أزمة الخليج .. والحل الذي صار واجباً

عادت قضية اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية إلى واجهة الأحداث بعد شهرين من وقوعها لتتصدر مشهد الأزمة الخليجية بعد ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، وقناة “إن بي سي”، الأمريكيتان، من معلومات مهمة بشأنها، بجانب المعلومات الجديدة التي وردت في المؤتمر الصحفي لوزارة الداخلية القطرية مساء الخميس 20 يوليو الجاري.

الواقعة جرت ليلة 24 مايو الماضي، وفورا أكدت قطر بشكل رسمي على التالي:

1 – موقع الوكالة تعرض للاختراق “القرصنة”.

2 – تم بث تصريحات، ونسبتها لأمير قطر.

3 – التصريحات “مفبركة” وكاذبة.

وبدأت الدوحة التحقيقات لمعرفة تفاصيل ماجرى، وشارك فيها مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية FBI، ‏والوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة البريطانية NCA، ومشاركة هاتين الجهتين الأمنيتين اللتين تنتميان لبلدين كبيرين تنبع أهميته مما تمتلكانه من خبرة احترافية واسعة في القضايا الأمنية، ومن أنهما سيكونان شهود عدل حتى لا تتسرب شكوك انحياز سلطات التحقيق المحلية لدولتها، ومثل هذين الجهازين يصعب أن يغامر  بسمعته الوطنية والدولية، وهما يحققان ويقران النتائج التي تم التوصل إليها.

المؤتمر الصحفي الأخير لوزارة الداخلية جاء مفصلا وقدم معلومات فنية وافية بخصوص سيناريو القرصنة باليوم والساعة والدقيقة، والخلاصة أنه تم تأكيد ما سبق وأعلنته الدوحة ليلة 24 مايو من حدوث اختراق مخطط واستغلاله لبث تصريحات “مفبركة” منسوبة لأمير قطر، وكانت هذه التصريحات نقطة الانطلاق لحملة إعلامية بدت منظمة وغير مسبوقة في نهجها وطبيعتها وكثافتها من دول خليجية – السعودية والإمارات والبحرين – تجاه شقيقتهم قطر، وكلهم ينضوون في إطار منظومة مجلس التعاون، ثم أعقب الحملة التي استمرت 12 يوما قرارات الفجر يوم 5 يونيو الماضي بقطع العلاقات.

النائب العام القطري قال يوم 20 يونيو إنه لدينا معلومات شبه كافية حول قضية الاختراق، والمعلومات تكفي لتوجيه الاتهام إلى الأشخاص المتورطين في القضية، لكننا نعمل على رفع مستوى التأكيد، نبحث حاليا عن تأكيد المؤكد، واليقين غير القابل للشك.

المعلومات الجديدة

ما ساهم في إخراج القضية للواجهة، بينما التحقيقات تسير في مجراها الهادئ بعيدا عن عيون الإعلام، هي المعلومات الجديدة التي نشرتها “واشنطن بوست” 17 الجاري، فقد نقلت عن مسؤولين في الاستخبارات الأميركية أن دولة الإمارات تقف وراء اختراق وكالة الأنباء القطرية، ونشر بيان مزور منسوب لأمير قطر، وأن مسؤولين كبارا في الحكومة الإماراتية ناقشوا خطة قرصنة الوكالة في 23 مايو الماضي، أي قبل يوم واحد من الحادث، كما ذكرت الصحيفة أنه ليس من الواضح من معلومات المخابرات الأمريكية ما إذا كانت الإمارات هي التي قامت بالقرصنة بشكل مباشر، أو أنها أوكلت لمتعاقدين القيام بذلك.

حازت هذه المعلومات على اهتمام واسع، لأن الصحيفة التي تنشرها وتتحمل مسؤوليتها القانونية والمهنية كبيرة وعريقة، ولأن مسؤولين استخباراتيين أمريكيين هم مصادر المعلومات، ولأنه لم يصدر أي نفي للتصريحات ما يعني دقتها وصحتها، والجديد في الخبر أنه يحدد دولة الإمارات بالاسم بالوقوف وراء الاختراق، وأن مسؤولين في حكومتها ناقشوا خطة القرصنة، وهذا كلام خطير لا يصدر عن مسؤولين في أجهزة أمنية حساسة إلا إذا كانوا واثقين منه ولديهم الأدلة، ومع ربط هذه المعلومات بما سبق وقاله النائب العام القطري في 20 يونيو من أن الاختراق حدث من دول الحصار المجاورة لقطر، دون أن يحدد اسم الدولة، فيكون هناك توافق بين ما نشرته الصحيفة الأمريكية، وبين جانب من نتائج التحقيقات القطرية، والفاصل الزمني بينهما 27 يوما.

المعلومة الأخرى المهمة نشرتها الأربعاء 19 يوليو قناة “أن بي سي” الأميركية حيث نقلت عن مسؤولين أمريكيين تأكيدهم صحة التقارير عن قرصنة الإمارات لوكالة الأنباء القطرية، وقالت على لسان مسؤول أمريكي استخباراتي إن واشنطن ترى أن الإمارات مسؤولة عن قرصنة الوكالة، وأنها استخدمت متعاقدين خاصين لتنفيذ العملية.

أيضا لم يتم نفي معلومة القناة الأمريكية من أي مسؤول أمريكي مما يقطع بدقتها وصحتها، ويؤكد أن التسريبات الاستخباراتية للصحيفة وللقناة لم يكن هباء، بل ربما كان مقصودا وله أهداف يتعلق بعضها بمسار الأزمة الخليجية لدفع طرف المقاطعة إلى إعادة حساباته والتهدئة والدخول في حوار جدي نحو الحل بعد رفع الغطاء عن أسرار القرصنة، ومن قام بها، وهو ما يمثل مأزقا للفاعل، وللدول الشريكة في المقاطعة التي بنت موقفها الجماعي على أخبار لم تصدر عن أمير قطر الذي أكد بنفسه ذلك في خطابه مساء الجمعة 21 الجاري.

 نحن إذاً، أمام تأكيد المؤكد، وأمام تصريحات مصدرها مسؤولون أمريكيون، ونتائج تحقيقات كلها تلتقي في نقطة واحدة وهي حدوث الاختراق، وتحديد الطرف الضالع فيه.

النفي الاماراتي

وهنا لا يصح النفي الإماراتي المجرد، النفي بكلام عام وعبارات فضفاضة لا يجوز أمام وقائع مثبتة ومتسلسلة لحظة بلحظة في شكل سيناريو خطة الاختراق منذ بدأت عمليا يوم 22 أبريل، وحتى التنفيذ يوم 24 مايو، وتم استخلاص ذلك من أيام طويلة في إجراء تحقيقات مكثفة وعميقة بمساعدة أجهزة أمنية لدول كبرى محترفة ولها خبرة واسعة في هذا المجال.

في العالم اليوم صار صعبا التغطية على أي شيء يحدث ولو في غرف سرية محصنة لفترة طويلة من الزمن، إذا كان ممكنا قبل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الحفاظ على الأسرار لسنوات، فإنه اليوم إذا تم الحفاظ عليها لشهور يكون جيدا، ولدينا قضية قرصنة الوكالة القطرية حيث تكشفت أسرارها خلال أقل من شهرين فقط على حدوثها.

هل كان شركاء الإمارات في المقاطعة يعلمون بأن هناك خطة للقرصنة، ونسبة تصريحات للأمير لم يقلها للبناء عليها في الخطوات العقابية اللاحقة ضد قطر؟، إذا كانوا يعلمون فالمأزق لهم جميعا أمام شعوبهم والمجتمع الدولي، وخصوصا الحليف الأمريكي، وإذا لم يكونوا يعلمون فإن عليهم أن يكون لهم موقف تصحيحي، فهم دول ومهما كانت الخلافات مع دولة أخرى فلا يجب اعتماد وسائل غير قانونية تمثل اعتداء على السيادة في إثارة الخلافات علنا وتصعيدها، السياج الأخلاقي ضروري حتى في الخلافات.

من إعادة قراءة الأحداث، وترتيب بعض تفاصيلها، نجد أننا أمام سيناريو لبدء أزمة في الخليج، بدأت أولى الخطوات العملية للسيناريو ليلة 24 مايو حيث تم الاختراق، ودس التصريحات، ثم كان المشهد الرئيسي في هذا السيناريو، أو “الماستر سين”، بلغة صناع السينما، هو يوم 5 يونيو بقطع العلاقات والحصار، ومشهد النهاية لايزال معلقا لم يُكتب بعد، أو أن من يحرك خيوط الأزمة هناك وراء الأطلسي يبحث عن مخارج بعد أن طالت الأزمة، ما يحدث إما أنه توزيع الأدوار أمريكيا، بين البيت الأبيض من جهة، وبين وزارتي الخارجية والدفاع من جهة أخرى، أو أنه التناقض واختلاف الرؤى والتقييمات بين هاتين الجهتين، وفي الحالتين فقد باتت الأزمة مقلقة لهما وللمصالح الأمريكية والأوربية في منطقة مهمة وحساسة لهم، والحصافة السياسية لا بد أن تدفع في اتجاه التوصل للحل، ولعل المواقف المتتالية الهادئة التوفيقية غير المنحازة الصادرة عن الخارجية الأمريكية ستمثل في النهاية موقف واشنطن المعتمد من الأزمة ووضع النهاية لها دون خسائر لطرفيها، وهم كلهم حلفاء واشنطن ولا غنى عنهم جميعا لها، وقد قدمت الدوحة رسالة أخرى جديرة بالتعامل معها بإيجابية من طرف دول المقاطعة ومن إدارة ترمب ومن القوى الدولية الفاعلة عندما كررت استعدادها للحوار والتوصل لتسوية لكل القضايا، وأهمية الرسالة أنها تصدر عن الأمير رأس الدولة.

تقديري أن التصريحات لم تكن اعتيادية، وكانت تثير الشكوك في أن تكون صادرة عن قطر، ونتائج التحقيقات أكدت ما سبق واستنتجته بعد دقائق من قراءتها عقب وضعها على موقع الوكالة بأن العقل يصعب أن يمررها، وأن المنطق يرفض أن يتقبلها، ومن المستبعد أن تكون صادرة على لسان أمير قطر، كن مع قطر، أو لا تكن معها، أو كن محايدا، لكننا أمام إعمال العقل، ليس أي عقل، إنما هو العقل الناقد والمُفَكِر، فالتصريحات ومن طريقة التناول المكثف لها في قناة ” العربية” التابعة للسعودية، و”سكاي نيوز” التابعة لإمارة أبو ظبي دون تريث أو قراءة هادئة لها حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر صحتها أم كذبها خصوصا وأنها منسوبة لحاكم دولة، هذا التعامل الحاد والهجومي كان يوحي لصاحب العقل أن هذا الأمر غير معتاد في تعامل فضائيات تتحدث بلسان دول، وتنفذ سياسات هذه الدول، ولا تبث حرفا على غير إرادة هذه الدول، وأن هناك شيئا ما يتبلور في الأفق تجاه الدولة المستهدفة، لكن التوقع لم يذهب إلى قطع العلاقات بعد 12 يوما.

قبل أي تحقيقات، أو أخبار تنشرها وسائل إعلام أمريكية نقلا عن مصادر استخباراتية، فإن التصريحات كانت تحمل في أساسها ما يقطع بالشك فيها، تصريحات ضد لغة الدبلوماسية في التعبير عن الموقف لأي بلد لديه سياسة ودبلوماسية، وليس قطر فقط، ليس من المصلحة أن تطلق الدوحة تصريحات تفجر خلافات، وتشعل معارك مع بلدان الجوار الخليجي، وتعقد الأزمات في المحيط العربي، وتمتد لتصل إلى الحليف الأمريكي، خصوصا وأنه لم يكن هناك في الأفق ما يشير إلى وجود خلافات ولو ظاهريا، باستثناء أزمة مع مصر، كذلك ليس من الحكمة أن تتطوع قطر بتصريحات تمنح الجوار فرصة للاصطفاف ضدها، أو أن تندفع للتأثير على علاقاتها مع إدارة أمريكية جديدة يفتقد رمزها وهو الرئيس ترمب لخبرة السياسة، وحكمة السياسيين، إنما تسيطر عليه نزعة تهور، ويصعب التنبؤ بسلوكياته وردود أفعاله، وتجربته في الحكم خلال ستة أشهر تؤكد ذلك.

هل يمكن لقطر أن تشعل النار في أصابعها؟، اعتقد أن السياسة القطرية راكمت خبرة واسعة من أدائها المتجاوز للحدود الخليجية الضيقة إلى دوائر أوسع عربيا وإسلاميا ودوليا، والوساطات العديدة الناجحة التي قامت بها، والمفاوضات التي شاركت فيها، والملفات التي أنجزتها، والقضايا التي ساهمت في حلها، هذا وغيره لا يجعل العقل والمنطق يظن أنها في لحظة يمكن أن تمنح أحدا خنجرا ليطعنها به.

هنا سؤال مفصلي: هل اختراق الوكالة، والتصريحات التي جرى بثها عليها كانت هي الأساس الذي قامت عليه الأزمة، أم أنها كانت مجرد تمهيد وتهيئة فقط لأزمة لامحالة كانت واقعة؟.

تهيئة الرأي العام

تقديري أن القرصنة، والتصريحات، كانت بندا في خطة تبدأ بحرب إعلامية تهيئ الرأي العام والمجتمع الدولي، وتمهد للخطوة التالية، وهي قطع العلاقات، وفرض الحصار، بتهمة تجد صدى في الغرب والعالم، وهي دعم وتمويل الإرهاب.

الأزمة الحالية كانت واقعة لامحالة، كان التفكير فقط في طريقة تفجيرها، ثم طريقة استثمارها، ثم النتائج التي يُراد حصدها من ورائها.

الحملة عنوانها العام الإرهاب، لكن بيان المطالب الـ 13 كاشف لما كان واجب تنفيذه، وهو في جملته يجرد قطر من سيادتها، ويحولها إلى ما يشبه محافظة في السعودية، ودول المقاطعة لم تخف هدفها النهائي، وهو تغيير قطر لسياساتها جذريا، وربما ما جعل الحملة تدخل حيز التنفيذ في هذا التوقيت أن وجود ترمب في البيت الأبيض بدا مناسبا لإطلاقها.

لكن لا تسير السفن دائما وفق ما يشتهي ربانها، فالرياح تأتي أحيانا بما يجعل أشرعتها تميل عن وجهتها.

لقد آن أوان الحل، بعودة الأشقاء للطاولة، وبدء حوار هادئ منفتح متجرد صريح شفاف، فهذا هو لب فكرة الحضارة في حل الخلافات.

إلى متى كعرب نظل نعيش في دولة حديثة في المظهر، لكن يحكمها عقل القبيلة في الجوهر؟.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه