أحلام صغيرة أضاعت ثورة عظيمة

 

 

جاءت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين لتكشف بوضوح أسباب ضياع ثورة يناير، وأحلام شعب قدم كل ما يستحق للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية..

تلك الأهداف التي رفعتها الثورة وخذلتها النخبة السياسية والثورية فها هي انتخابات النقابة الأهم في مصر: نقابة الرأي والحرية والنخبة تكشف بوضوح انتهازية هؤلاء الذين يتصدرون المشهد المصري إعلاميا، والمسؤولين عن وعى الشعب ووجدانه..

إنها أحلامهم الصغيرة جدا والتي أضاعت نقابة كان يعول عليها كثيرا خلال زمن طويل، لكن تم تدجينها بالكامل تقريبا لتنضم إلى جارتها وسابقتها في التدجين نقابة المحامين!

صرح الحرية بـ 400 جنيه

نعم، لقد أضاع الصحفيون صرح الحرية بـ 400 جنيه (25 دولارا أمريكيا)، وببطاقة تموين مدعم من الحكومة، وببعض المزايا المادية التي لا تعادل في مجملها 100 دولار.

لقد عجزت القوي الوطنية عن تقديم مرشح يتبنى قضايا كبرى كالحريات، والمهنة، وحماية حقوق الصحفيين سواء من كانوا بالسجون، أو ممن يقعون فريسة لرجال الأعمال في صحفهم، أو تحت رحمة صحفيي الأمن في مناصب القيادات في المؤسسات القومية.

ولذا جاء الصراع على منصب النقيب بين اثنين من صحفيي الحكومة، فصار الاختيار بين من يقدم تنازلات أكثر للحكومة والنظام والأمن فكانت الكارثة!

الكارثة الأكبر كانت في تصويت الكثير ممن ادعوا الثورية -في وقت ما- للمرشح الذي أعلن أن هناك أكثر من 120 وثيقة تثبت “سعودية تيران وصنافير”، وهو في نفس اللحظة رئيس الهيئة العامة للاستعلامات التابعة للنظام، والمعنية بتجميل صورته!

لقد كانت صدمة كبيرة لكثير من النبلاء هذا التصويت الصادم من مدعي الثورية والنضال، وكان الأغرب ادعاؤهم أنهم يختارون الأقل سوءا، وأن إبطال الأصوات غير مفيد، وأن مرشحهم الذي فاز وأصبح نقيبا سوف يزيد بدل الصحفيين من 1700 جنيه إلى 2100 جنيه مصري، وأن المعركة معركة نقابية، وأهم حاجة مصالح الصحفيين!

وكأن الهيمنة الكاملة للنظام على نقابة الحرية والرأي يساوي هذا المبلغ المتدني!

أما أغرب ما في هذه الحكاية المعبرة عن أسباب ضياع ثورة يناير العظيمة؛ فكانت أن هؤلاء حثوا الصحفيين على أن يختاروا لمجلس النقابة أعضاء رافعين شعارات استقلال النقابة والدفاع عن حرية المهنة والحفاظ عليها!

فكانت اللطمة القوية إذ اختار الصحفيون من يحقق المصالح القريبة لهم، كما اختارها مدعو الثورية والنضال الذين اختاروا الأحلام الصغيرة والمكاسب القريبة، والتي تحوم شكوك حول تنفيذها!

هكذا أضاعت المكاسب القريبة نقابة الصحفيين كما أضاعت أحلام صغيرة ثورة يناير!

فبينما سلك الصحفيون هذا المسلك النفعي، انشغل ثوار 25 يناير بأحلام صغيرة بدأت منذ وقت مبكر كحلم الظهور التليفزيوني، ومقابلة الكبار في المؤسسة العسكرية أو في نظام مبارك.

فقد اكتظت شاشات التلفزيون وقنوات القطاع الخاص بمئات الشباب منهم: الثوري الحقيقي والمزيف، كما استقبلت الشاشات آخرين من قيادات الميدان، وتحولت الثورة من حالة ثورية إلى حاله إصلاحية وتلك أول معاول تبريد الثورة!

تعديلات دستورية

كانت تعديلات الدستور في 19 مارس 2011 ثاني الأحلام الصغيرة؛ فقد استطاعت المعركة الانتخابية شق الصف الثوري تماما؛ وخصوصا مع انضمام التيار الإسلامي بكامله تقريبا إلى صف التعديلات والانتخابات أولا، والحفاظ على المادة الثانية من الدستور الخاصة بالشريعة في التعديلات (مش عارف مين قال لهم إن ده مادة ممكن تتغير احتمال الوزير اللي بنكهة الثورة!)..

فكانت الأحلام الصغيرة بالاستحواذ على مجلسي الشعب والشورى، والحفاظ على المادة الثانية للدستور عاملا في شق الصف بين القوي السياسية والثورية.

والحقيقة أن التعديلات الدستورية، وسرعة إجراء انتخابات لم تكن مفضلة عند القوى الإسلامية والإخوان فقط؛ بل كانت مفضله أيضا لدى معظم السياسيين والقوى السياسية التي مارست السياسة في عصر مبارك ولم تكن تحلم بأكثر من إقالة وزير داخلية النظام في ٢٥ يناير..

كما لم تكن تحلم بأكثر من كرسي في برلمان مبارك ونظامه ربما يحقق أمانهم الشخصي.

فهل كان لدى حزب كالتجمع مثلا إلا الحصول على ١٠ مقاعد في البرلمان.

نعم إنها الأحلام الصغيرة التي لا علاقة لها بهذا الشعب الذي استمر موجودا في الشارع عامين كاملين في محاولة للعيش بكرامة وعدالة..

لكن تلك كانت أحلام نخبته: الإصلاح وبعض المكاسب التي تشبه مكاسب الصحفيين في الـ٤٠٠ جنيه مصري!

هكذا أضاعت أحلام صغيرة حلم وطن، كما أضاعت أحلام أصغر حلم نقابة مهنية حرة.

الانتخابات وتبريد الثورة

أما ثالث الأحلام الصغيرة التي كانت مسمارا في نعش تبريد الثورة؛ فهي الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية..

تلك الانتخابات التي لعب عليها نظام مبارك ومجلسه العسكري الذي كلفه بإدارة البلاد على كل القوي السياسية، وصارت دعوات تشكيل مجلس رئاسي مدني انتقالي والذي كان المنجى من السير في طريق نظام مبارك هو الطريق الأسلم..

لكن الدعوات ذهبت أدراج الرياح مع تعاظم أحلام التيار الإسلامي في الحكم بعد حصوله على أغلبية مجلس النواب، وتعاظم أحلام آخرين في الرئاسة بعد إعلان الإخوان عدم خوض انتخابات الرئاسة، وهو ما عظّم الأحلام لدى القوى الأخرى لتقاسم السلطة مع التيار الإسلامي.

هكذا صارت الأحلام الصغيرة والتي بدأت بالظهور في تليفزيون الدولة، ثم صارت مقاعد برلمانية وبعدها صار تنافس على كرسي الرئاسة تداعب أحلام نخبة أحلامها تحت قدميها.. ولا أبالغ إن قلت إن الأمر كان مجرد بحث عن أمان شخصي ليس أكثر..

أما أغرب ما في هذه الأحلام التي تحولت إلى كوابيس لاحقا أنها جميعا تمت إدارتها من جانب دولة مبارك العميقة، وتحت إشراف نظام قضائي مباركي وإعلام مبارك، والأكثر كارثية أن الذي كان يقوم بدور الوسيط والإدارة العليا هو مجلس مبارك العسكري الذي كان يدير البلاد.

ومع ذلك لم تنتبه النخبة السياسية والثورية لهذا إلا القليل منهم وخاصة الشباب الذين كانوا لا يوافقون على كل هذه الأحداث؛ لكن الشباب كان الصوت الأضعف أو الأقل في ظل بحث نخبة عن مناصب أو أحلام صغيره وشعب يتم تشويه حركته ووجوده في الشارع بأنها ضد مصالحه، ودع عجلة الإنتاج تسير..

تلك المقولات التي رددها إعلام مبارك أيضا من حكومي إلى خاص (على الرغم من مرور خمس سنوات دون أي احتجاج  في الشارع إلا أنه لا إنتاج ولا تقدم في أحوال الشعب بل العكس تماما).

هكذا كان الصوت الأقل هو الذي نادى باستمرار الثورة حتى إقامة نظام بديل لنظام مبارك الذي ظل يحكم كل السنوات الماضية من يوم التكليف حتى الآن.

كذلك كان الصوت الأضعف والأقل في انتخابات نقابة الصحفيين إذ دعا بعض الصحفيين إلى إبطال الصوت الانتخابي، وكانت النتيجة وجود ٢٣٥ صوتا باطلا أرادوا أن يقولوا لا لنقيب فرط في الأرض.

لا لنقيب حكومي..

لا لنقيب يعمل لأجهزة الأمن..

لا لمرشحي نظام مبارك وأولاده.

يبقى في هؤلاء الأمل كما هو باق في جيل جديد من الشباب مثل أحمد الطنطاوي وأحمد يحيى، وكل الذين تظاهروا يوم الجمعة ١ مارس وتراوحت أعمارهم ما بين ١٦  و٢٠ عاما والذين تم القبض عليهم جميعا من قبل أمن النظام.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه