“أحمد زيور باشا” أول مظلات الثورة المضادة

 

 

 

 

نبدأ قبل كل شيء بأن نشير إلى أن من حقنا وحظنا أن نذكر أن أحمد زيور باشا  (1864 ـ 1945)  هو خال الفنان الكبير سليمان بك نجيب وهكذا يمكن للقارئ أن يستصحب صورة وأداء ذلك الفنان المشهور في مطالعته لحديثنا عن هذا السياسي الذي اختاره الملك فؤاد والإنجليز ليخلف سعد باشا زغلول في رئاسة الوزارة بعد حادث مقتل السردار في نوفمبر 1924 إذ لم يكن من اللائق ولا من المهضوم ولا من المقبول أن يكون خليفة سعد في الحكم واحد  من أصحاب الخلافات العلنية أو الحادة معه ، وهكذا أدى هذا السياسي البارز دور أول غطاء للثورة المضادة التي بدأت منذ ذلك الحين ترتدي مسوح الدولة والحكومة لتواجه الشعب و الأمة في خطوات مضادة تحاول أن تنتقص من مكاسب الثورة  وأن تنتكس بمسار الديموقراطية ، ومع أن زيور باشا لم يكن معنيا بهذه الحقيقة فإنه أدى لها دور الغطاء بسلاسة.

اختيار موفق

جاء اختيار هذا الوزير القانوني الطابع، الجركسي الأصل، السكندري الإقامة، غير الممارس للسياسة والذي كان في ذات الوقت رئيسا لمجلس الشيوخ الوفدي ليكون بمثابة اختيار موفق ومعقول من جانب من أرادوا الالتفاف على ما حققته ثورة 1919 من انتزاع الحكم للشعب، وفضلا عن هذا فإن أحمد زيور باشا لم يكن بعيدا عن الحركة الوطنية ولا متعاليا عليها، بل كان أحد أربعة من كبار رجال الدولة السابقين قبلوا الاشتراك في الحكم من خلال الوفد، بل والاشتراك في وزارة سعد باشا زغلول ونظامه!! فقد انضم لوزارة سعد زغلول كوزير بلا وزارة في نفس القرار الذي ضم معه أحمد مظلوم رئيس مجلس النواب، وذلك بعد أن ضم سعد لوزارته كلا من محمد سعيد باشا ومحمد توفيق نسيم رئيسي الوزراء السابقين ولم يعرف عن أحمد زيور باشا أبدا معاداة للحركة الوطنية ولا الهجوم عليها..  وربما بادلته الحركة الوطنية نفس المجاملة:

  • فإن تظاهراتها في عهد رئاسته للوزارة كانت ضد وزير الداخلية إسماعيل صدقي وكأن رئيس الوزراء غير مسؤول عن أفعال وزير داخليته..
  • كما أن الائتلاف (بين الوفد والدستوريين والحزب الوطني) الذي أودي بحكمه لم يركز في الهجوم على الدكتاتورية على اسم أو مسئولية أحمد زيور باشا 
  • كما أنه لا يحظى بأي قدر مواز للهجوم والانتقاد الذي يلقاه محمد محمود باشا أو إسماعيل صدقي باشا أو رجال القصر أو السراي.

وربما يعود السبب في هذا إلى أن أحمد زيور باشا لم يعطل الدستور ولم ينشئ دستورا جديدا.. أو باختصار شديد أنه لم يسلك مسلك اللدد في الخصومة.

وكانت هذه الصفة قد مكنت أحمد زيور باشا من أن ينال كل المناصب الكبرى في هدوء: فقد رأس مجلس الشيوخ ورأس مجلس الوزراء ورأس الديوان الملكي. وقد تولي هذه المناصب الرفيعة التي كان يُعتقد أنه أكبر مما تؤهله طاقاته وجهده في الظاهر ، فكانت سمات شخصيته بكل ما فيها كفيلة بنجاحه في هذه المناصب، حتى إنه فيما بين السياسيين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، فإن أحمد زيور باشا  يحتل مكانة متميزة وإن لم تكن متقدمة، وأكرر رأيي أن السبب في هذا يعود إلي شخصيته وكفاءته، فقد تميز أحمد زيور باشا  بمجموعة من المزايا وإن افتقد مجموعة أخري من المزايا، وسنبدأ بإلقاء الضوء على طبيعة ما تميز به أما عيوبه فسنكتفي بالقول بانها عيوب سهلة الإدراك والحصر والنقد من خلال حديثنا المتفرس والمتمرس عن مزاياه .

مزاياه

فهو أولاً من أكثر معاصريه قدرة على التشخيص السليم، ذلك أنه لم يكن يقصر تعامله على الواقع فحسب، لكنه كان يري كل الحقائق بدقة، ويلخص ما يراه بصورة دقيقة جدا، وإليه ينسب القول الفولكلوري الطابع عن الموقف السياسي المصري في أثناء الحرب العالمية الثانية حين قال: إن الملك طلياني، والشعب ألماني، والحكومة إنجليزية.

وقبل هذا ينسب إليه أشهر قول متخاذل، وهو القول الذي قاله حين قبل تولي رئاسة الوزارة عقب استقالة سعد زغلول ووزارته الوطنية إذ قال بكل وضوح: إن مهمته ومهمة وزارته هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإن سياسته بالتالي هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وقد يلومني بعض القراء على الارتفاع بقيمة مثل هذا التشخيص، لكن هل يدلني أحد على غير أحمد زيور باشا وقد توصل في مثل ذلك الوقت إلى مثل هذا التشخيص بعبارات موجزة معبرة؟

الميزة الثانية في أحمد زيور باشا  أنه كان واثقا من نفسه إلي حدود بعيدة ، وهو رئيس الوزراء المصري الوحيد في التاريخ  الحديث والمعاصر الذي أعطي للرجل الثاني مساحة كبيرة من حرية التصرف والنفوذ، بل إن أحمد زيور باشا  وصل في هذا الحد ـ مرة بعد أخري إلي ما لا يُتصور أن يصل إليه غيره، وقد أعطي في وزارته الأولي سلطات واسعة لصدقي باشا حين اختاره ليكون وزير الداخلية في وزارته وليجري الانتخابات وليرتب تدخل الحكومة السافر في هذه الانتخابات و ليدير هذا التدخل أو ليزيف الانتخابات أو ليزورها، وحين أعلنت النتيجة وتشكل برلمان ولم يصدع هذا البرلمان بما كان يريده صدقي فإن صدقي استصدر من الملك قرار حل البرلمان، كل هذا أتمه صدقي علي مسئوليته من دون أن يشغل رئيس الوزراء باله به، وقد صور الدكتور هيكل كل هذا الذي نشير إليه بعبارة جميلة موحية هي من أبدع ما يمكن حيث قال ضمن ما قال :

«كان أحمد زيور باشا رجلاً بديناً ضخم الجسم طولاً وعرضاً، وكان ذكياً حاضر البديهة والنكتة، وكان مثقفاً ثقافة فرنسية عالية. تعلم في مدارس الجيزويت الفرنسية، ثم درس القانون في فرنسا، وارتقى في مناصب النيابة والقضاء حتى بلغ منصب المستشار بمحكمة الاستئناف، أعلى محاكم مصر في زمانه. وكان معروفاً بالنزاهة وحسن التقدير. لكنه كان يؤمن بسياسة القوة، ويري أن حق الضعيف رهن بإرادة القوي، وأن محاولة الضعيف استخلاص حقه بالقوة مقضي عليها بالفشل لا محالة. ولم يكن له في الحركة الوطنية نشاط معروف، وإن لم يعرف عنه أنه سخر من هذه الحركة أو تبرأ منها كما فعل نسيم باشا مثلا. وكان بطبيعة ثقافته الجيزويتية أميل إلى مصانعة الأقوياء، كما كان في طبعه من الاستهتار ما يجعله يأخذ الأمور بهوادة تتجاوز المألوف، مع علمه بهذه الهوادة وبنتقد الناس لها. لهذا كله لخص سياسته حين سُئل عن موقفه من الإنذار البريطاني، ومن المشادة العنيفة القائمة بسببه بين مصر وإنجلترا، في كلمات ثلاث: «إنقاذ ما يمكن إنقاذه». هو إذاً رجل ممكنات لا رجل مثاليات. وهو يري أنه إن قال غير هذا كان خادعاً لنفسه وللناس”.

وفي وزارته التالية ترك أحمد زيور باشا هذا الدور لرئيس وزراء سابق وهو يحيي إبراهيم باشا زعيم حزب الاتحاد، ودارت أزمة خروج الأحرار الدستوريين من الوزارة واستقالتهم وهو غائب في أوربا دون أن تهتز له شعرة واحدة.. ومع أن من حق القراء والنقاد أن يصفوه بما يستحقه هذا السوك من الوصف فإن من الظلم لأنفسنا ألا ننتبه إلى المعني الذي ارتضاه أحمد زيور باشا بإمكان وجود دور كبير وأساسي للرجل الثاني في وزارته، سواء أكان ذلك الرجل هو إسماعيل صدقي باشا أو يحيي باشا إبراهيم.

الميزة الأخرى في أحمد زيور باشا كانت هي ذلك المزيج المتوازن من الثبات الانفعالي الجيد مع التكيف السلبي المتزن، وقد تجلت هذه الميزة في معظم تصرفات أحمد زيور باشا السياسية، لكننا سنلخص للقارئ بعض الأمثلة التي تقرب الفكرة إلى ذهنه: 

  • كان على أحمد زيور باشا  أن يشكل وزارته بسرعة عقب استقالة وزارة سعد باشا، وكان أحمد زيور باشا  نفسه وزيرا سابقا للأوقاف وللمواصلات، وزامل عددا كبيرا من الوزراء في الوزارات التي عمل بها،  وهكذا كان في وسعه اللجوء إلي زملائه السابقين، كما كان في وسعه اللجوء مباشرة إلي حزب الأحرار الدستوريين المنافس للوفد ليشكل الوزارة من بين مرشحيه، وكان في وسعه أن يترك للملك وللعاملين في كواليس الملكية أن يتصرفوا في شغل المقاعد الوزارية بمن هم علي علاقة جيدة بمؤسسة الملكية، لكن أحمد زيور باشا  فاجأ الجميع بوزارة جديدة تماما لم يكن فيها أحد قد تولي الوزارة قبلها إلا هو .
  • وكانت المفاجأة الثانية أنه ضم إليها وجوها وفدية كانت في طريقها إلى تولي الوزارة عند أي تعديل وزاري وفدي قادم، ومن أبرز هؤلاء عثمان محرم وكيل وزارة الأشغال الوفدي وقد اختاره أحمد زيور باشا وزيرا للأشغال، وأحمد خشبة وكيل مجلس النواب الوفدي.
  • هكذا فإن أحمد زيور باشا  بطريقة غير مباشرة بدا وكأنه تقرب من الوفد  والبرلمان الوفدي واتقى شر معارضته ولو إلى حين، ومن الجدير بالذكر هنا أن الوفد نفسه كان على مستوي الموقف، ذلك أن الوفد على مدى تاريخه لم يجاهر بالعداوة وزارتين خلفتاه في الحكم عند تشكيلهما،  وهما وزارة أحمد زيور باشا  الأولي (1924)، ووزارة علي ماهر الثالثة (يناير 1952)، وذلك بسبب دقة الموقف الوطني الذي استغل استغلالا سيئا لإقالة الوزارة وإبعاد الوفد عن الحكم، فقد كان مقتل السير لي ستاك حدثا موجها إلى قلب الحركة الوطنية أو كما عبر سعد باشا في تعليقه السريع بقوله إن الرصاصات التي وجهت إلى السردار أصابته هو قبل أن تصيب السردار.
الثبات الانفعالي

وهكذا فإن الوفد لم يكن ليبخل على أحمد زيور باشا أو غير أحمد زيور باشا بكل ما من شأنه صيانة استقلال الوطن وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وكما نري فإن أحمد زيور باشا نجح في حدود السياسة التي تصورها لنفسه والدور الذي أيقن أنه مطلوب منه.

ليس هذا فحسب بل إنني أستطيع أن أستشهد بأمثلة كثيرة على تمتع أحمد زيور باشا بمزيج متوازن من الثبات الانفعالي والتكيف السلبي:

  • فإنه بعدما تولى رئاسة الوزارة وبعدما ظهر من الرغبة في بقائه في هذا الموضع لمدة طويلة، لم يكلف نفسه بناء حزب جديد وترك هذه المهمة للسراي وليحيي إبراهيم وعلي ماهر (حزب الاتحاد) مع بقائه هو على رأس الوزارة.
  • ثم إنه لم يجد حرجا في أن يرأس وزارة تضم الاتحاديين والدستوريين والمستقلين بنسب متفق عليها بعدما كان يرأس وزارة من المستقلين فحسب.
  • كما أنه لم يبذل أي جهد في إثناء عثمان محرم وأحمد خشبة عن موقفيهما حين تركا وزارته بعد الأسبوع الأول من تشكيلها معلنين أنهما لا يقبلان المضي في سياسته.
  • وفضلا عن هذا كله فإنه لم يتمسك بوزارة الداخلية على نحو ما كان التقليد يقضي بجمعها مع رئاسة الوزارة، ولم يجد حرجا في أن يكلف بها رجلا قويا طموحا كإسماعيل صدقي باشا مع أن الخبرة القريبة كانت تحذر من وجود رجل قوي طموح في وزارة الداخلية لأن النتيجة أنه سيحل محل رئيس الوزارة في أقرب فرصة على نحو ما فعل محمد توفيق نسيم في وزارة يوسف وهبة باشا.
النشأة والتكوين

ولد أحمد زيور باشا في الإسكندرية سنة 1864، وتعلم بمدرسة فرنسية في الإسكندرية تتبع طائفة العازاريين ، ثم في مدرسة الجزويت في بيروت. ثم درس الحقوق في فرنسا وتخرج فيها، وعمل في المناصب القضائية المصرية وتدرج فيها حتى عمل مستشاراً بمحكمة الاستئناف، ثم عين محافظاً للإسكندرية في 5 مارس 1913 خلفا لمصطفى عبادي باشا الذي كان يشغل هذا المنصب من 1906 وبقي أحمد زيور باشا في هذا المنصب حتى اختير للوزارة فخلفه أحمد يكن باشا محافظا للإسكندرية.

وقد كان أحمد زيور باشا رابع رؤساء الوزراء الأربعة الذين يعود الفضل في اختيارهم وزراء إلى حسين رشدي باشا في وزاراته (الثلاثة الآخرون هم عدلي باشا وثروت باشا وصدقي باشا الذين أصبحوا وزراء منذ 1914)   وسرعان ما أصبح هذا الوزير الجديد وزيرا مخضرما:

  • فقد بدأ وزيرًا للأوقاف في آخر وزارة رشدي الثالثة في 23 ديسمبر 1917، وبقي في هذا المنصب 16 شهرا، ثم ترك الوزارة فلم يشترك في وزارة رشدي الرابعة (10 أبريل 1919).
  • لكنه سرعان ما عاد لتولي الوزارة وليكون من أبرز الذين اشتركوا في الوزارات الإدارية الثلاث التي شكلت في أثناء اندلاع ثورة 1919. وقد تولى وزارة المعارف في الأيام العشرة الأولي من وزارة محمد سعيد الثانية (21 مايو 1919 ـ 2 يونيو 1919)، ثم تولى وزارة المواصلات بدءا من 2 يونيو وحتى نهاية عهد الوزارة في 20 نوفمبر 1919. وهكذا فإنه تعاقب على 3 وزارات في عام 1919.
  • وقد احتفظ أحمد زيور باشا بوزارة المواصلات في ثاني الوزارات الإدارية وهي وزارة يوسف وهبة (نوفمبر 1919)، وثالثتها وهي وزارة توفيق نسيم الأولي (مايو 1920)، وهكذا أصبح بمثابة وزير تقليدي للمواصلات.
  • فلما شكلت الوزارة التي عرفت باسم وزارة الثقة برئاسة عدلي يكن (مارس 1921) استمر في منصبه الوزاري كوزير للمواصلات طيلة وزارته أيضاً، هكذا فإنه ظل وزيراً للمواصلات ما بين 2 يونيو 1919 و24 ديسمبر 1921 مع أربعة من رؤساء الوزارات.
  • ثم إنه لم يشترك في وزارة ثروت الأولي ولا وزارة محمد توفيق نسيم الثانية.
  • ولكنه تولى وزارة المواصلات للمرة الخامسة في الأشهر الستة الأولي من وزارة يحيي إبراهيم (مارس ـ سبتمبر 1923) حيث ترك الوزارة في 18 سبتمبر ليعين في منصب رئيس الديوان. ومن الطريف أن يحيي إبراهيم نفسه عمل فيما بعد تحت رئاسته في وزارته الثانية.
  • ثم اختير وزيراً بلا وزارة في أثناء وزارة سعد باشا زغلول، واستمر طيلة الأشهر الأربعة الأخيرة من الوزارة (يوليو 1924 ـ نوفمبر 1924)

فلما استقالت وزارة سعد زغلول خلف هو نفسه سعداً في رئاسة الوزارة وشكل وزارته كما ذكرنا من وزراء جدد تماماً لم يتولوا أي منصب وزاري من قبل، لكنه سرعان ما عاد إلي الاستعانة بوزراء قدامى كان أبرزهم إسماعيل صدقي باشا الذي أصبح بمثابة الرجل القوي في الوزارة. وقد استمرت وزارتا أحمد زيور باشا ما بين 24 نوفمبر 1924 و7 يونيو 1926 وهي فترة طويلة بمعدلات ذلك الوقت. وقد تولى بنفسه وزارة الخارجية طيلة عهد وزارتيه بالكامل (تولاها مؤقتا في بداية عهد الوزارة الأولى، ثم تولاها بصفة أصلية من 1 ديسمبر حتى نهايته ، وفي الثانية تولي وزارة الخارجية مع الرياسة من بدايتها لنهايتها، كما تولي الداخلية مع الرياسة في وزارته الأولي قرابة أسبوعين حتى 9 ديسمبر 1924 حيث خلفه فيها إسماعيل صدقي. ثم عاد لتولي وزارة الداخلية مرة أخرى مع الرئاسة في الفترة الأخيرة من وزارته الثانية (30 نوفمبر 1925 ـ 7 يونيو 1926) بعد أن استقال إسماعيل صدقي، وهكذا فإنه لم يترك الداخلية لأحد غيره إلا صدقي باشا.

وبانتهاء رئاسته للوزارة انتهت علاقته بالمناصب الوزارية التي لم تمتد إلا لتسع سنوات فقط، ومع هذا كان حضوره الوزاري كما رأينا قوياً.

انجازاته

نأتي إلى أدوار وإسهامات وزارتيه الأولى والثانية:

  • كان أكبر إنجازات وزارتيه في نظري هو إصدار قانون الجنسية المصري (صدر في مايو 1926) وهو أول قانون للجنسية المصرية وقد كان يتميز بليبرالية شديدة نادرا ما توافرت في قوانين الجنسية.
  • وفي عهد وزارته صدر قانون إنشاء الجامعة المصرية وتنظيمها في مارس 1925.
  • وإلى وزارته يرجع الفضل في إصدار قانون النظام القنصلي في أغسطس 1925، وقد أناط إنشاء القنصليات وإلغاءها بمجلس الوزارة ووضع نظاما للوظائف السياسية (أي هيئات التمثيل الدبلوماسي).
  • في عهده تم شراء دار السفارة المصرية في لندن (وقد بلغت مساحتها ألفي متر مربع وكلفت الحكومة 125 ألف جنيه).
  • توسعت وزارته بالفعل في إنشاء القنصليات والمفوضيات في بلدان العالم المختلفة، وربما ساعده على هذا الإنجاز أنه كان يتولى وزارة الخارجية بنفسه مع رئاسته للوزارة. وقد انتقد الوفد فيما رواه الدكتور عبد العظيم رمضان ما قامت به وزارة أحمد زيور باشا من ” إنفاق مئات الآلاف من الجنيهات في إنشاء السفارات والقنصليات في بلاد ربما لم يكن فيها مصري وحد، ولا لمصر فيها مصلحة، أو لها بها أدني علاقة، وذلك لخلق مناصب لهؤلاء الأنصار، حتى وصل أمر هذه المفوضيات والقنصليات في عهد وزارة أحمد زيور باشا إلى درجة من الكثرة لم تكن تتفق وحالة مصر، أو تتلاءم مع صلاتها بالدول الخارجية”.
نظرته للسودان

ومن حسن الحظ أن أحمد زيور باشا كان رجلا وطنيا تماما في نظرته إلى السودان وارتباطه العضوي بمصر، وهي النظرة التي نالت ولا تزال تنال الافتراء والتطاول من معظم كتابات عصر ثورة يوليو التي تحرص على تكريس انفصال السودان وتعميق دعاوى ومزاعم الاختلاف الجوهري معه.

 وعلى سبيل المثال فقد وصف الدكتور عبد العظيم رمضان سياسة أحمد زيور باشا  تجاه السودان بذلك النمط من الوصف العنصري الذي كانت ثورة 1952 تتبناه بدأب شديد من  أجل تبرير  فشلها في الحفاظ على وحدة وادي النيل وكان هذا الدأب المريض حريصا على تكرار بث كراهية السودان في نفوس المصريين وتصويره بمثابة العبء على الموازنة المصرية وعلى مصر نفسها  ، ومن هنا فإننا نجد الدكتور عبد العظيم رمضان لا يجد أي حرج في أن يستخدم وصف  “السذاجة ” ليصف به تصرفات زيور باشا  التي كانت جزءا من السياق الطبيعي لتصرفات الحكومات المصرية في ذلك العهد ، وهو يصل إلى أن يقول:

“… وهذا المبلغ الذي تبرعت به حكومة أحمد زيور باشا  ليس إلا امتدادا في الواقع للسياسة الساذجة التي ظلت مصر تنتهجها حيال السودان  منذ ابتداء الحكم الثنائي، سياسة أن يكون لمصر دائما الغرم، ولإنجلترا دائما الغنم، وهي التي استمرت طوال تاريخ الاحتلال الإنجليزي حتي تخلصت ثورة 1952 من كابوسها الثقيل المحزن، فبينما كانت بريطانيا تنفرد بحكم السودان تحت ستار «حكومة السودان» الأوتوقراطية، الإنجليزية الطابع والإرادة، وتخضع موارد السودان لاستغلال الشركات الإنجليزية، مثل شركة الجزيرة التي كانت تحتكر دلتا النيل جنوب الخرطوم، وتقوم بدور المنتج الأول للقطن في السودان، في ذلك الوقت كانت مصر تقوم بسد عجز ميزانية السودان ، وتقوم بمساعدته على تكوين مال احتياطي بتقديم معونات إليه بلغت من عام 1898 إلى عام 1912 مبلغا يربو علي خمسة ملايين ونصف مليون من الجنيهات، وهو مبلغ يزيد علي نصف ميزانية السودان في هذه الأعوام الخمسة عشر، كما أخذت تقدم للسودان القروض المتوالية التي لا تتضمن تحديد أجل للوفاء، للقيام بأعمال عامة منتجة كإنشاء الكباري، والسكك الحديدية، والتلغرافات، وإنشاء ميناء بورسودان، وقد قدرت هذه القروض من 1901 إلي 1912 بمبلغ يناهز خمسة ملايين ونصف مليون من الجنيهات”.

اندفاع عبد العظيم رمضان

بل إن الدكتور عبد العظيم رمضان يندفع إلى الخلط بين أمرين:

  • الأول: هو حجم وفاء مصر بالتزامات فرضت عليها تجاه تمويل القوة الدفاعية (التي فرضت باتفاق ثنائي) على السودان وتصوير هذه الالتزامات على أنها عبء ينبغي التخلص منه على نحو ما كان النحاس يتناقش في هذا وهو يتفاوض مع البريطانيين.
  • والثاني: هو أن يتصور الدكتور عبد العظيم رمضان أن معنى هذا التفاوض أو المناقشة أن السودان نفسه عبء ينبغي التخلص منه.

وهنا ينبغي لنا أن نذكر أن زيور باشا الذي كان غطاء للثورة المضادة وصدقي باشا الذي كان رمزا للثورة المضادة لم يقبلا بما قبل به العسكريون (والدكتور رمضان) للأسف الشديد في عهد ثورة 1952 عبد الناصر، ولنقرأ ما يذكره أو ما يعلق به الدكتور عبد العظيم رمضان من حكم جائر في حق الحقيقة قبل أن يكن جائرا في حق زيور باشا أو صدقي باشا:

«وإذا كان هذا كله قد قامت به مصر في السودان قبل طرد الجيش المصري، فإن تبرع أحمد زيور باشا  بدفع مبلغ ثلاثة أرباع مليون جنيه سنويا لنفقات قوة الدفاع السودانية التي أنشئت كمظهر من مظاهر الانفصال، لم يكن هناك ما يبرره، لأن الحكومة البريطانية كانت قد أعلنت سياستها في 15 ديسمبر 1924، كما مر بنا، وذكرت أنها لا تفكر في إنهاء الحكم الثنائي إلى حين الاتفاق بشأنه في المفاوضات المستقبلة، ولهذا فإن ادعاء صدقي باشا بأنه بعمله هذا قد حفظ لمصر سودانها، قول باطل تماما، وقد كان البرلمان الدستوري في عام 1930 يفكر دائما في حذف هذا المبلغ من الميزانية، وصرح النحاس باشا بذلك للمستر هندرسون».

ومع هذا فإننا لا نستطيع لوم الدكتور عبد العظيم رمضان فقد كان الطرح الناصري قد فرض نفسه بقوة على المؤرخين والكتاب وكان بمثابة نص مقدس لا يجوز الاختلاف معه.

قرارات مهمة

وفي إطار ما جاء زيور باشا من أجله وهو الثورة المضادة فقد استصدرت وزارته عدة قرارات في إطار ما سمى بتنظيم الحياة السياسية فأصدرت قانون الجمعيات والهيئات السياسية. وقد كان الدكتور عبد العظيم رمضان من الذكاء في وصفه لسياسة أحمد زيور باشا بأن لجأ إلى الاعتماد على وصف الأستاذ العقاد لها، وكان الأستاذ عباس محمود العقاد كما نعرف قد لخص المعركة الانتخابية التي دارت في عهد أحمد زيور باشا في عبارة واحدة دالة وصادقة حيث قال: «إنها كانت حربا بين مَنْ استفادوا بحادثة السردار، ومَنْ أصيبوا بهذه الحادثة، ومنهم الأمة بحذافيرها” والحق أن قول الأستاذ العقاد على إيجازه كان كافيا لتلخيص كل شيء ولشرح كل معنى.

 ومع هذا فإننا ننقل عنه ما يلخص تدخل زيور باشا في الاعتداء على إرادة الشعب:

 ” فمن الأساليب التي اتبعتها وزارة أحمد زيور باشا  في هذه الانتخابات ، أن أغفلت العمل بقانون الانتخاب المباشر، الذي وافق عليه برلمان 1924، ورجعت إلي العمل بالقانون القديم، ولكن من حيث المبدأ فقط،  فقد ألغت انتخاب المندوبين الثلاثينين، مع أن انتخابهم لمدة خمس سنوات، وعينت موعدا لانتخابات مندوبين ثلاثينيين جدد، ثم أخذت تعبث بكشوف الناخبين، فجعلت مثلا الكشف الثلاثيني الذي أدرج فيه اسم سعد باشا زغلول يجمع ناخبين من ستة شوارع مختلفة، وكان من نتيجة هذا الترتيب، الذي عنيت به الوزارة عناية خاصة، أن سعد زغلول لم ينتخب مندوبا ثلاثينيا، وفاز عليه أحمد طلعت باشا، رئيس محكمة الاستئناف العليا بصوت واحد، ثم وقبل إجراء الانتخابات بثلاثة أيام فقط ، وبعد أن رأت الوزارة أن الوفد قد نظم صفوفه تنظيما يكفل له الفوز، قررت تعديل تقسيم عدد (106) دوائر لمصلحة مرشحي الحكومة، هذا بينما كان رجال البوليس والإدارة يضيقون علي المنتمين للوفد تضييقا شديدا، ويمنعونهم من ممارسة أي حق انتخابي، ويبذلون كل مساعدة لمرشحي الأحزاب الموالية للحكومة”.

” في يوم 8 ديسمبر 1925، أي قبل إقصاء نشأت باشا من الديوان الملكي بيومين، أصدر مرسوما بقانون الانتخاب المعدل، وأباحه لمن بلغ سن الخامسة والعشرين بشروط مالية وأدبية، من بينها أن يكون حائزا على شهادة الثانوية (البكالوريا)، أو شهادة تماثلها، كما جعل الانتخاب علي درجتين، وكان من الطبيعي أن يقابل هذا القانون بعاصفة من الاستنكار من جميع الأحزاب، فبالإضافة إلي حرمانه لكثير من المصريين الذين بلغوا سن الرشد ولم تصدر عليهم أحكام مخلة بالشرف من حق الانتخاب، مما يخالف الدستور،  فإن الحكومة كانت ترمي من وراء إصداره إلى المراوغة والتسويف  وكسب الوقت: إذ كان لابد أن يمضي وقت طويل جدا قبل أن تكتب القوائم بأسماء المستأجرين، وأصحاب الحصص، والمستحقين في الأوقاف، ودافعي الضرائب المعينة، وحاملي الشهادة الثانوية، أو الشهادة التي تعادلها، ثم بعد ذلك تشرع وزارة الداخلية في تقسيم دوائر الانتخاب وغيرها من الإجراءات التي لا تنتهي.

 وقد وصف اللورد لويد فيما أثبتته ونقلته عنه الوثائق البريطانية إصدار هذا القانون بأنه عمل غير حكيم من أحمد زيور باشا في تلك الأحوال السياسية القائمة، وذكر أن أحمد زيور باشا   أصدره على الرغم من نصيحته له بعدم إصداره. 

ومن حديث لأحمد زيور باشا نفسه ننقل عنه أنه كان في ذلك الحين لا يفتأ يعرض على الأحرار الدستوريين المناصب الوزارية، بل ويعلن أنه سيظل محافظا علي عرضها عليهم إلي أن تجري الانتخابات، مؤملا أن يتغلب العقل على الشهوات السياسية، ولكنهم مع ذلك تمسكوا بالرفض.

لكن تعاملات أحمد زيور باشا السياسية مع الأحرار الدستوريين لم تكن تترك له مجالا حقيقيا للعودة إلى سابق تعاونهم معه، حتى لو أرادوا ذلك. 

وفي عهد وزارته عُين محمد توفيق نسيم خلفاً له في رئاسة مجلس الشيوخ كما اشتدت الأزمة حول الدور الذي كان حسن نشأت باشا يلعبه باسم الملك، كما تطورت القضية الفكرية الخاصة بكتاب الشيخ على عبد الرازق على نحو ما استعرضناها بالتفصيل في كتاباتنا عن أبطالها وعن يحيى إبراهيم وعبد العزيز فهمي.

توفي أحمد زيور باشا في الإسكندرية سنة 1945 عن عمر طويل لم يسبقه إليه أنداده وإن كان النحاس باشا قد عمّر بعده أكثر منه على نحو ما عاش من قبله ومن بعده أطول منه.

ودفن في الإسكندرية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه