أسئلة الرحيل المُباغت لوزير الدفاع السوداني “الجنرال الغامض” !

لعل رحيل وزير الدفاع السوداني الفريق ركن “جمال عمر” في هذا التوقيت الحرج، والبلاد تقاوم جائحة كورونا قاتلة بإمكانيات متواضعة جداً، وتبادل الاتهامات وسط مكونات قوى الحرية والتغيير الحاكمة، إلى جانب استفحال الأزمات الاقتصادية، وغضب أسر شهداء الثورة السودانية على تطاول أمد التحقيق، والخشية من افلات القاتلة، كلها، تشيء على نحوٍ ما بالانتقال إلى مرحلة جديدة غامضة، لا أحد يعرف بالضبط كيف ستكون !

الساعات الأخيرة

في العاشرة من مساء الثلاثاء بلغ حظر التجوال في العاصمة السودانية الخرطوم ساعته الثانية، وقتها كان الفريق جمال عمر يتأهب لترتيب أوراق التفاوض، في فندق بريمد بالعاصمة الجنوبية جوبا، معبداً الدروب لخطوة مهمة، لم يفصح عنها، لكنه كان يفاوض بثقة في الوصول إلى سلام شامل، كادت أبوابه العصية أن تشرع أخيراً في وجه السودانيين، حتى أن عقبة الترتيبات الأمنية بقت هى العقدة الوحيدة تحت المُنشار .

في تلك الساعة كانت الطيور في عاصمة الجنوب الماطرة قد هجعت، بينما الخرطوم تم تنويمها كطفلة دون عشاء، وقد سرى حظر التجوال على حال من عذابات صفوف الخبز والوقود، وقتها انسل وزير دفاع الحكومة الانتقالية إلى داخل مطعم الفندق، وتناول وجبته الأخيرة وكوب من الشاي بمعية فريق التفاوض، بعد أن ألهم العملية السلمية كل معاني الصبر والتضحيات، لكنه فجأة شعر بألم في معدته، ألم شديد، وطلب من الحرس الذهاب إلى الصديلية واحضار بعض الأدوية.

صخرة سيزيف

 لم يستغرق الأمر وقت طويلاً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، قبل أن يتم اسعافه، ولعل تلك إشارة مُزعجة للذين يعرفون معاناة “جمال عمر” مع مرض السكري والضغط، فكيف لا يتوفر طبيب على مقربة، في فندق ضخم يتواجد فيه قادة الحركات المسلحة والوفد الحكومي، وقد نابهم من طول السهر والتحديق في الملفات رهق وضعف شديد؟

رحل وزير الدفاع مطلع فجر الأربعاء، تحديداً عند الساعة الثانية صباحاً، ولم تتسرب أخبار الوفاة إلا عند الساعة الرابعة فجراً، حيث أطل وقتها “ضيو مطوك” كبير أعضاء الوساطة الجنوبية لمحادثات السلام السودانية وهو ينوء بحملٍ ثقيل، ربما لأنها المرة الأولى التي يرحل فيها ضابط سوداني رفيع أثناء التفاوض، وفي وقتٍ تتجه فيه أنظار العالم إلى جوبا، بإنتظار خبر سعيد، على الأرجح، كان سيضع حداً لمعاناة النازحين في صحراء دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، خبر مثل الاعلان عن اتفاق سلام شامل، نذر له جمال عمر أوقاته، فبدا كمن يحمل “صخرة سيزيف” لبلوغ قمة الجبل، الذي فشلت محاولات كثيرة خلال ثلاثة عقود من عمر النظام السابق في بلوغه، على نحوٍ أخير ونهائي .

أرضاً سلاح

“أرضاً سلاح” كانت تلك الشفرة التي تأبطها وزير الدفاع الراحل، بعد جهد من الحكومة الانتقالية لتحقيق التوافق الشامل مع الحركات المسلحة، أو ما بات يعرف بحركات الكفاح المسلح، حيث تم أكثر من مرة تمديد وقف اطلاق النار من قبل الحكومة والحركات معاً لتسهيل انسياب المساعدات الانسانية للمتضررين من الحرب، والمعزولين بين مناطق نائية، لكنها شفرة سرية انطوت عليها حياة وزير الدفاع ورجل الاستخبارات الغامض، حد أن رحيله أثار عاصفة من الاستفهامات، والشكوك الكبيرة بشأن ملابسات الوفاة، بعيداً عن وطنه وأسرته .

تشريح الجثمان

وهذا غالباً السبب الذي جعل أسرته تطالب بتشريح الجثمان، درءاً للشكوك والشائعات، لكنه وبالرغم من وصول الجثمان ونقله مباشرة تحت تحوطات أمنية عالية إلى مستشفى السلاح الطبي بمدينة أم درمان غرب الخرطوم، لم يتأكد أحد من نتيجة التشريح بتفاصيل أوفى، فقط تسربت معلومات أشارت إلى الوفاة طبيعية، وقد حدثت نتيجة ذبحة صدرية، سيما وأن أمر التشريح صدر من رئيس المجلس السيادي الفريق ركن عبد الفتاح البرهان القائد الأعلى للقوات المسلحة، لسد الذرائع أمام موجة من الشائعات، سرت بالفعل، طوال ساعات النهار، وكانت تبث سيناريوهات مرعبة، خصوصاً وأن جوبا معقل لمخابرات العالم كله، لكنها في النهاية مجرد شائعات يصعب التعامل معها أو تجاهلها أيضاً في زمن الاعلام المفتوح، دون أن تعصف بالسؤال العالق، هل ثمة جهة لديها مصلحة في تغييب وزير الدفاع السوداني في هذا التوقيت تحديداً؟

معادلات الجيش والسُلطة

إنه سؤال يصعب التكهن بشأنه، لكن من المهم الإشارة إلى أن شخصية الفريق جمال عمر تبدو مهمة في معادلات الجيش والسلطة حالياً، فهو مستصعب شديد المراس، أقرب إلى المكون العسكري داخل مجلس السيادة، وجئ به لحراسة وزارة الدفاع بعد عُدة انقلابات فاشلة أعقبت سقوط المشير البشير، وصلت إلى أربعة محاولات انقلابية، بعضها ولغت فيه أصابع خارجية، وقوى سياسية مؤدلجة، كما أنه أيضاً  يُعتبر من أقدم الجنرالات حالياً في الخدمة العسكرية تقريباً، وهي الأقدمية التي أهلته لتولي وزارة الدفاع، في مرحلة انتقالية اختارت فيها القوات المسلحة السودانية الوقوف إلى جانب الشعب والانحياز إلى الثورة المجيدة، وقد أبلى فيها الفريق جمال عمر مع بقية الضباط الكبار في إحكام قبضتهم على السُّلطة عشية ١١ أبريل من العام الماضي، وحراسه مرحلة لا زالت تعتورها مصاعب وتحديات جمة، وتتربص بها المحاور الخارجية، بشكل قد يجهض التجربة الرابعة الديمقراطية التي يتطلع إليها الشعب السوداني.

إبن الجغرافيا المأزومة

ينحدر الراحل من منطقة حجر العسل بولاية نهر النيل، شمال السودان، وهى الولاية التي استأثرت بمعظم حكام السودان، الذين ينتمون إلى الشمال النيلي” إسماعيل الأزهري، محمد أحمد المحجوب، جعفر نميري، الصادق المهدي، عمر البشير، الفريق البرهان” وكذلك كبار قادة الجيش، بشكل أشعل لاحقاً جدلية الهامش والمركز، واستئثار الشمال النيلي بالسُلطة منذ استقلال السودان في منتصف خمسينات القرن المنصرم، وهو نفسه الشعور بالضيم الذي تسبب في انفصال الجنوب، واندلاع الحرب في أطراف البلاد، رغم أن هنالك من يرفض هذه المزاعم.

رفيق البرهان

لكن جمال عمر ينتمي إلى هذه الجغرافيا، المأزومة للمفارقة، بمشاكل حقيقية في التنمية، وظلم طالها حتى من أبنائها في المركز الحاكم، حيث ظل الشمال النيلي بائساً وطارداً، فيما تخرج عمر في الكلية الحربية “مصنع الرجال وعرين الأبطال” في النصف الأخير من القرن المنصرم، وكان ينتسب للدفعة 31، ومن زملائه بالكلية حينها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، ومدير جهاز المخابرات العامة السابق الفريق أبوبكر دمبلاب، وهى الدفعة التي ينتمي إلبها غالب قادة الجيش حالياً، ما يعني أنه تم اختياره بعناية، سيما وقد أنفق وقتاً طويلاً في هيئة الاستخبارات العسكرية حتى مارس 2017 ليتم تكليف الفريق أول مصطفى محمد مصطفى بدلاً منه، وأصبح هو أميناً عاماً لوزارة الدفاع، حيث تربطه علاقات وطيدة مع وزير الدفاع السابق الفريق أول ركن عوض إبن عوف، وعملا معاً في هيئة الاستخبارات لوقت من الزمن، وعند وصوله لرتبة اللواء أُحيل للمعاش بسبب مشاكل مع وزير الدفاع الأشهر الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” وتمت إعادته للخدمة بقرار من عوض إبن عوف رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق، والذي أذاع بيان إزاحة المشير عمر البشير، والتحفظ عليه في مكان آمن، ما يعني أن جمال عمر كان يعاونه في تلك المهمة الخطرة .

 في سبمتبر 2019م تم إعلان الفريق جمال عمر من قبل المكون العسكري بالمجلس السيادي وزيراً للدفاع، ليبقى في الموقع المهم والخطر مع برز كشوفات إقالات متواصلة داخل الجيش، أشبه بإعادة الهيكلة، والتخالص من الأصوات الطامحة في السلطة، أو إبعاد عناصر التنظيم الاسلامي تحديداً، بتوجيهات مباشرة من المحور الإماراتي، كما رشح من معلومات.

تمتع جمال عمر بحس استخباراتي عالٍ، ويعتبر خازن أسرار الجيش خلال خدمته الطويلة الممتازة، والتي وضع لها الموت حداً في جوبا، على نحوٍ مفاجئ ومربك، حتى سياسياً، وبين يدي إنجازٍ جديد، كان سينهي معاناة الشعب السوداني مع الحرب الطويلة أيضاً .

لون استخباراتي

لا أحد يعرف ما هو اللون السياسي للفريق الراحل جمال عمر، لأن عسكريته كانت طاغية على كل شيء، لكن البشير احتفظ به في معقل الاستخبارات الخطير الذي يتم انتقاء الضباط له عن ثقة، وقد ظل منصرفاً عن الأضواء، فهو بالمرة ينتمي للمؤسسة التي ترقى فيها ورشقت كتفه بالنجوم والنياشين، وكان يسعى حتى آخر لحظة في حياته لبناء جيش قومي موحد بعيداً عن الانتماءات السياسية، كما كان يردد، معرباً عن أمله فى أن يكون الجيش الذى يقود البلاد فى المرحلة المقبلة، يمثل كل السودان ويحمي حدوده ويشكل درعاً آمناً، وكان يسعى أيضاً لإكمال ملف الترتيبات الأمنية، على نحوٍ يضمن إخماد صوت لعلعة الرصاص مرة وإلى الأبد .
بعد رحيل الفريق جمال عمر كان السؤال الأكثر تداولاً، من سيخلفه؟ فهى خانة تحتاج إلى ضابط بمواصفات خاصة، وربما تم الدفع بشخصية أقرب إلى مِزاج الفريق البرهان، تحوطاً لأي تحركات عسكرية محتملة، وفي ظل نزاع خفي بين قائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان حميدتي” ومراكز قوى داخل الجيش للسيطرة على مقاليد الأمور. فيا ترى من سيكون بديلاً لعمر؟ وهل سيحافظ الوزير الجديد على الشراكة بين قوى الحرية والتغيير، أم سينقض على الجدار المتهالك؟ خصوصاً بعد تصريحات الفريق صلاح عبد الخالق أحد قادة التغيير، نهار الأربعاء وهجومه على حكومة عبد الله حمدوك بضراوة حد المطالبة بتغييرها ورفض تسليم البشير للمحكمة الجنائية، وتمهيد الأرض لسيناريو غامض أيضاً، يبدو أن أوانه قد حان .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه