أزمة الليرة التركية مقاربة سياسية وحضارية

أردوغان لم يحاول فرض القيم الإسلامية قسرا وجبرا، ولا يزال العلمانيون واللادينيون يتمتعون داخل تركيا بحرية الرأي والتعبير على المستويات كافة.

لست معنيا هنا بالتحليل الاقتصادي لأزمة الليرة التركية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال الفترة الأخيرة، وانعكست تداعياتها على مجمل الأسواق العالمية ولم تقتصر على الداخل التركي فقط.

وفي عالم تسوده الاستقطابات والإيديولوجيات الحادة كان لابد وأن تصطبغ معظم هذه التحليلات بصبغ إيديولوجية واضحة، طمست كثيرا من الحقائق وضيعت على القارئ حقه في المعرفة، لكن هذا لا يمنع من صدور العديد من الدراسات المتزنة والمعمقة التي فصلت مجمل المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد التركي، وكيفية معالجتها لتجاوز الأزمة.

ما أريده هنا هو كيفية فهم وتحليل الأزمة من خلال مقاربتين مختلفتين هما السياسية والحضارية، إذ تأتي أزمة الليرة كجزء من معركة شاملة تخوضها الدولة التركية منذ سنوات طويلة للخروج مما يطلق عليه الرئيس رجب طيب أردوغان الوصاية الخارجية، التي فرضت عليها منذ الانقلاب الذي أطاح بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني وتغلغل التنظيمات السرية المرتبطة بالغرب في بنية الدولة وظلت تنخر في جسد الدولة حتى بعد تأسيس الجمهورية ١٩٢٣.

رغم كل ما تملكه الدولة التركية من مقومات جيواستراتيجية وديموغرافية وتاريخية وثقافية…إلخ إلا أنها ظلت لعقود طويلة حبيسة الأناضول تجتر مرارات الانقلابات المتتالية وتغول العسكري على المدني، وضياع فرص التنمية التي لاحت في الأفق في عهدي الراحلين عدنان مندريس وتورغوت أوزال، إضافة إلى النظام السياسي البرلماني الذي منح الفرصة لظهور الحكومات الائتلافية التي ضاعفت بفشلها الأعباء على كاهل المواطن التركي.

كل هذه الإشكاليات وغيرها واجهها أردوغان وحكوماته المتعاقبة بجرأة ومهارة شديدتين ارتكازا على رؤية واضحة.

من هنا فإن أزمة الليرة التركية لم تكن سوى حلقة من حلقات المواجهة على الصعيدين السياسي والحضاري.

العلاقات التركية الأمريكية من التبعية إلى الندية

يمثل البعد الجيواستراتيجي مدخلا هاما لفهم العلاقات التركية الأمريكية التي تعود بدايتها إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، ثم امتدت إلى عصر الجمهورية وصولا إلى التحالف التام بين الدولتين من خلال حلف شمال الأطلسي الذي انضمت إليه تركيا عام ١٩٥٢، فالموقع الجغرافي الذي تشغله تركيا يمثل قيمة استراتيجية كبيرة لدى الولايات المتحدة، فتركيا تطل على أربعة بحار مهمة هي المتوسط والأسود ومرمرة وإيجه، كما أنها تتحكم في مضيقين مهمين هما الدردنيل والبسفور، ومنح لها موقعها الجغرافي إمكانية التأثير في ثلاث مناطق استراتيجية هي البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، ولا يمكن إهمال قربها من أوربا وشمال أفريقيا وجنوب آسيا.

هذا الثقل الجيواستراتيجي جعل الولايات المتحدة تمنح تركيا أهمية خاصة رغم الاختلاف الثقافي والحضاري وذلك لمواجهة الاتحاد السوفيتي، ورغم انهياره وحلول روسيا محله إلا أن ذلك لم ينعكس سلبا على المكانة التي تتبوأها تركيا لدى العقل الاستراتيجي الأمريكي.

لكن ورغم كل ذلك فقد حرصت واشنطن على إبقاء تلك العلاقة في إطار التبعية المطلقة لها وعملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة للحيلولة دون إخراج تركيا من ذلك الإطار.

ومع وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى الحكم بدا ثمة تغيير حقيقي يلوح في الأفق في طبيعة علاقة البلدين بناء على الرؤية التي وضعها القادمون الجدد إلى مسرح السياسة التركية والتي مثلت حينها ثورة على المرتكزات التي شكلت السياسية الخارجية التركية لعقود.
ومن أهم تلك المرتكزات الجديدة، إعادة مد حبال الوصل مع العمق الاستراتيجي التقليدي في المنطقة العربية، ومحاولة الرجوع لاعبا إقليميا مهما في منطقة الشرق الأوسط دون التخلي عن فكرة الانضمام للاتحاد الأوربي.
 وكذلك إيجاد مسافات واضحة مع السياسيات الأمريكية في المنطقة بحيث لا تظل تركيا أسيرة التوجهات الأمريكية المتحيزة تجاه قضايا المنطقة التقليدية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كما عمل أردوغان على إعادة تعريف العلاقات التركية الإسرائيلية، والتي تعتبر أهم روافد علاقة أنقرة مع واشنطن.

ويمكن اعتبار المشادة الشهيرة التي شهدها منتدى دافوس عام ٢٠١٠ بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز والتي عرفت بحادثة “ون منيت” تأريخا لتراجع العلاقات التركية الإسرائيلية والتي تراجعت اليوم تراجعا كبيرا، تزامنا مع اتهامات إسرائيلية لتركيا بتمويل حركة حماس والتحذير من سعي تركيا إلى “أسلمة” القدس عبر شراء العديد من المنازل والمؤسسات الأثرية بل وصفت صحيفة ميكور ريشون الإسرائيلية الوجود التركي في القدس بأنه “عش دبابير”

السياسات التركية الاستقلالية تركت خلافا عميقا بينها وبين الولايات المتحدة، وكان واضحا إصرار تركيا على المضي قدما في تحقيق رؤيتها مهما كانت الكلفة وذلك في العديد من الملفات منها:

  • تنفيذ تركيا عملية غصن الزيتون التي استهدفت تحرير مدينة عفرين ونواحيها شمالي سوريا من تنظيم بي كا كا وفروعه السورية، ما أدى إلى إفشال المخطط الأمريكي الذي كان يهدف إلى إقامة دولة انفصالية في الشمال السوري تمتد من القامشلي والحسكة شرقا إلى المتوسط غربا، ورصدت وزارة الدفاع الأمريكية مساعدات عسكرية للتنظيم تجاوزت ٥٠٠ مليون دولار، إضافة إلى مده بشحنات أسلحة ضخمة.
  • إصرار تركيا على الحصول على منظومة الصواريخ الروسية S-400 بعد رفض واشنطن تزويدها بصواريخ باتريوت، ورغم التحذيرات والتهديدات الأمريكية المتتالية لم تصغِ تركيا إليها وأصرت على المضي قدما في تنفيذ الصفقة والتي من المفترض أن تتسلم دفعتها الأولى منتصف العام المقبل.
  • تهديد تركيا بتنفيذ عملية عسكرية في مدينة منبج تستهدف ميليشيات بي كا كا لإجبارها على التراجع شرقي الفرات ما حدا بالولايات المتحدة إزاء الإصرار التركي إلى عقد تفاهم مشترك تم بمقتضاه تسيير دوريات مشتركة في منبج، ورغم تأكيد تركيا قبل عدة أيام انسحاب الميليشيات خارج المدينة إلا أنها مازالت مصرة على تراجعها شرقي الفرات.
  • رفضت تركيا بإصرار واضح الالتزام بالعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وأعلنت بكل وضوح مواصلتها استيراد النفط والغاز منها.
  • إقدام تركيا على إرسال قوات عسكرية إلى قطر مما حال دون إقدام دول الحصار على أي عمل عسكري، ومن المعلوم أن الحصار كان يحظى في الأيام الأولى برضا وموافقة ترمب بصفة خاصة.
  • إصرار تركيا على محاكمة جميع المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة والذين كانوا يمثلون خلية أمريكية مهمة داخل تركيا صنعتها عبر سنوات طويلة، يضاف إليهم القس أندرو برنسون، المتهم بالتجسس لحساب تنظيمي غولن وبي كا كا، وتشجيع المخططات الانفصالية، ورغم لغة الترغيب والتهديد التي ما زالت تستخدمها الإدارة الأمريكية وخاصة ترمب إلا أن الموقف التركي لم يتراجع قيد أنملة وما زال يخضع للإقامة الجبرية في مدينة إزمير، ورفضت المحكمة طلبات عدة لإطلاق سراحه.

من هنا جاءت الضربات الأمريكية لليرة التركية في محاولة لإخضاع تركيا وإرجاعها إلى بيت الطاعة الأمريكي، وإجبارها على الانكفاء على ذاتها للملمة جراحها ومعالجة أوضاعها.

الوجه الحضاري والثقافي للصراع التركي الأمريكي

قبل أيام قال المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض كيفن هاسيت، معلقا على أزمة الليرة: “عندما يفقد بلد ما صلته بالديمقراطية الليبرالية فلا يمكن أن تعلم حقا ماذا سيحدث بعد ذلك للاقتصاد وأعتقد أن هناك الكثير من عدم التيقن.”

لا يمكن تفسير عبارة “هاسيت” بمعناها المباشر خاصة أن تركيا أنهت للتو انتخابات رئاسية وبرلمانية بمشاركة شعبية غير مسبوقة حتى في الديمقراطيات الغربية تجاوزت ٥١ مليون ناخب، وإجراءات شفافة، جعلت منها مثار حديث العالم كله

إذن كيف يمكن قراءة تصريح هاسيت؟ مع ملاحظة أن الإدارة الأمريكية معظمهم ينتمي للتيار الإنجيلي الأصولي.

هنا يجدر بنا أن نعود إلى ما قبل ٢٠٠٢ وهو العام الذي تولي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني منه حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا حتى الآن.

فتركيا ظلت على مدار عشرات السنين ما أطلق عليه صموئيل هنتيغنتون “دولة ممزقة الهوية” إذ ظلت مشدودة بين هويتين أحدهما أصيلة تجذب المواطن التركي إلى مركزه الإسلامي الذي يكون عقيدته وثقافته ومن هذا المركز يطالع تاريخه وأمجاده، وبين هوية أخرى مصطنعة تحاول جذبه بعنف إلى الغرب بقيمه وتصوراته.

وفي فترة التمزق ضاعت الحريات الأساسية، لكن أردوغان نجح في إنهاء ذلك التمزق وإعادة التصالح مع الهوية الإسلامية، عبر  سلسلة من الإجراءات القانونية وأخرى تحفيزية اعتمد فيها على ما يملكه من مهارات وكاريزما.

هذا التصالح الهوياتي يعتبره الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة خطرا داهما في المستقبل؛ خاصة وأن تركيا يُنظر إليها على أنها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي بسطت سيطرتها على العالم لسنوات ونقلت الصراع من الأناضول إلى وسط أوربا، وقد روى لي أكاديمي مصري يقيم في أوربا أنه التقى أحد الأكاديميين النمساويين في فاعلية علمية فقال له الرجل: “لن ننسى لكم أنكم “أي المسلمين” حاصرتم يوما ما أسوار فيينا”، ومن المعروف أن السلطان العثماني سليمان القانوني هو الذي حاصرها أكثر من مرة في القرن السادس عشر.

ورغم أن أردوغان لم يحاول فرض القيم الإسلامية قسرا وجبرا، ولا يزال العلمانيون واللادينيون يتمتعون داخل تركيا بحرية الرأي والتعبير على المستويات كافة، إلا أن  مجرد بسط أردوغان مظلة المصالحة الهوياتية على المجتمع التركي شكل هاجسا مقلقا لدى الولايات المتحدة.

كما لا تسمح ثوابت السياسة الأمريكية ببروز أي قوة إقليمية أو دولية يخشى منها أن تشكل خطرا على المصالح الأمريكية أو الإسرائيلية، خاصة مع إدراك صناع القرار في واشنطن أن النموذج الذي نحته أردوغان على مدار السنوات الماضية بات ملهما للشعوب العربية التي تشكل عمقا استراتيجيا مهما لتركيا، ونجاح هذا النموذج يعني محاولة استنساخه في مناطق أخرى ما يعني صحوة حقيقية للشرق، تتفاعل فيها المكونات العرقية المختلفة، الأمر الذي قد يفضي إلى ثورة جذرية على النظام العالمي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية.

هذا الهاجس كان محفزا قويا لواشنطن لشن تلك الحرب على الليرة التركية، خاصة وهي تعلم أن الاقتصاد كان وما زال يمثل الرافعة الأهم في المشروع الأردوغاني، فعملت على تقويضه من دعائمه التي منحته فرصة الصعود الكبير، بضرب العملة الوطنية.

وبالجملة فإن قضية القس برنسون، أو الخلاف حول التعريفات الجمركية .. إلخ أو تباين وجهات النظر حول تنظيم بي كا كا وغيره، ما هي إلا انعكاسات لحرب شرسة تخوضها تركيا من أجل نيل استقلالها “الفعلي” وتحررها من الوصاية الخارجية، ويبدو أن جزءا كبيرا من الشعوب العربية والإسلامية، فهمت طبيعة المعركة فاصطفت بقوة وراء تركيا وأبدت دعما وتضامنا كبيرين بشراء الليرة التركية، الأمر الذي انسحب بدوره على الموقف القطري الرسمي، فكانت زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لأنقرة وقراره تخصيص مبلغ ١٥ مليار دولار استثمارات مباشرة في تركيا، في جولة مهمة يبدو منها أن أردوغان قد تفوق فيها على ترمب وإدارته.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه