أردوغان في تونس.. زيارة أربكت العالم!

 

قام الرئيس التركي أردوغان بزيارة إلى تونس الأربعاء الماضي. وسائل إعلام وصفت الزيارة بأنها مفاجئة. وهذا غير دقيق، فالزيارة كان مُتفقاً عليها، وجاءت بدعوة من الرئاسة التونسية، يمكن أن يكون ترتيبها جرى على عجل. لا زيارات خارجية لقادة الدول تكون مفاجئة. قد تُفهم المفاجأة من كون عواصم عديدة، وعلى رأسها عواصم عربية معروفة، لم تكن ترغب بوجود أردوغان في قصر قرطاج مع الرئيس قيس سعيد.

الزيارة .. تاريخ وجدل وإرباك

الزيارة رغم قصرها، والجدل الذي صنعته، والإرباك العام الذي أحدثته لدى أطراف عربية ودولية، تُسجل في تاريخ الرئاسة التونسية الجديدة بأنها الأولى لزعيم خارجي لتونس. ويشاء القدر أن تكون لرئيس دولة مسلمة كبرى، وليس لرئيس دولة عربية.

وكان العرب أولى بتسجيل هذه اللحظة السياسية المهمة، بأن يكون حاكم منهم أول من تهبط طائرته في تونس التي تستحق التقاطر إليها باعتبارها مهد ديمقراطية عربية ناشئة.

لكن العرب يأتون دوماً متأخرين، إما غفلة، أو لحسابات عقيمة تنتمي إلى عجائب السياسة والعقل. والحكام العرب لا يحبون الديمقراطية، ولن يشجعوها في تونس أو غيرها. وهناك ما يشبه الصمت أو التجاهل في تفاعلهم مع الرئيس التونسي المنتخب. بل هناك ما يشبه عدم الترحيب المبطن به. غالباً كانت رغبة عواصم بعينها ألا يكون قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري هو الفائز بالرئاسة، إنما منافسه رجل المال والإعلام نبيل القروي المشتبه بالفساد.

التاريخ يُسجل أيضاً أن استقبال قيس سعيد للرئيس التركي هو النشاط الرسمي الأول للرئيس التونسي مع أحد قادة العالم، فلم يقم سعيد بأول زيارة خارجية له منذ استلامه السلطة، ومن المقرر أن تكون الجزائر محطته الأولى كما سبق وأعلن، لكن الزيارة تأجلت لمزيد من ترتيب الأوضاع الداخلية في البلدين.

التدخل العسكري التركي

واقع الحال اليوم أنه إذا كان عداء عواصم عربية لـ أردوغان واضح ومكشوف، فإن كراهية هذه العواصم لـ قيس سعيد ستتزايد بعد هذه الزيارة، وخاصة بعد القضايا التي جرى بحثها، وأهمها المأساة الليبية والاقتتال الدامي في هذا البلد، والتدخل العسكري التركي المباشر الذي ينتقل من التكهنات إلى اتخاذ خطوات عملية، وفي غضون أقل من أسبوعين ستكون القوات التركية في ليبيا، أو على مشارف التدخل براً وبحراً وجواً، ما لم يحدث ما يجب حدوثه منذ وقت طويل وهو إيقاف القوى الكبرى للاقتتال، وجمع الفرقاء على طاولة السياسة والتفاوض، وهذه التطورات المتسارعة التي صنعها أردوغان خلطت أوراقاً كثيرة وأربكت أطراف التدخل في ليبيا، والقوى الدولية التي لها مصالح في هذا البلد، وتشعل الحرب ولا تسعى للسلام.

زيارة لمدة ساعات لتونس المجاورة لليبيا أثارت قلقاً سريعاً، وبدأ الترويج في أذرع إعلامية لدول داعمة لحفتر بأن تونس تصطف مع محور تركيا وقطر في ليبيا، وأنها ستفتح أراضيها لعبور قوات ومساعدات تركية إلى حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج في طرابلس، وهذا استدعى إصدار الرئاسة التونسية بياناً تشدد فيه على حيادها التام في الأزمة الليبية، وربما البيان فيه تراجع عن بعض ما تم الاتفاق عليه في المباحثات المغلقة بين أردوغان وسعيد، ربما.

صراع المحاور في ليبيا

ليبيا مجال حيوي وساخن لصراع محتدم حالياً بين محور عربي يضم مصر والسعودية والإمارت واجهته الجنرال خليفة حفتر الساعي لبسط هيمنته عسكرياً على البلد، ومحور أخر يضم قطر وتركيا يساند فائز السراج وحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، والتي تريد بناء دولة ليبية مدنية تتسع للجميع دون إقصاء.

والصراع بين المحورين يدور اليوم حول العاصمة طرابلس، وإذا سقطت في أيدي حفتر فإن ليبيا لن تستقر وستدخل في فوضى أشد وأوسع عكس خطط وتصورات الفريق الداعم له، وإذا صمدت العاصمة ولم تسقط فإن حكومة الوفاق ستخرج أكثر قوة في دفاعها عن ليبيا الديمقراطية. فلا بلد تعافى واستقر وتوطدت وحدته الوطنية في انتصار طرف على آخر بالقوة في صراع داخلي. التعافي لا يكون إلا بالتوافق الوطني والاحتكام للشعب في انتخابات حرة مع ضمانات دولية بعدم انقلاب أي طرف على المسار الديمقراطي.

تصريحات أردوغان

أردوغان أطلق من تونس تصريحات مهمة بشأن ليبيا، حيث جدد حديثه عن عدم قانونية المرتزقة الذين يقاتلون بجانب حفتر، وحدد عددهم إمعاناً في تأكيد معلومة وجودهم،(5000 سوداني، و 2000 روسي)، وجدد استعداده لإرسال قوات لحكومة الوفاق، وفي اليوم التالي(الخميس) قال في تركيا إنه يتوقع أن يمنح البرلمان تفويضاً لحكومته لإرسال قوات إلى ليبيا في 8 أو 9 يناير المقبل، وهذه رسالة للدول الداعمة لـ حفتر بأن رغبتها في الحسم العسكري ليس سهلاً، وأن موعد انعقاد البرلمان التركي بعد ما يقرب من أسبوعين قد يحمل دعوة مبطنة لمن يقفون خلف حفتر بأنه خلال هذه الفترة يمكنكم  مراجعة مواقفكم وإسكات صوت البنادق والذهاب للحلول السياسية والتفاوضية، وإلا فإنها الحرب. وتقديري أن التركي لن يغامر بقوات في الخارج ليسقط في مستنقع لا يستطيع الخروج منه. المؤكد أن له حساباته على الأرض، خصوصاً وهو يعلم أن أطراف حفتر يمكن أن تنتقل إلى مرحلة القتال الواسع والصريح إلى جانبه.

 والجديد الذي يكشف عنه أردوغان هو الاتصالات التي أجراها مع أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا حيث تجهز بلادها لاستضافة مؤتمر في برلين للفرقاء الليبيين لتفعيل رؤية الحل على أساس اتفاق الصخيرات بالمغرب عام 2015، والاتصالات جرت أيضاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، ودعا  القادة الثلاثة خلالها لإدراج تونس والجزائر وقطر ضمن حضور مؤتمر برلين.

وواضح أن هذه الدول مستبعدة من المؤتمر، وفيهما بلدين مجاورين لليبيا لهما مصلحة في مناقشة كل ما يتعلق بها من أزمات أو حلول حيث تنعكس على أمنها القومي مباشرة. وإذا جاز عدم دعوة قطر، فلا يجوز تجاهل تونس والجزائر أبداً. ومعروف أن هذين البلدين يدعمان الحل السياسي، ويرفضان الحل بالقوة العسكرية، أو سياسة المحاور والتدخلات الخارجية، وحضورهما سيمثل قوة دعم للحل السياسي، وسيكون رافعة مهمة لحكومة الوفاق، وفي هذا إزعاج للمحور المضاد للحكومة الشرعية الذي يريد ترتيب أوضاع ليبيا وفق خطته وحده.

الحياد التونسي

الرئيس التونسي أطلق هو الآخر تصريحاً مهماً حيث أكد أن مذكرتي التفاهم بين ليبيا وتركيا شأن يخصهما وحدهما فقط، وهذا الموقف المحايد الذي جدد التأكيد عليه بشكل أوسع في بيانه في اليوم التالي (الخميس) لمؤتمره الصحفي مع أردوغان يصب في صالح الاتفاقية، خاصة وأن تونس دولة جوار مباشر لليبيا، ومتشاطئة معها في حدودها الغربية.

والموقف التونسي لن يكون مريحاً لمصر واليونان وقبرص، ومساعيهم لبناء حائط صلب يضم دول شرق وجنوب البحر المتوسط ضد الاتفاقية التركية الليبية، ومحاولة عرقلة تنفيذها أو جعلها غير واقعية، والدعاية الإعلامية المكثفة ضد الزيارة، والتركيز على الأصوات التونسية الناقدة لها يعكس القلق من نتائجها ليس لدى هذه البلدان وحدها إنما معهم عواصم عربية وأوروبية.

اختراق تركي

زيارة أردوغان تمثل اختراقاً مهما في الجوار العربي لليبيا، واختراقاً للمجال العربي كله، وتدعيماً لعلاقات بلاده مع عاصمة عربية مهمة لتعويض تأزم العلاقات مع عواصم أخرى، وكسر محاولات العواصم التي تخاصمه لمحاولة فرض عزلة عليه في المحيط العربي والشرق أوسطي.

والزيارة تحمل إشارة سياسية لافتة حيث تمثل التقاء ديمقراطيتين ناشئتين لبلد إسلامي، وآخر عربي، وفي هذا تعزيز لكون العرب والمسلمين جاهزين للديمقراطية، وأنهم ليسوا أقل من الشعوب الغربية ثقافة سياسية وتحضراً ورغبة بتمكين إرادتهم في نظام حكم ديمقراطي يرسخ الحريات والحقوق الأساسية ويحترم الدستور والقانون، ويُحدث قطيعة مع الاستبداد. أردوغان حيثما حل أو ارتحل فإنه يكون محط الأنظار والاهتمام والجدل والتحليلات والتكهنات والحسابات السياسية.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه