفساد، وهم كثر في المجتمعات المحكومة بأنظمة فاشية فاسدة.

السياق العام هو الحاكم

كما أريد أن أوضح لحضراتكم أن كلمات الأغاني أو موضوعاتها ليست فسقا أو فجورا بحكم تجميع حروفها أو معناها الدارج، وإنما تختلف المعاني بحسب السياق الذي تم فيه تداول كلمات الأغنية والهدف منها.

فعلى سبيل المثال كلمات الحشيش والخمور التي دارت بشأنها معركة الذوق العام بقيادة هاني شاكر نقيب الموسيقيين، تم استخدامها كثيرا في الفلكلور الغنائي المصري ولا يشعر المجتمع بأنها إسفاف أو انعكاس لانهيار الذوق العام، ففي أغنية «التحفجية» لسيد درويش يقول:

دا الكيف مزاجه إذا تسلطن اخوك ساعتها يحن شوقا

الى حشيش بيتي نيتي نيشي اسأل مجرب زي حالاتي

حشاش إراري يسفخ يوماتي

خمسين جرايه ستين سبعين.

وهي كلمات تتجاوز كلمات أغنية الحشيش التي ثارت عليها الهوجة، وهذا لا يعني أنني اتهم الراحل سيد درويش بالإسفاف بل على العكس هي كلمات جاءت متسقة مع سياق الأغنية وظروف المجتمع آنذاك حيث كانت النخبة السياسية والفنية تسعى لحشد الشعب لمساندة ثورة 1919 ومواجهة العدو الإنجليزي، حيث كانت أحد الأزمات التي تواجه المجتمع آنذاك انتشار الحشيش وكان يروجه الإنجليز بهدف تغييب المجتمع والسيطرة عليه، وفي هذه الظروف ظهرت أغنية سيد درويش وفي مقدمتها هذه الكلمات التي ذكرتها، لتصل لآخر الأغنية وفيها يقول:

يحرم علينا شربك ياجوزة روحي وانت طالقة مالكيشي عوزة

دي مصر عايزه جماعة فايقين يا مرحب

كيد الحاكم

والحقيقة أن استخدام رجال الحكومة شماعة الارتقاء بالذوق العام وتحويلها لأداة في الصراع والمكايدة السياسية هو أمر قديم، ففي عام 1950 ظهرت أغنية للراحل فريد الأطرش ألقاها في أحد أفلامه تحت عنوان «يا عوازل فلفوا»، تقول في مطلعها «ما قال لي وقلت له ومال لي وملت له وجاني ورحت له يا عوازل فلفلوا»

فتدخل رئيس الوزراء آنذاك مصطفى باشا النحاس لإيقاف الأغنية باعتبار أن كلماتها هابطة ومنافية للذوق العام! رغم أن هذه الفترة شهدت العديد من الأغاني العامية الشعبية في مستوى كلمات هذه الأغنية ومنها أغنية عبد العزيز محمود في مشهد من فيلم يغني فيه لشبشب محبوبته ويقول « يا شبشب الهنا قلوبنا فرشتك يا ريتني كنت أنا ووقعت وقعتك»، ومن قبلها أغاني الفلكلور التي ظلت منتشرة حتى هذه الفترة بل إلى الآن مثل أغنية «الصهبجية» لسيد درويش يقول فيها « أنا وحبيبي روحين في زكيبة يتعلموا منا الحبِيبة أما العوازل جتها رزية يا صهبجية»، ولم يعترض « النحاس»، ولكن كما يقول المثل إذا عٌرف السبب بطُل العجب، حيث كشف بعض المؤرخين أن موقف مصطفى النحاس من كلمات أغنية يا عوازل فلفلو راجع إلى صراعه مع على ماهر على كرسي الوزراء، واقتراب على ماهر من الملك الذي كان يكره «النحاس» وكان يعتبره مفروضا عليه من الشعب بحكم ضغط الأغلبية، فقام البعض بالإيعاز للنحاس بأن هذه الأغنية يتم إذاعتها وقت لقاءات على ماهر بالملك نكاية وكيدا في مصطفى النحاس، مما جعله يصدر قراره بوقف إذاعة الأغنية.

الشاهد يا حضرات أن الأصل في الإبداع الفني هو استقلاله عن هيمنة الحكومات والنظم الحاكمة ، التي لا ترى في الفن سوى الاستخدام النفعي لها وللترويج للحكام مثل الأغاني الهابطة التي كانت تذاع في الانتخابات الرئاسية، وأن الضمان الوحيد للذوق الفني ورقيه هو اتساقه مع الذوق العام وخضوعه لمعايير يضعها المجتمع والشعب، بشرط أن يكون شعبا حرا يعيش في مجتمع تتوافر فيها الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

والشاهد أيضا أن كل الحروب والبطولات الوهمية التي يفرضها النظام على الشعب باعتبارها إنجازات، لن تجدي مع شعب يعاني من الظلم والفساد والقمع والفقر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه