أحمد يمسح البلاط.. وسباستيان يشكل الحكومة!

الشعارات الجوفاء لم تؤسس يوما دولة حديثة متطورة، ولن تبني يوما قاعدة واحدة في أساس أي دولة ما لم تكن مقرونة بالعمل الجاد على الأرض، إنه مزيد من الوقت المستهلك بلا فائدة على الشعوب والأوطان المنكوبة بأنصاف آلهة مزيفين.

من الشعارات الكاذبة في البلدان العربية أن الشباب هم عماد المجتمع والدولة، وأنهم نصف الحاضر وكل المستقبل. نحن بلدان ماهرة في صك الشعارات، وبيع الكلام، راجعوا الشعارات عن الشباب في مانشتات الصحف وقنوات التلفزيون حسب تصريحات المسؤولين والنخب، كبارهم وصغارهم، وستجدون أطنانا منها، والحصيلة في التنفيذ صفر كبير. الواقع المأساوي يقول إن هذا الشباب مقموع مقهور مذلول، والفئات العمرية الأخرى ليست أفضل من الشباب، فالجميع في خانة الإقصاء عن المشاركة الفعالة في صياغة رؤية بناء أوطانهم، وتحويلها إلى واقع عملي وفق نظم وآليات ديمقراطية تتيح لهم البروز والصعود بكفاءتهم وجدارتهم.

احتكار الدول

أنظمة العجزة والعجز تحتكر الدول أرضا وشعوبا ومقدرات، وتتصرف فيهم كيفما تشاء باعتبارها إرثا، وبعقل متكلس ثبت فشله عشرات المرات، وتتصابى رغم انتهاء أعمارها الافتراضية، وصلاحياتها، وقدراتها على الحكم الرشيد، وهي لن ترحب بأحد من خارج منظوماتها السياسية والبيولوجية ليطرح رأيا أو يعلن عن فكرة أو يغير قواعد اللعبة المستقرة لصالحها منذ عقود، ومن هنا كانت القسوة في قمع الربيع العربي والشباب الذين قاموا بالدور المهم فيه.

لدينا نموذج حي يعكس في رمزيته واقع النظر للشباب، ونمط التعامل معهم، إذ قبل أيام عاقب أحد الضابط واحداً من الشباب، وهو أحمد ماهر “36 سنة” مؤسس حركة 6 أبريل بالحبس لأنه رفض أن يمسح بلاط قسم الشرطة خلال وجوده لتنفيذ المراقبة المفروضة عليه من السادسة مساء إلى السادسة صباحا يوميا ولمدة ثلاث سنوات. أحمد كان أمضي عدة سنوات في السجن في قضية لها خلفية سياسية، هذا الشاب وقضيته وما سبقها وما لحقها تمثل عنوانا على الحالة التي وصل إليها نشطاء الشباب. قد تختلف بعض التفاصيل من شاب لآخر، لكنها في المجمل تعكس قصة نهوض شبابي مبشر بعصر جديد يكونون هم قادته في المستقبل إلى إنهاء لهم ولدورهم وللعصر المتخيل، وحتى ندرك مغزى ما يجرى في دولنا فإن الوجه المقابل لـ أحمد ورفاقه الذين هم مثله، هو قائد سياسي بارز ورئيس للحكومة في بلده الآن، هو سباستيان كورتز الذي فاز حزبه في الانتخابات التشريعية مؤخرا في النمسا، كورتز صار أصغر قادة دول العالم، وسيقود حكومة واحدة من الدول الأوربية المهمة، وليس حكومة مدغشقر، أو الرأس الأخضر مع احترامنا للبلدين. سباستيان عمره اليوم 31 عاما فقط، من هو في سنه في كل بلد عربي لا يزال يبحث عن فرصة عمل ليبقى فقط على قيد الحياة، ولا يأخذه اليأس إلى مسالك الدمار. كورتز سيجلس على نفس الطاولة ندا لند مع أنغيلا ميركل مستشارة ألمانيا، وتريزا ماي رئيسة حكومة بريطانيا، وسيقف في مؤتمر صحفي مشترك رأسا برأس مع الرئيس الأمريكي ترمب، أو الروسي بوتين، أو الصيني بينج، ومن سيذهب للنمسا من قادة العالم ديمقراطيين ومستبدين سيقولون له بكل احترام يا فخامة رئيس الوزراء رغم أنه قد يكون في عمر أحفادهم.

النوم على البلاط

لكن أحمد ماهر كان ينام على البلاط في زنزانة ضيقة خلال الحبس الانفرادي، ثم مع العشرات غيره في زنزانة أخرى لا تليق بالبشر، ثم اليوم لابد أن يُسّلم نفسه لرقابة الشرطة ساعات طويلة بعيدا عن أسرته وعمله، وصار محاصرا حتى لا يمارس أي نشاط عام لخدمة بلده، هذا القتل البطيء المتدرج للروح السياسية والمعنوية والشخصية في العواصم المختلفة لا يمكن أن تنتج شبابا يكونون قادة وبناءين ومصلحين ومنقذين لدولهم من الجمود أو التدهور الذي تواجهه، كما تجعل قضايا الانتماء أمام اختبارات غاية في الصعوبة.

مطلوب من المهندس أحمد ماهر مسح البلاط في مصر، ومطلوب من سباستيان كورتز تشكيل الحكومة في النمسا. هذا التضاد يجسد الفارق الشاسع بين الشرق والغرب عقلا وفكرا وسلوكا ومناخا وممارسة وحضارة وحداثة ومدنية وإنسانية وكرامة وحقوقا.

ستجد في كل بلد عربي أحمد ماهر آخر، مهما اختلفت طبيعة نظامه السياسي، وليس بالضرورة أن يكون حُكم عليه بالسجن والمراقبة، فيمكن ألا يكون هناك في بعض البلدان شباب في سجون، أو قبور، أو فارين للخارج، أو متخفين في الداخل خشية الاعتقال، أو معزولين عن الحياة العامة يأسا من الإصلاح، يمكن ألا توجد مظاهر السطوة القمعية، لكن الحياة نفسها بالنسبة لهم قد تكون أقرب لسجن كبير.

ضحايا الثورات

الثورات في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا كانت تُوصف بأنها ثورات الشباب، وكان أوباما ومعه قادة العالم منبهرين بالشباب الذين هزوا المستبدين وأسقطوهم، واليوم يتم ترويع هؤلاء الشباب، في ساحات القمع العام، وساحات السجون، وساحات الحروب حتى تمنوا ألا يكونوا قد انتفضوا لأجل بناء أوطان حقيقية ينعم فيها كل إنسان بحقه في الحرية والعدالة والعيش الكريم والأمان.

الشباب هم أكثر ضحايا الثورات خلال الربيع العربي، لذلك يتم التنكيل بطليعتهم وقادة الوعي والرأي فيهم، وكسر ظهورهم، وتشويههم لقتل روح المقاومة بداخلهم حتى لا ينتفضوا مرة أخرى، والرسالة موجهة لعموم الشباب فلا يكون أمامهم جميعا غير الانهماك في دوامة لقمة العيش فقط، وعدم التفكير في الشأن العام.

الحرية تنتج الكثير من أمثال سباستيان كورتس، وتتيح لهم الفرص في عالم منفتح، وفي بلادنا يُوصف مثله بأنه “عيل”، يقال اليوم على شباب يناير أنهم “عيال” للسخرية منهم، والتقليل من شأنهم، ويتم تخويف المجتمع منهم بالادعاء أنهم خونة وعملاء ومتآمرين ومستعدين لبيع أوطانهم بالمتر والشبر. لماذا في النمسا لا يُقال ذلك على شبابها، ولا يُخشى على الدولة من الإسقاط والتفكيك عندما يقودها واحدا منهم عمره 31 عاما؟ ، ولماذا لا يُقال ذلك أيضا في فرنسا التي فاز إيمانويل ماكرون برئاستها وعمره 39 عاما، وفي إيطاليا وبريطانيا وأيرلندا وفرنسا وأستونيا وأوكرانيا واليونان وكندا وبلجيكا وبولندا وجورجيا والمجر وكوسوفو وغيرها من دول العالم الحر الديمقراطي التي قادها ولا يزال يقودها شبان، وتتفوق على بلداننا في كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والتنموية والبشرية؟

الشباب الذين يصلون لسدة الحكم والقيادة في مرافق الدولة في الغرب لا يتم ذلك بالتوريث أو التزوير، أو التعيين، أو الوساطات، إنما بالانتخابات النزيهة، والسياسة الشفافة، والعمل الدؤوب، والنجاح داخل أحزابهم، وبين جماهيرهم، وبالثقة فيهم، وثقة المجتمع في نفسه، والإيمان بأن الأوطان ملك للجميع يحافظون عليها كلهم، وليست ملكا لحاكم يمنح نفسه قداسة، أو جهة تحتكر الوطنية، وتوزع صكوكها على الآخرين.

نعم، حدثت أخطاء من الشباب، لكن هذا طبيعي، إذ بعد المنع الطويل فُتحت أبواب الحرية على مصراعيها، ولذلك لابد أن تسود الفوضى بعض الشيء، وقد تزايدت بدفع جهات وأطراف لم تكن تريد النجاح لتجارب الانتقال الديمقراطي، وهناك عامل الخبرة المفتقد لدى الشباب والكبار من النخب، فلم يكن متاحا لهم من قبل فرصة الانخراط في ممارسة سياسية، كان الكل محروما من المشاركة في إدارة الشأن العام في بلاده، وكان منطقيا أنه مع استمرار تجارب التحول والتراكم الديمقراطي أن تُعالج الأخطاء، ويحدث النضوج، وتسير القاطرة على قضبانها دون اهتزاز.

 النمسا التي خرج منها سباستيان، وكل بلدان العالم الحر، مرت بنفس فترات التوتر والفوضى حتى استقرت تجاربهم، وأصبحت الديمقراطية ثابت في حياتهم، لكن خصوم الديمقراطية على الخريطة العربية لايزالون في موقع القوة.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه