أحسن جيوش في الأمم جيوشنا

أصابتني الدهشة عندما تلقيت خبر التحقيق مع الإعلامي خيري رمضان بتهمة إهانة الشرطة المصرية، ومنبع دهشتي ومصدرها المتيقن أن الرجل لم يتوان لحظة عن المدح المبالغ فيه لكل أجهزة الدولة للحد الذي ينطبق عليه التعبير المصري «مسح الجوخ»… وعندما استمعت لبرنامج «رمضان» موضوع الاتهام شعرت بأنه من حق أي رجل شرطة أن يغضب من الرجل لما في كلامه من إهانة، ولو بغير قصد لأسر رجال الشرطة، وخاصة في الموضع الذي يتعرض لزوجة رتبة في الشرطة لجأت للعمل في المنازل لضيق ذات اليد، فهذه المكاشفة تتعارض مع فلكلور الستر المجتمعي المصري، ولكني بالطبع ضد أن تُترجم هذه الغضبة الشرطية إلى اعتقال، وكان يمكن أن تتوقف عند الرد أو التصويب وخاصة أن الإعلامي المذكور من رجالهم المقربين.

  •  قالوا إيه علينا دول   

  ازدادت حالة الاندهاش عندي من رجال جيشنا العظيم عندما توقعت منهم الغضب قي مواجهة أغنية هزيلة هزلية عنوانها «قالوا إيه علينا دول قالوا إيه؟؟!».

والأغنية لا تتناسب مع جيش مصر بل وأراها مهينة لكرامته فليس بمثل هذه الكلمات الركيكة يعبر الشعب عن التفافه حول جيشه.

أعتقد أن ركاكة الكلمات وهزليتها نابعة من ركاكة الهدف وهزليته بل وغرضه غير المريح… فالكلمات ليست موجهة لجيش مصر بالقدر التي يريد أن يوجهها المشرفون عليها والمخرجون لها لنظام الحكم العسكري، لتحمل معها مضمونا غير مباشر يشير لتأييد نظام الحكم العسكري القائم، وليس التفاخر بالجيش المصري والإشادة بدوره كدرع للشعب، وإنما المقصود بهذه الكلمات تأكيد أن الجيش أصبح درعا للحاكم.

وهنا يجب أن نوضح أن الجيش هو من أهم المؤسسات في الوطن، وهو الدرع الحامي له وهو الضامن لنزاهة واستقامة الحياة السياسية المدنية في حالة جنوحها نحو الاستبداد، ومن هنا جاء الفصل الجذري والقطعي بين دور الجيش ودور مؤسسة الحكم، فليس من أدوار الجيش الحكم وإدارة شؤون البلاد، ولكنه يمثل أهم صمام أمان في هذه الإدارة، ويجب أن نفرق بين الدور الطبيعي للجيوش في ظل الحكم المدني والذي يهدف لحماية الأوطان وضمان سير ونزاهة الحياة السياسية طبقا للدستور والقواعد المؤسسية وضمان سيادة الإرادة الشعبية، والدور غير الطبيعي للجيوش في ظل الحكم العسكري وسيطرة الجنرالات، والذي يحوّل الجيش إلى أداة لحماية الحاكم الجنرال وكبار ضباطه، وإخضاع الشعب لنزواته وقراراته وحكمه الذي يفتقر للخبرة السياسية الطبيعية بحكم النشأة العسكرية التي تخضع لقواعد لا تصلح إلا في المجتمعات العسكرية.

التجارب التاريخية كلها تؤكد مدى الانهيار الذي تنتهي بها أي حقبة ساد فيها الحكم العسكري حتى لو كانت مشفوعة ببعض الإنجازات التنموية، إلا أن النهاية دائما ما تكون الانهيار الناتج عن فشل العسكر في وضع قواعد مؤسسية مدنية للحكم قائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وهي قواعد ومبادئ تتعارض مع طبيعة المجتمع العسكري والعلاقات داخله، ولهذا انتهت كل النهضة التنموية التي حققها محمد على في الدولة المصرية الحديثة بسقوط مصر بعد موته في بحر من الديون انتهت بدوامة الاحتلال عام 1882 في ظل تهميش الشعب الذي لا يمثل أي وجود في ظل أي حكم عسكري، وهو أيضا ما حدث بعد موت جمال عبد الناصر دون أن يؤسس قاعدة شعبية ديمقراطية تحمي الإنجازات التنموية فانهارت الدولة المصرية، وبدأت خطوات التبعية للصهيونية والإمبريالية وأيضا في ظل تهميش الشعب الذي لم يكن له أي دور في إدارة الحكم الناصري.

ورغم ذلك لم تكن فترة الحكم العسكري الناصري تحمل سمات الفجاجة التي يحملها النظام الآن، وكان النظام به قدر من الحياء جعله في بعض المواضع يضع الشعب كعنصر من عناصر معادلة الحكم، وإن كان في حدود سقف محكوم وإطاره، وهو ما يفسر جدية الكلمات والأشعار التي عبر بها الشعب عن حبه واحترامه للجيش عن الكلمات الهزلية السائدة الآن.

  • أحسن جيوش في الأمم

علاقة الشعب المصري بالجيش علاقة قديمة وقوية وخاصة في ظل فترات الاحتلال الأجنبي، خلال ثورة 1919 وفي ظل الاحتلال الإنجليزي وسيطرة الضباط الجراكسة على الجيش المصري كتب بيرم التونسي مسرحيته شهر زاد، والتي من خلالها ابتكر بذكاء مشاهد حرب يظهر فيها الجيش المصري، وليعبر بيرم في مسرحيته بشكل غير مباشر عن تأييد المصريين لجيشهم المصري ودعمه في مواجهة هيمنة الاحتلال، وفي المسرحية كانت كلمات بديع خيري وألحان سيد درويش: «أحسن جيوش في الأمم جيوشنا وقت الشدايد تعال شوفنا… ساعة ما نلمح جيش الأعادي نهجم ولا أي شيء يحوشنا… مستقبل الأمة بين إيديكم في الوقت ده نعتمد عليكم ردوا آدي الشعب بيناديكم بيقول لكم احفظوا شرفنا»

وبالطبع فرق بين هذه الكلمات بسيطة التركيب عميقة المعاني وكلمات أغنية هزلية المفروض أنها حماسية وللجيش تبدأ بـ«قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه؟»!!!

في الستينيات عندما كان الشعب ملتفا حول جيشه في مواجهة تحد حقيقي يمثله الخطر الصهيوني على الحدود الشرقية عبر بصدق عن رؤيته لجيشه من خلال كلمات فاروق جويدة بأغنية لحنها كمال الطويل وأصبحت نشيداً للجيش… تقول كلمات الأغنية في مطلعها «رسمنا على القلب وجه الوطنْ نخيلاً ونيلاً وشعباً أصيلاً… وصناك يا مصر طول الزمنْ ليبقى شبابك جيلاً فجيلا، على كل أرض تركنا علامة قلاعا من النور تحمى الكرامة».

لا وجه للمقارنة بين كلمات مثل هذه الكلمات الصادقة التي عكست رؤية شعبية صادقة للجيش وكلمات تقول: «خالد مغربي دبابة… بطل وجنبه إحنا غلابة… وقالوا إيه؟»!!!!

  • كلمات صادقة تتحدى النكسة

بعد نكسة 1967 غض الشعب المصري النظر مؤقتا عن القيادة السياسية العسكرية التي تسببت في الهزيمة، وحمل الشعب وعساكر جيشه وصغار ضباطه عبء مسؤولية رد العدوان الصهيوني والاستعداد لمعركة استرداد الكرامة، وفي هذه الفترة عبر الشعب عن تقديره لعساكر جيشه من الفلاحين والبسطاء بكلمات أحمد فؤاد نجم جاء فيها «دولا مين ودولا مين…دولا عساكر مصريين

دولا مين ودولا مين…دولا ولاد الفلاحين

دولا الورد الحر البلدي…يصحى يفتح اصحى يا بلدي

دولا خلاصة مصر يا ولدي… دولا عيون المصريين

دولا القوة ودولا العز»

فرق كبير بين كلمات أرادت تمجيد شهيد فوصفته بالأسطورة، وهو لفظ أصبح «ملطشة» للميديا وصفت به كل المهمشين في المجتمع في أفلام محمد رمضان «الألماني»، وكلمات معين بسيسو التي مجد بها الشهيد مع بدء الاجتياح الصهيوني للمنطقة العربية واحتلال فلسطين

«أنا إن سقطْتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح

واحمل سلاحي لا يخفكَ دمي يسـيل مـن الجراح

وانظر إلى شفتي أطبقتـا عـلى هـوج الريـاح

وانظر إلى عيني أغمضتا عـلى نـور الصـبـاح»

كلنا نقدر وندرك ونحترم الجيش  ولكن فرق من يري الجيش مؤسسة تحمي الشعب وترد العدوان عنه، وتحافظ على كرامته، وبين من يري الجيش أداة شخصية في يد الحاكم يطوعها طبقا لأغراضه… تحية لجيش مصر صمام الآمان للشعب.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه