أشرف نعالوة وصالح البرغوثي .. وشبابُ الثّورات الكافرون بالوطن

 

•    في حضرة الكلمة والدّم

تنحسرُ اللّغةُ أمام الدّم، وتجثو البلاغة أمام الشّهداء، وتتلفّع الكلمات بالصّمت الحييّ أمام هيبةِ البطولة الفذّة.
ماذا عساها تنفعُ الكلماتُ أمام حرارة الدّم المنساب على الأرض شاهدَ عدلٍ لا يُكذَّب، وماحلًا مُصَدَّقًا؟ 
لكنّها ـ أي الكلمات ـ زادُ الطّالبين، ومنارة المسترشدين، ودليل الحيارى الذي يفصح عن رسائل الدّم، وتوضّح السّبيل فالكلمة صنو الدّم يناديان معًا: من هنا الطّريق.
وفي هذا اليوم الذي يفوح مسك الّشهادة في أنحاء فلسطين من الشّابين الجميلين أشرف نعالوة وصالح البرغوثي اللذين دوّخا العدوّ الصّهيوني، وأظهرا عجزه أمامهما وهو الذي يستعلي بوقاحةٍ على أنظمةٍ تملك جيوشًا وعتادًا، وأحدهما ما يزال في الثّالثة والعشرين من عمره بينما صالح لم يجاوز التّاسعة والعشرين.
أشرف وصالح يغادران هذه الدّنيا تاركَين وراءهما الكثير من الدّروس والرّسائل؛ فطوبى لمن التقطها، وطوبى لمن اتّخذهما معلّمًا، ولعلّ أولى من ينبغي عليه ثني ركبه في حضرة هذين الشّهدين الجبلين الأشمين هم الشّباب الباحث عن الحقّ في زمن الباطل، والشّباب الباحث عن الرّشد في زمن التّيه، والشّباب صاحب القضايا العادلة في زمن المواجهة مع الباطل المستعلي، والشّباب الذين كفروا بالأوطان سرًّا أو علانيةً تحت ذرائع ومسوّغات شتّى 

 

•    لماذا كفروا بأوطانهم؟!

أمران يدفعان الشّباب إلى إعلان أو استبطان الكفر بأوطانهم؛ الأوّل هو استعلاءُ المحتلّ أو المستبدّ المجرم وإغلاق الأبواب في وجه التغيير، ومعاينة تكالب العالم ومساندته للمجرم مما يفجّر شعور اللّاجدوى من العمل، وقد تعاظم هذا الشّعور عقب جولة الثّورة المضادة التي أصابت الكثير من الشّباب الطامح للتغيير بالإحباط والانتكاس
والأمر الثّاني هو انتهازية بعض حملة هذه القضايا العادلة والمنافحين عنها، وهؤلاء الانتهازيون في كثير من الأحيان يتصدّرون المشهد ممّا يجعل ثلّةً من الشّباب يتراجعون خطوة إلى الوراء ويقرّرون الانكفاء على الذّات، لشعورهم الضّمني بأنَّ هذه الأوطان التي تقدّم هؤلاء وتصدّرهم لا تستحقّ التّضحية والبذل والعطاء.

 

•    اغتيال الوطن والاستقالة من القضيّة

وهنا يتقدّم خطابٌ على وسائل التّواصل يعلن فيه شبابٌ ممن عرفتهم ساحات البذل يومًا كفرهم بهذه الأوطان التي ما فتئت تقسو عليهم وتسلبهم أعمارهم دون ثمرةٍ ملموسةٍ أو نتائج مرتجاة؛ فيلقي كثيرٌ من الشّباب الحبل على الغارب ويقرّرون اغتيال أوطانهم بالسّفر كما قال نزار قبّاني يومًا:
قرّرتُ
يا وطني اغتيالَكَ بالسفَرْ
وحجزتُ تذكرتي 
وودّعتُ السّنابلَ، والجداولَ، والشَّجرْ
وأخذتُ في جيبي تصاويرَ الحقولِ 
أخذتُ إمضاءَ القمرْ
وأخذتُ وجهَ حبيبتي
وأخذتُ رائحةَ المطرْ 
قلبي عليكَ .. وأنتَ يا وطني تنامُ على حَجَرْ

فهذه الأوطان القاسية التي تمكّن للانتهازيين، والتي لا يجد فيها الشّباب أنفسهم ولا ذواتهم تستحقّ اغتيالها بالسّفر.
والأخطر من ذلك أن يقرّر هؤلاء الشّباب في ردّة فعل عنيفةٍ علنيّة أو سريّةٍ الاستقالة من القضايا التي يحملونَها؛ فيلتفتون إلى أنفسهم بالكليّة ويقنعون ذواتهم أنّهم أوفوا الكيل وبذلوا بالصّاع الوافي، وأنَّ عليهم الآن التفكير بمستقبلهم وبناء حياتهم وعدم الانشغال بما لم يعد له قيمة في ظل غياب أيّ أفق أو جدوى.
وعلى قَدَرٍ تأتي دماء أشرف نعالوة وصالح البرغوثي ليقولا لكلّ من يعيشُ هذا المعنى قرارًا وسلوكًا، ولكلّ من تتصارع في نفسه هذه الأفكار كلّما نظر إلى الواقع المحبط من حولِه: 
ويحكم أفيقوا، هل رأيتم أقسى من حال أهل الضّفة الرّازحة تحت احتلال يملك من الإمكانات الاستخبارية ما لا تملكه أكثر جيوش العالم اليوم؛ فما أرهبَ هذا ولا فتّ في عضد الشّابين العشرينيين التوّاقين إلى الحياة؛ ولكن إلى حياةٍ كالحياة، لا هوان فيها ولا استخذاء ولا استجداء.
وهل رأيتم انتهازيًّا أعظم من السلطة التي تتربّع على صدر الضفة باسم النّضال، وتطارد المقاومين باسم النّضال، وتنسّق مع العدوّ باسم النّضال؟!
لو كان الاستقالة من هموم الأوطان وقضاياه تُبرَّرُ لأحدٍ لكانت مبرّرةً لهؤلاء الذين يعيشون أقسى صنوف المستحيل، ومع ذلك حطّموا سلاسل المحال ليغدو واقعًا، وكانت الوجهة عند هذين القمرين واضحة، والقصدُ عاليًا كالشّمس في رابعة النّهار، فلم يقيلا ولم يستقيلا، وكان الدّربُ المعبّد بالدّم أمامهما واضحةٌ نهايتُه، ومع ذلك خاضاه هما وكلّ من ساندهم في التّخفي والتّنقّل والإيواء.
ضاقت بهما الأرض بما رحبت، ولكنّ أوطانهما كانت هي الصّدر الحاني رغم كلّ الغرباء الجاثمين على روحها، وكانا قادرَين على التفريق بينَ الوطن وبين الغزاة والطّغاة والانتهازيين، وكانا يزدادان إيمانًا أنَّ أمّهم الأرض تستحقّ منهما تخليصها من كلّ هذه القسوة ومن كلّ هؤلاء القساة الذين لا يرقبون فيها إلًّا ولا ذمّة.
ورغم كلّ ما يريانه من متسلقين ومارقين باسم النّضال فما فكّرا بالاستقالة من حمل القضايا، فالعمل للقضايا العادلة ليس وظيفةً يستقيل منها المرء حين التّعب، بل هو القضاء المحتوم والقدَر الملازم الذي لا انفكاك عنه عند مَن يرون مواجهةَ الظلم والطغيان عنوان الكرامة التي لا يقبلون بأدنى منها للحياة على هذه الأرض.

 

•    مزايدات نرجسيّة فرعونيّة 

ومن صورِ الكفرِ بالأوطان أن يأتيكَ من بذل في سبيلِ قضيّته العادلة فيصرعُ الدُّنيا بإنجازاته الباهرة وأعمالِه الثَّوريَّة الفذَّة، فهو الصَّرخةُ الأولى في ‏ساحاتِ الحريَّة، وهوَ قائدُ المظاهرةِ الأولى في ميادينِ البطولة، ورائدُ التَّخطيط الأوَّل ‏لإِنجاح الثَّورة، والمطارَدُ الأوَّل في دروبِ آلامها، والإعلاميُّ الأوّلُ في نقل صوت الحقّ ‏والحريَّة، وهو الرَّصاصة الأولى في وجه الطَّاغية، ولولاه ما قامت للثَّورة قائمةٌ ولا عَلا لها ‏صوت ولا رُئِيَت لها صورةٌ ولا سارَ بها ركبٌ، ومع ذلكَ لا ضيرَ عندهُ أن يضحيَ ‏بالثَّورةِ والوطنِ وكلّ شيءٍ ليبقى هوَ الأوَّلُ في مديحِ المادحينَ، والرَّائدُ في مواطنِ الفخرِ‏‏!!‏
هؤلاء المتمحورون حول ذواتهم النّرجسيّة، والذين لا يرون إلَّا أنفسهم، لا يؤمنون لا بأوطانٍ ولا قضايا، بل يؤمنون بذواتهم الضّيّقة، فهي عندهم فوق كلّ قضيّة وأعلى من كلّ وطن.
وتأتي دماء أشرف نعالوة وصالح البرغوثي لتصفع هذا الصّنف من النّاس؛ فهم المُطَارَدون الذين ما كلّت عزائمهم، وهم الذين بذلوا كابرًا عن كابرٍ فما ازدادوا ببذلهم إلَّا تواضعًا
فها هي أمّ الشّهيد أشرف تجلس في زنزانتها بسجن الدامون ووالده في غرفته في سجن مجدو يستقبلان التّهاني باستشهاد ابنهم أشرف بعد أكثر من شهرين مُغمّسَين بالصّبر الذي يلين له الحديد وتخضع أمامه الجبال الرّاسيات، ولم نسمع منه ولا منهم مزايدة واحدة في بذلٍ ولا تضحية.
وكذلك الشّهيد صالح هو من عائلةٍ ما زالت تبذل وتضحّي، فوالده عمر أسيرٌ محرّر قضى في سجون الاحتلال أكثر من عشرين سنة، وعمّه نائل أقدم أسيرٍ فلسطيني ما زال في زنازين الاحتلال منذ أكثر من ست وثلاثين سنة، وخاله جاسر البرغوثي أسير محرّر مبعد إلى غزّة كان محكومًا بسبع مؤبّدات، والقائمة تطول من أبناء عمومته من الشّهداء والأسرى، ومع ذلك لم يقرّر الاستقالة متّكئًا على هذا الإرث العظيم من النّضال، وما سمعنا منه يومًا ولا من أحد من أسرته مزايدةً فيما بذلوا وضحّوا.
بل لم يسمع بهما الكثيرون إلَّا بعد استشهادهما؛ فطوبى للذين يعلنهم دمهم، وطوبى للذين تعرّفنا بهم الشّهادة، طوبى للمؤمنين بقضاياهم، المنتمين إلى الأرض التي مهما حاول الطّغاة والغزاة تنفيرهم منها ازدادوا عليها إقبالًا ولها حبًا وعطاءً. 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه