أشرار السينما

شغلت فكرة الحدود الطبيعية للدول أذهان الجغرافيين والمستكشفين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانشغلوا بفكرة اكتشاف أراضٍ مجهولة، ومناطق نفوذ، ومناطق دفاع أمامية بما يشكّل خط حماية لتلك الدول.. ولم يقتصر ذلك الانشغال على هؤلاء فقد صار الشغل الشاغل للصحفيين وكتّاب السياسة الذين صدّروا صوراً جديدة للشر والخير عبر شخصيات “آكلي لحوم البشر الشريرين” و “المتوحشين الطيبين”. 
اقتران التوحش بالطيبة أمر ينافي الإحساس السليم للبشر لكنّ الآلة الإعلامية الغربية استطاعت تبسيط الصورة وتقريبها من الأذهان وأصبحت مقبولة ومحبوبة لدى النّاس. استخدمت وسائل عدة لإيصال تلك الصورة عبر المستشرقين الأوائل عن طريق التّصوير الفني، وعن طريق أدب الأطفال “تان تان في الكونغو” و “طرزان في الأدغال”. 
قدّمت تلك الأعمال صورة للشرير طريفة ومقبولة مع ميله أحياناً لفعل الخير وقبوله كأمر معقول! فالصحفي تان تان الذي يذهب إلى الكونغو لاكتشاف تلك المنطقة الأفريقية النائية، يواجهه شخص شرير يتبعه طيلة رحلته ويقوم بعمل مقالب كثيرة تبدو مقبولة وطريفة. 
أمّا الشرير في البعثة الاستكشافية البريطانية التي تكتشف وجود طرزان في الغابة ضمن عائلة الغوريلا فهو شخص طريف أيضاً على الرغم من أفعاله الشريرة التي لا تتوقف طيلة الفيلم.

أفلام الكرتون:

في المسلسل الكرتوني “سنان” الذي شكّل ذاكرة أجيال بقصصه والمفاهيم المبثوثة خلاله، هناك ثلاث شخصيات ظريفة لطيفة هي “شرشور وفرفور وزعبور” الذئب والثعلب والدب، يمثلون الشّخصيات الشّريرة في المسلسل مقابل الشخصية الطيبة “سنان” الأرنب. 
هذه الشخصيات الشريرة التي تقوم بعمل المقالب بسنان وسكّان الغابة هي شخصيات أسّست للطيبة الشّريرة المفهوم الملتبس في أذهان الأطفال.
حتّى سنان يقوم بتصرفات “يبرّرها” المسلسل مما يجعل الأطفال يستسيغون اقتراف الأخطاء لأنّها من صفات شخصياتهم الكرتونية المفضلة. 
الأسد الملك أشهر الأفلام الكرتونية على الإطلاق شاهده الكبار والصغار، شخصية “سكار” العم الشرير الذي يحاول انتزاع السلطة من أخيه ويسعى لقتل ابن أخيه كي يرث هو عرش الغابة. والذي أدّى دوره في النسخة العربية بطريقة فذة الممثل عبد الرحمن أبو زهرة، هو أكثر الشخصيات الشريرة قرباً إلى القلب، كرهه الأطفال وربّما أحبّه بعضهم على الرغم من انحيازهم لسيمبا الشبل الذي سيحكم الغابة بعد موت أبيه.

أشرار السينما المصرية:

كثر الذين جسدوا أدوار الشر في السينما المصرية لكنّ معظمهم كانوا يمتلكون كاريزما قرّبتهم من قلوب الجماهير وجعلت تلك الشخصيات التي جسدوها مقبولة ومحبوبة أحياناً لدرجة أنّنا نستطيع القول إنّها روّجت للشر كأحد أساليب الحياة الضرورية أحياناً، تماماً كما سعت السينما لتجميل وجه اللصوص من خلال فيلم “لصوص ولكن ظرفاء” من بطولة عادل إمام وأحمد مظهر. أمّا القتل فلا شكّ أنّ الجمهور قد تعاطف مع قصة فريد شوقي وشخصيته التي يحبّها حين جسّد دور القاتل في فيلم “جعلوني مجرما”. تلعب حكاية الفيلم وطفولة الشخصية دوراً مؤثراً في انحياز الجمهور للقاتل الذي يتخلّص من آثامه ويرغب في أن يكون إنساناً جيداً وهو ما ينقلنا إلى أهمية مفهوم “التوبة” في مساعدة المجتمع على قبول القاتل كفرد منه. 
الشخصية الشريرة في السينما والتلفزيون الأقدر كانت من نصيب محمود المليجي، فقد عرف المليجي كممثل في أدوار الشر ودوره الوحيد الذي خرج عن خط الشر هو تجسيده لشخصية “محمد أبو سويلم” في فيلم الأرض. مع هذا يبقى المليجي في أذهان الناس ممثلاً عبقرياً محبوباً ولا يمكن أن يقرن بأدواره مهما فعل.

أشرار السينما الأمريكية:

حفلت السينما العالمية وخاصة الأمريكية بالممثلين الذين أدوا أدوار الشر ببراعة، وأوّل تلك الأفلام أفلام الكوبوي التي تقدم البطل الأمريكي الأوّل، الذي يقوم بالقتل والسرقة ونهب البنوك ومع هذا يكون بطلا! المشاهد يدفع ثمن تذكرة للسينما ليشاهد ذلك البطل النموذج الذي يعلّمه كيفية التعامل مع الأشرار، وفي الواقع هو لا يعمل شيئاً مختلفاً عنهم بل يكون أحياناً منهم وفيهم شريرا وقاتلا لكنّه بطل!
لكن السينما الأمريكية لم تواصل تقديم الكوبوي مع التطورات التي حدثت في الواقع تغيرت الصورة وقدّمت السينما الأشرار بصورة مختلفة فكان هناك أشرار ظرفاء خلطوا الكوميديا بالشر وأشرار حقيقيون قدّمتهم السينما لكنها برّرت أفعالهم وتعاطف الجمهور معهم 
منهم الممثل جايسون فورهيس الذي لعب دور قاتل تعاطف معه الجمهور؛ لأنّه يقتل انتقاماً لموت أمّه التي يحبّها، إذن الحبّ يبرر القتل!
وأنجلينا جولي التي مثلت دور الشريرة ماليفسنت في قصة مأخوذة عن الأميرة النائمة، والفيلم الذي يحمل اسم الشخصية نفسها يظهر الحبيب وقد قطع جناحي البطلة فكسر قلبها وجعلها تنتقم، ما فعلته أنجلينا في الفيلم كان مقبولا ومحبباً لدى الجمهور لأنّها فعلته بسبب قص جناحيها وأيضاً كان جمال أنجلينا سبباً في قبول الجمهور لدورها. 

الأشرار والكوميديا 

قدّمت السينما أيضاً الأشرار بصورة كوميدية من خلال ممثلين ظرفاء. ويظهر توفيق الدقن كأحد هؤلاء الأشرار الذين لا يقنعوك بشرّهم بصحبة إسماعيل ياسين في فيلم ابن حميدو حيث يمزج بين الكوميدي والجاد بتناول دور الشرير، ويقوم إسماعيل ياسين بسرقة السمك في بداية الفيلم من ابنة شيخ الصيادين.. ربما الوحيد الذي أقنعني بأدائه لدور الشرير هو المرحوم عادل أدهم فقد كانت ملامحه معبّرة إلى حد الإقناع كما كان المليجي أيضاً.
نستطيع القول إذن إنّ للمنجز الأدبي الذي تحوّل إلى أفلام ومسلسلات كرتونية أو عادية أكبر الأثر في التسويق والترويج لمفاهيم ملتبسة للشر بخلط الأمور وإيجاد التبريرات التي تلعب على وتر العاطفة لتقريبها إلى جمهور المشاهدين.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه