أردوغان ومأزق كردستان

الموقف التركي ومنذ بداية الأزمة يتجه نحو التصعيد إعلاميا

رغم المعارك الدائرة في كردستان على خلفية الرفض الإقليمي للاستفتاء الذي أُجرى مؤخرا في الاقليم، وأكد مخاوف دول الجوار بوجود نوايا انفصالية من جانب الأكراد تستلزم الوقوف ضدها والتصدي لها، ورغم توحيد المواقف، فإن  الدول الثلاث ( تركيا – إيران – العراق) المعنية بالأمر اختلفت في أسلوب معالجتها له، فبينما اتسم الموقف الإيرانى في بدايته بالهدوء المشوب بالحذر في التصريحات التى خرجت من جانب قياداته السياسية والدينية، ثم البدء فى اتخاذ خطوات عملية محدده لوقف تحركات الأكراد الرامية إلى الاستقلال عن العراق، والتحرك عسكريا من خلال قوات الحشد الشعبى وعدد من عناصر الحرس الثورى الإيراني  مع القوات العراقية في إتجاه كركوك، التى تمثل عصب اقتصاد الإقليم، وانتزاعها من أيدى قوات البشمركة الكردية، نرى الموقف التركى ومنذ بداية الأزمة يتجه نحو التصعيد إعلاميا، وهي الحملة التي قادها بنفسه رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، الذي حرص في تصريحاته على الهجوم الحاد على الإقليم وقياداته، والتهديد المستمر بخنقه اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، في حال أصر قادته على المضى قدما في خطوات الانفصال عن العراق، وتأسيس دولة كردية مستقلة، وهي التصريحات التي أثارت موجة من الاستياء والغضب داخل الأوساط الكردية عموما، والعراقية على وجه الخصوص، التي رأتها عدائية وغير مبررة من جانب من يرونه الحليف الرئيس لهم، وتجاوزا غير مقبول في حقهم بشأن تقرير مصيرهم مثلهم في ذلك مثل بقية الشعوب الأخرى .

تصريحات عدائية

وبعيدا عما يجري على الأرض من معارك، ولفهم أسباب الموقف المتشدد من جانب الرئيس التركي وأركان حكومته، الذي يجب النظر إليه بصورة أكثرعمقا من مختلف النواحي، خصوصا وأن تركيا دعمت أكراد العراق ووفرت لهم المساعدة في تطوير اقتصادهم، وتحسين مستوى الدخل القومي لديهم من دون الاعتماد على حصتهم من الموازنة العامة لحكومة بغداد، وفتحت أراضيها لتصدير نفطهم عبر ميناء جيهان ، إلى جانب عملية التبادل التجاري التي يعتمد عليها أكراد العراق اعتمادا أساسيا في توفير الاحتياجات اليومية للسكان. صحيح أن كل تلك الأمور تصب أيضا في صالح الاقتصاد التركي، حيث تبلغ قيمة الاستثمارات التركية في الإقليم 40 مليار دولار، بمشاركة 200 شركة قطاع خاص تركي،  إلا إنها تخدم وبشكل أساسي اقتصاد إقليم كردستان حيث يعمل حوالى 200 ألف عامل كردى لدى الشركات التركية الموجوده في شمال العراق؛ إلى جانب سعي أنقرة  لبناء علاقات صداقة وأخوة مع كردستان على أسس قوية، تضمن بها حيادهم فى الصراع القائم بينها وبين حزب العمال الكردستاني.

مايعني أن هناك أمورا عدة جدت مثلت أسبابا وعوامل تصب في صالح الأمن القومي التركي، وتحقق لتركيا مكاسب عدة سياسية وعسكرية وجغرافية وتاريخية، جعلت رد فعل المسؤولين بها يأتي على هذه الحدة التي بدت ظاهرة في الخطاب السياسي لهم جميعا بدءا من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وانتهاء بالوزراء الذين لم يتوقفوا بعد عن إطلاق تصريحات عنيفة ضد زعامات الأكراد فى إقليم كردستان وصلت إلى حد الاتهام بالخيانة، ورفض الاستماع لأية تبريرات قدموها أو القبول بعقد لقاءات ثنائية معهم لمناقشة جوانب تلك الأزمة التي تسبب فيها الاستفتاء، رغم المحاولات التي بذلها نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة كردستان لطمأنة دولتي الجوار تركيا وإيران، اللتين تخشيان انتقال عدوى المطالبة بالاستقلال للأكراد لديهما، مؤكدا أن تجربة الاستفتاء لن تمتد لأية دولة منهما، وأنه – أي الاستفتاء – مجرد رسالة للحوار مع بغداد على أرضية صلبة، مؤكدا سعيه لإقامة علاقات جيدة مع كل من طهران وأنقرة.

ضغوط داخلية

بالتأكيد تمثل الضغوط الداخلية أحد العوامل التي دفعت الرئيس التركي والمسؤولين في حكومته لانتهاج العنف فى تصريحاتهم ضد كردستان، إذ يواجه حزب العدالة والتنمية الحاكم مشاكل عدة تسببت فى انخفاض شعبيته، وتراجع حجم الدعم الجماهيري الذي تعود  الحصول عليه في أية انتخابات أو استفتاءات يجريها منذ صعوده إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002، إذ خسر الحزب أصوات أكبر ثلاث مدن تركية، وهي: إسطنبول وأنقرة وإزمير فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية الخاصة بتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، الأمر الذي أوضح أنه أمام أزمة حقيقية، جعلته مضغة في أفواه معارضيه الذين يقفون له بالمرصاد ويتصيدون له أي خطأ يحدث، وهو مادفع أردوغان للعودة مجددا إلى رئاسة الحزب لإجراء الإصلاحات الكفيلة بإعادة الحزب لمركز الصدارة  مجددا، استعدادا للانتخابات الرئاسية المقررة في 2019، والتي سيخوضها وفق التعديلات الدستورية الأخيرة .  

القوميون الأتراك

في الوقت نفسه الذي صّعد القوميون الأتراك فيه من ضغوطهم على الحكومة عبر تنظيمهم لمسيرات ومؤتمرات جماهيرية مطالبين بضرورة حماية التركمان في كل من العراق (كركوك والموصل ) وسوريا ( حلب وإدلب ) عبر تدخل عسكري سريع، وهي الضغوط التي تعد أحد الأسباب التي دفعت الحكومة لإتخاذ قرارٍ بتحريك جزء من قواتها العسكرية والقيام بمناورات على المنطقة الحدودية مع شمال العراق، والتدخل في شمال سوريا، والدفع بقوة عسكرية للتواجد في كركوك خلال اجتياحها من جانب القوات العراقية والحشد الشعبي الموالي لإيران، وذلك لطمأنه القوميين من ناحية وإثارة القلق لدى قيادات كردستان من الناحية الأخرى، وتحذير حزب العمال الكردستاني ( بي . كا. كا) من استغلال الوضع الراهن للقيام بأية مغامرة غير محسوبة العواقب.

ضمانات مؤكدة

التحرك التركي باتجاه التعاون مع الحكومة المركزية العراقية، من خلال العمل على تسليمها معبر باب الخابور الحدودي، وتلبية مطلبها الخاص بإغلاق المجال الجوي في شمال العراق، والإعلان عن الاستعداد لمساعدتها فى القضاء على عناصر حزب العمال الكردستاني لديها، لم يكن فقط من أجل حماية الأمن القومي لتركيا من خطر إقامة دولة كردية على حدودها مع العراق، ولكن أيضا لقطع الطريق على الخطر الذي تبدو نذره قادمة من الجنوب مع تنامي احتمالية إقامة دولة كردية بدعم أمريكي في شمال سوريا.

ولذلك فإن أنقرة القلقة لن تتخلى – على مايبدو – عن سعيها الدؤوب للحصول على ضمانات مؤكدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بأنه في حال تطورت الأمور وأدت إلى انفصال كردستان فعليا عن العراق، فإن ذلك لن يكون تمهيدا لخطوة انفصال أكراد تركيا أو حصولهم على الحكم الذاتى بعيدا عن مركزية الحكومة التركية فى أنقرة ، وهى الضمانات التى لن تكتفي فيها تركيا بطرف دون الآخر، خصوصا بعد التصريحات الأمريكية التي صدرت مؤخرا، والتي حذرت فيها واشنطن القوات العراقية مما أسمته ” عواقب خطيرة، جراء الاستمرار في إساءة استخدام السلاح الأمريكي ضد القوات الكردية، التي وصفتها بالحليف المهم لها ” ، خطورة تلك التصريحات أنها جاءت على لسان السيناتور جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، والتي أعقبها تصريح من سعيد مومزيني أحد قياديي الحزب الديمقراطي الكردستاني، بأن “كركوك أرض كردستانية، وسنحررها من المحتل الذي دخلها ” .

وهما التصريحان اللذان أثارا قلقا عميقا لدى أنقرة، لكون أولهما ينذر بإمكانية تحرك الولايات المتحدة لوقف محاولات استنزاف أكراد كردستان عسكريا واقتصاديا، مايعنى إمكانية تطبيق النهج نفسه مع أكراد سوريا، والثانى يشير من دون مواربة إلى إمكانية إشتعال الموقف بصوره أخطر مما يبدو عليه حاليا بين بغداد وكردستان بدعم أمريكى للأخيرة فى أية لحظة، الأمر الذى سيجعل أنقرة تصعد من تصريحاتها العدائية ضد كردستان العراق خلال المرحلة المقبلة بهدف زيادة الضغط على الولايات المتحدة ومساومتها لوقف كافة أشكال الدعم العسكرى واللوجيستى الذي تقدمه واشنطن لأكراد سوريا ( قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الشعب الكردى ) ـ إذا ماكانت ترغب فى تخفيف حدة الازمة على حلفائها فى كردستان، خصوصا وأن تركيا هى منفذهم الوحيد على العالم الخارجى .

استعادة الحق التاريخى

يتعامل الأتراك شعبا وحكومة منذ إعلان الجمهورية التركية على اعتبار أن بعض المناطق الحدودية تم اقتطاعها منهم ظلما أثناء عملية ترسيم الحدود بينهم وبين جيرانهم العرب؛ الذين كانت تمثلهم فى المفاوضات آنذاك بريطانيا بصفتها دولة احتلال، ومن هذه الأراضي مدينتا كركوك والموصل العراقيتان، وهو ما دأب المسؤولون الأتراك أياً كانت توجهاتهم الأيديولوجية على الحديث عنه فى تصريحاتهم وحواراتهم السياسية منذ سنوات طويلة مضت، لايختلفٌ فى ذلك تورغوت أوزال وسليمان ديميريل عن بولنت أجافيد ودولت بهجلي أو عبدالله غول ورجب طيب أردوغان، وتمثلٌ التطورات السياسية والعسكرية التى تمر بها المنطقة حاليا، إلى جانب استفتاء كردستان فرصة ذهبية – من وجهة نظر أنقرة – تصبٌ في صالح استعادتهم لتلك الحقوق التاريخية، ليس في العراق وحده بل فى سوريا أيضا، وذلك وفق تصريحات المسؤولين الأتراك، والتي جاء بعضٌها على لسان الرئيس السابق عبد الله غول، الذي أكد أن استمرار العمل بمعاهدة لوزان وغيرها من المعاهدات التاريخية في هذا الشأن، مرتبط ببقاء العراق موحدًا، مايعني أن تقسيم الدولة العراقية يعد دافعًا قانونيًا يعطي تركيا الحق في بسط سيطرتها على كركوك والموصل حفاظا على الحقوق التاريخية للدولة التركية ومواطنيها من التركمان .

بيد أن المتحدث باسم الحكومة، بكير بوزداغ ، كان أكثر المسؤولين الأتراك اقترابا من كشف حقيقة القاعدة التي تنطلق منها التحركات الحالية لبلاده، حين أشار في تصريحات له إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التاريخية المنبثقة عن الاتفاقيات الثنائية والدولية الخاصة بتقسيم الحدود الدولية بين تركيا وجيرانها، موضحا أن هذه الاتفاقيات تشمل  “لوزان 1923″، و”أنقرة 1926″، و”الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام 1946″، و”التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983″، وهو نفس ماسبق وأكده أكثر من مسؤول تركي  للمسؤولين داخل إقليم كردستان واللاعبين الأساسيين إقليميا ودوليا، بأن تركيا ستتخذ كافة الاجراءات والتدابير اللازمة لإحباط مخططات الأكراد الرامية للاستقلال عن العراق وإعلان دولة مستقلة على أٌسسٍ قومية، وهو من الأهداف ذات الأولوية ـ من دون شك ـ لأنقرة، إلا أن  الهدف الحقيقى إذا ما أُخذ في سياق التصريحات التي صدرت عن قيادات تركية طوال عقود سابقة بشأن حقوق تركيا التاريخية فى الشرق الأوسط بصفتها الوريث الشرعى الوحيد لميراث الدولة العثمانية فإنه يكشف وجود استعداد تركي قوى لتحويل إشكالية الاستفتا ، إذا ما أدى إلى تقسيم فعلي للدولة العراقية، لفرصة ذهبية لاستعادة ماتراهٌ حقا تاريخيا لها.

تحركات عسكرية

 ولهذا السبب سنجد أن التحرك الفعلي الوحيد الذي قامت به أنقرة منذ أزمة الاستفتاء، هو التحرك عسكريا حيث تم تحريك بعض الوحدات التركية التي تتمركز حاليا فى مدينتي هطاي وسلوبي التركيتين القريبتين من الحدود مع شمال العراق ( نحو كيلومترين )  والقيام بمناورات عسكرية على خط الحدود مع كردستان، مع استمرار احتفاظ أنقرة بحوالى 2000 جندي تركي لايزالون يتمركزون داخل كردستان، إلى جانب بعض العناصر المقاتلة بالقرب من الإقليم في مخيم بعشيقة،  ما قد يعطي انطباعا بأن كل ذلك يهدف لتهديد كردستان، فيما الهدف الحقيقى، على مايبدو، هو الاستعداد لاستغلال حدوث أية اضطرابات سياسية أو أمنية قد تنتج عن عدم الاتفاق بين بغداد وكردستان لاحقا بشأن وضعية الإقليم المستقبلية، مايعنى وقتها القدرة على التحرك سريعا والقيام بتدخل عسكرى يضمن لتركيا السيطرة على مدينتي الموصل وكركوك، اللتين يجب أن تؤولا إلى تركيا إذا انفصلت كردستان عن العراق .

تحقيق ذلك الهدف لايرتبط فقط  باستعادة حق تاريخي حدده عدد من الخرائط التي نشرتها وسائل إعلام مقربة من الحكومة، ضمت إلى جانب المدينتين العراقيتين أجزاء من الأراضي السورية وتحديدا شمال حلب وإدلب، وإنما يرتبط أيضًا برغبة تركيا فى التحول من دولة مستوردة للطاقة إلى دولة مصدرة لها، من خلال ضم هذه المناطق الغنية بالموارد النفطية، الأمر الذي سيساهم من دون شك في استعادة تركيا لقوتها القديمة، والمضي قدما في تحقيق حلم إعادة احياء الدولة العثمانية، بما يؤهلها لأن تصبح لاعبا رئيسا في المنطقة لايقل مكانة عن حليفتها ومنافستها الحالية روسيا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه