أثافي الخراب .. الطّغاةُ والغزاةُ والغُلاة

فمن الذي أتاح لنظام بشّار الأسد أن يرتكب كلّ هذا الدّمار والخراب في سورية غير الغزاة؟! ومن الذي أفسح المجال وما زال أمام السّيسي ليوقع بمصرَ كلّ هذا الخرابَ المرّ؟!

 

في الأوطان التي تعيشُ التّخريبُ منهجًا يوميًّا، ويتكدّس فيها الخراب في المجالات كافّة، تُلقى التّهم، ويتبادلُ الجميعُ تحميلَ المسؤوليّات.

وتعلو الآن نغمةُ تحميل الشّعوب المسكينة المقهورة المسؤوليّة عمّا تعانيه البلاد من دمارٍ وتبارٍ.
ولم يكن أوّلها كما لن يكونَ آخرها ما أعلنه وزيرُ الشّؤون الإسلاميّة السّعودي من مسؤوليّة الشّعوب عمّا حلّ ببلدانهم؛ حيث قال في ندوةٍ في الرّياض قبل بضعة أيّام: “سوريا هذه الدّولة القويّة، وإن كان فيها ما كان فيها، انظروا ماذا أصبح شعبُها، مشردًا، فقيرًا، معدمًا، ذليلًا، يجوب جميع بلاد العالم، لأنّه سمح لدعاة الفتن والشّر والمتاجرين بعواطفهم أن يحرّكوا هذه الشّوارع، ويحصل ما حصل منهم، وأصبحت سوريا كما ترَون”

إنّ هذا النّوع من التّلبيس الشّيطاني تمارسُه عموم الأنظمة ومرتزقتها من الأقلام المأجورة ووسائل الإعلام الموجّهة، في شيطنة الشّعوب وتشويه مطالبها العادلة لتبقى وادعةً خاضعة.

الطّغاةُ يجلبونَ الغزاة

هذه المقولةُ تُنسَب بشكلٍ غير دقيقٍ إلى عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون، ومع الاحتراس من هذه النّسبة إلّا أنّ ذلك لا ينفي عن المقولة دقّتها.

فالغزاة هم الذين يدعمون الاستبداد ويثبّتون أركانه، وهم الذين يصمتون حيال ما يقوم به الاستبداد من جرائم ومجازر وتدمير، رغم علوّ الصّوت بالشّجب والاستنكار والوعيد، فكلّ ذلكَ لا يعدو المثل العربيّ القائل: “تسمع جعجعةً ولا ترى طِحنًا”

فمن الذي أتاح لنظام بشّار الأسد أن يرتكب كلّ هذا الدّمار والخراب في سوريا غير الغزاة؟! ومن الذي أفسح المجال وما زال أمام السّيسي ليوقع بمصرَ كلّ هذا الخرابَ المرّ؟! وحدِّثْ مثل ذلك عن القذافي وابن سلمان وغيرهما من الطّغاة المستبدّين.

 فالطّغيان هو الذي يحيلُ البلاد ركامًا، ويحوّلها إلى مسخٍ في السّيادة والقوّة، وعندما تهتزّ أركانه وتتضعضع قواعده يسارعُ الغزاة إلى التّدخّل المباشر وقد غدت البلاد جسمًا منهكًا لا يقوى على قول لا لأيّة جرثومةٍ عابرة.

ورحم الله الشّاعر اليمنيّ عبد الله البردّوني إذ يقول:

حـكّامُنا إن تـصدَّوا لـلحمَى اقتحمُوا

وإن تـصدَّى لـه الـمستعمرُ انسحبُوا

هـم يـفرشونَ لـجيشِ الغزوِ أعينَهم

ويـدَّعـونَ وثـوبـًا قـبل أن يـثِبُوا

الـقـاتلونَ نـبوغَ الـشّعب تـرضيةً

لـلـمُعتدين ومــا أجـدَتهُم الـقُرَبُ

لـهم شموخُ “المثنّى” ظـاهرًا ولهم

هـوىً إلـى “بـابك الخرمي” ينتسبُ

 

فالذي فتح المجال على مصراعيه لسوريا كي تصبح معبرًا للطائرات المعادية كلها صهيونيّةً وأمريكيّة وروسيّة هو النّظام المستبدّ لا الشّعب الذي طالب بحريّته.

والذي تسبّب بتدخّل النّاتو في ليبيا هو النّظام المستبدّ لا الشّعب الذي خرج مطالبًا بحريّته، ومثل ذلك كلّ حالات التّدخّل العدوانيّ في الدّول التي يحكما الطّغاة.

فعندما يأتي من يحمّل الشّعب السّوريّ مسؤولية خراب سوريا وأنّهم تسببوا بفقدان سيادتها، وكذلك يأتي من يصف ثوّار ليبيا على سبيل المثال بأنّهم ثوّار الناتو؛ فإنّهم يمارسون التّلبيس الشّيطاني لخدمة الطّغيان والاستبداد والإجرام.
 

الطّغاةُ والغزاةُ يجلبونَ الغُلاة

وما أن تتحوّل البلاد إلى مزرعةٍ مستباحةٍ، يشيع فيها القتلُ بأصنافِه، والخراب بأشكاله كلّها، فتعاني ظلم الطّغاةِ وبطشهم من مجازر واعتقالات وتدمير، وتعاني من قصف الغزاة وجورهم فسرعان ما تتشكّل المجاميع التي تندّ على الفكر الوسط، وينمو الغلو ويترعرع التّطرّف ويُصنَع على عين الطّغاة والغزاةِ معًا.

وكلٌّ من الطغاة والغزاة يتّخذ من الغلاة ذريعةً لبطشه وإجرامه تحت عنوانٍ عريضٍ يهلّل له الجميع وهو “مكافحة الإرهاب”؛

لكنّ الحقيقة هي أنَّ الغلاةَ هم مَجلَبةُ الطّغيان والغزو، وهم ثمرة ونتاجُ البطش والإجرام، وهم بعد إنتاجهم أدواتُ التّشريع التي يستندُ إليها الطغاةُ في إجرامهم والغزاة في تدخّلهم وبطشهم.

وحيثما حلّ الغلوّ حلّ الخراب، وما دمّر ثورات الشّعوب شيءٌ كما دمّرها الغلاة وفتكوا بها، فهم بهذا قرّة عين الحكّام الظلمة، وموضع تقدير الغزاة مهما أعلنوا الحرب على “الإرهاب” وجعجَعوا بذلك.

فهل فتكَ بثورة الشّعب السوريّ شيءٌ كما فتكت بهم “داعش”؟!، وهل أحال ‏الأرض خرابًا بعد أن تحرّرت من قيد الاستبداد إلّا سواد القاعدة؟! وهل بغّض ‏النّاس بالثّورة والشّريعة وحكم الإسلام أحدٌ ‏كما فعل الغلاة من المتأسلمين؟!

وهذا هو الحالُ في كلّ أرضٍ حلّ بها الغلوّ واضعًا يده بيد الطّغيان والغزو.

وهكذا هو الخراب؛ خراب البلدان والأوطان لا يستوي إلّا على أثافي ثلاثة هي الطّغاة والغزاة والغلاة؛ الذين هم منبع الشّرور كلّها.

وهم غريبون عن شعوبنا الطيبة، لا ينتمون إليها ولا إلى ثقافتها ولا إلى مطالبها، شعوبنا التي خرجت تطالب بأدنى حقوقها في الحريّة والعدل والعيش بكرامة، ليجدوا أنفسهم في مواجهة هذه الوحوش الثلاثة لتحيلُ أحلامهم كوابيسَ مرعبة، وتحوّل أوطانهم ركامًا وخرابًا.

وإنَّ تحميل الشّعوب وثوراتها ومصلحيها مسؤولية الخراب الحاصل ما هو إلّا وسيلةٌ رخيصةٌ تخدمُ الطّغيان وعضُدَيه الغزو والغلوّ وتشرّع لهم طغيانه وغزوهم وإجرامهم.

 كما أنَّ التعامل الواجب مع هذه الأثافي الثلاثة ينبغي أن يكون على أساس اشتراكها في الخراب، وتعاضدها في التّدمير، فلن تنكفئ القِدرُ التي تغلي دمارًا إلّا بالخلاص من هذه الأثافي التي تحملُها؛ فلا خلاص إلّا بقلبِ الأثافي الثّلاثة لتنكفئ القِدرُ في سبيلِ حياةٍ كالحياة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه