“أبو الخير نجيب” الصحفي الأجرأ الذي أشار الأمريكان بتأبيدته

 

إذا كان في إمكانك أن تستحضر أرواح عيّنة عشوائية لمجموعة من المصريين الراحلين ممّنْ كانوا على قيد الحياة في أول عهد 1952 وسألتهم عن أجْرَأْ وأقوى صحفي، فإنهم سيقولون وبالإجماع: أبو الخير نجيب.

نعم فقد كان الأستاذ أبو الخير نجيب نموذجاً بارزاً للصحفي الجرّيء الجسور الذي يخوضُ معارك مُتعدّدة بصدرٍ مفتوحٍ وقلب ثابت غير مُعتمد إلا على صواب مرجعيته ، و غير متكئ إلا على ثوابت رأيه، وهو لا يتريث ولا يتحسب ،ولا يتمهل ولا يتحوط ، ولا يستشير ولا يستدير، ولا يتلفت ولا يتلبث وإنما هو كالعاصفة التي تعرف طريقها من قلبها المشتعل حتى لو لم يكُن الناس يعرفون هذا الطريق أو يتوقعونه، وهكذا لمع اسمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى قيام ثورة 1952 ثم أزمة 1954 و ما أعقبها من حكم العسكر الصريح الذي أنهى كل وجود مُحتملٍ للكلمة والصحافة ، ومن ثم فقد انتهى العصر الذي يمكن أن يستوعب دورا جسورا كدور الأستاذ أبو الخير نجيب ، حتى  لو لم يكن فقد حُرّيته بالفعل على يد رجال الثورة، وفقد معها كلَّ ما يملِكُه من حقوق الإنسان التي دمّرتها التحرشات و التحابيش الناصرية.

ومن الإنصاف للحقيقة ولأنفسنا ولأبو الخير نجيب أيضا أن نذكر في بداية حديثنا عنه أن كثيرا من الأحداث والمواقف والسلوكيات التي نسبت إليه والتي لاتزال تنسب إليه لم تكن ملكا خالصا له، وإنما نسبت إليه بعضها على سبيل أنه أصبح أيقونة للشجاعة والإثارة معا وللقوة والجرأة معا. وينطبق هذا أيضا على بعض القصص الصحفية المفتعلة التي راجت ثم نسب إليه أنه هو مبدعها بينما لم يكن هو كذلك، وإن كان حريا بأن يكون.

وباختصار شديد فإن القول بأن أبو الخير نجيب هو آخر أساطير الصحافة المصرية ليس فيه مبالغة ولا مجاملة ولا اعتداء على حقوق أي من الأخرين، فقد كان هذا الرجل الشجاع أولى الناس بهذا اللقب.

ولا شك في أن الأستاذ أبو الخير نجيب كان واحدا من أبرز الصحفيين الذين مهّدوا بالمدفعية الثقيلة لقيام ثورة 1952، ولا شك في أن دوره في الحثّ على قيام الثورة يفوق دور كل الصحفيين المُحترمين، ولا يقلُّ أهمية كما لا يقلُّ تأثيراً عن دور الأستاذ إحسان عبد القدوس أو دور الأستاذ أحمد أبو الفتح أو دور الأستاذ أحمد حسين وغيره. وبالطبع فإن كبار الأساتذة الصحفيين الباقين كانوا من أركان نظام ما قبل 1952 ولم يكونوا من دُعاة الثورة عليه.

قضى الأستاذ أبو الخير نجيب 19 سنة في السجن، وهي أطول فترة قضاها صحفي مثله، لكن يبدو أن عبد الناصر كان قد قرّر له ألا يرى الحرية وهو حيّ، ولهذا فإنه ظل معتقلا إلى أن كان من المُفرج عنهم في أوائل عهد الرئيس السادات.

جمع الأستاذ أبو الخير نجيب في تحدّيه بين تحدّي البريطانيين وإمبراطورتيهم والأمريكيين وسطوتهم والملك فاروق ودولته والرئيس عبد الناصر وثورته، وهو الوحيد الذي حقّق هذا كله بقلمه بشجاعة وتفرّدٍ ومن دون استناد إلى مؤسسة أو مدرسة أو حزب.  ولهذا فقد وُصِفَ مُؤخراً بأنّه صاحب صحافة الاعتزاز بالنفس (التعبير للفنان طوغان) كما اشتهر عنه قوله للنائب العام: يا سيدي أنا لا أقبل المساومة على حريتي.

من الممكن أن يظُنّ القارئ أن عبد الناصر وأمثاله كانوا هم الذين أدركوا خُطورة الأستاذ أبو الخير نجيب من خلال أرقام التوزيع ومن خلال أصداء ما كان يكتُبُه، لكن المُتأمّل للمعاملة التي لقيها أبو الخير نجيب ، وهي معاملة شديدة القسوة ، وصلت إلى حد الحكم بالإعدام الذي لم يُخفّفْ إلا إلى  الأشغال الشاقة المؤبدة (مع تنفيذها بقسوة ) يفهم بكل وضوح أن سادة الموقف المستترين من الأمريكيين كانوا هم الذين يُدركون خطورة أبو الخير نجيب، ومن العجيب أن تقارير الأمريكيين التي ترجمها الدكتور رءوف عباس في كتابه شخصيات مصرية بعيون أمريكية تنطق بهذا المعنى بكلّ وضوح، فعلى حين حافظ الأمريكيون على تفصيلات علاقتهم بالأستاذ هيكل من أن تكون محل نشر في مثل هذه التقارير ، فإنهم ضمنوا هذه التقارير ما كانوا يُريدون تسريبه لابتزاز أو تشويه تسعة من الصحفيين الوطنيين كانوا حسب السن هم الأساتذة  فكري أباظة باشا وإدجار جلاد وأحمد الصاوي وأبو الخير نجيب ومصطفى أمين وعلي أمين وجلال الحمامصي وأحمد أبو الفتح وإحسان عبد القدوس ، وقد بقي هؤلاء لامعين بعد هذا ، بل بقي بعضهم على قيد الحياة إلى عهد الرئيس مبارك.

وربّما أدًلّك على ما يُؤكّدُ هذا المعنى أو الاستنتاج من خلال ما كان الأمريكيون حريصين على نسبته إلى أبو الخير من علاقات تمويلية تفوق في تنوّعها ما تحصُل عليه أيُّ قناة تلفزيونية مُعاصرة من قبيل CNN أو BBC.

وهذا ملخص [شبيه بالملخصات الدراسية] لما يُثبتُه الأمريكيون في تقريرهم عن الأستاذ أبو الخير نجيب بكلّ حرص على تشويه الرجل وتخويف أنفسهم والآخرين منه:

  1. تلقّى مُخصّصات مالية من حكومة الوفد 1942
  2. رأس تحرير “النداء الجديد” (1946) التي كان يُصدرُها ياسين سراج الدين لمصلحة الوفد
  3. رأس تحرير جريدة “الجمهور المصري” التي موّلها محمد زيد وسجّل اسمه في الترويسة باعتباره المدير العام بينما كان أبو الخير صاحب الامتياز ورئيس التحرير.
  4. تُشير التقارير (هكذا تقول تقارير السفارة الأمريكية التي هي نفسُها : تقارير) إلى أنه حصل على أموال من حكومة إسماعيل صدقي ومن حكومة إبراهيم عبد الهادي.                                                       
  5. كان يتلقّى دعماً مالياً من الإخوان المسلمين.
  6. ذكر مصدر أمريكي (هكذا تقول التقارير الأمريكية) أن اسمه يَرِدُ في قوائم المساعدات التي يُقدّمها السوفييت للصحفيين الأجانب.
  7. تزعُم بعض التقارير (هكا تقول التقارير) أنه يتلقّى أمولاً من المفوضية (السفارة) البولندية والمفوضية (السفارة) المجرية بالقاهرة.

هكذا نرى كل هذه الاتهامات التي هي من قبيل يُقالُ ، ويُقال ، و تشير ، وتذكر …. والتي لا تخرُجُ عن إطار تمويل يوصف بأنه معروف ولا نقول إنه مشروع (وإن كان مشروعاً عند الأمريكيين) وهي اتهامات تدور في حدود الأموال اللازمة لتسيير حركة صحيفة [فحسب] ، وليس إلى إقامة إمبراطورية إعلامية أو شخصية.. لكنه في مواجهة هذه الاتهامات التي يتفنّنُ الأمريكيون في صياغتها في تقاريرهم وابتزاز الحكومات وصناع القرار بها ، نجد الأهم وهو تعبير الأمريكيين عن مخاوفهم من الاتجاهات الفكرية والتحريرية للأستاذ أبو الخير نجيب وهم يُعبّرون عنها بصراحة تُشَرّفُ أبو الخير نجيب بل تمجده .

  1. تأييده للسوفييت : قديم ، ودفاعه عنهم موجود في مقالاته.
  2. مقالاته الآن تُؤيّد السوفييت علنا ، وتُعادي الولايات المتحدة الأمريكية صراحة.
  3. يُعارض سياسة الولايات المتحدة في كوريا.
  4. يتّهم الإمبرياليتين بالسعي لسحق القوميات الآسيوية.
  5. يتّهم الأمريكان بمُساعدة الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية
  6. يُطالب أمريكا بالكف عن تقديم السلاح لأعداء حرّية الشعوب
  7. يدعو إلى التحالف مع الصين وروسيا وبلاد الكتلة الشرقية
  8. دافع عن السفير البولندي السابق في اتهامه بأنه كان وراء حريق القاهرة في 26 يناير 1952.
  9. اتهم أمريكا بالتواطؤ مع بريطانيا في إيهام العرب بأنها تسعى لرفاهيتهم
  10. نشر مقالات عن اضطهاد السود في أمريكا
  11. تنْشُرُ صحيفته مقالات لليساريين تُعبّرُ عن مواقفهم الفكرية تعبيراً صادقاً.

 

أما الأستاذ أبو الخير نجيب نفسُه فكان رجُلاً عصامياً مُتميّزاً ولد 1913 (ويقال في عام 1910) أي أنه كان يَكبُرُ الأساتذة مصطفى أمين وعلي أمين وجلال الحمامصي بعام (أو أربعة أعوام)، وعرف على أنه نجل الصحفي المصري المعروف المغامر حافظ نجيب. و تمثلت أبرز  إنجازاته الصحفية المؤسسية في ثلاث صحف متميزة أصدرها ،  وهي على التوالي مجلة  مسامرات الحبيب، و صحيفة النداء، صحيفة الجمهور المصري.

بدأ الأستاذ أبو الخير نجيب عمله المهني وهو يستنشق حبر الصحافة، موظفا أو عاملا في مطبعة، وسرعان ما كتب ، و سرعان ما نشرت له الصحف، وفي 1932 أصبح مُحرّراً بالأهرام أي وهو في الثانية والعشرين من عمره أو قبلها . ثم بدأ الأستاذ أبو الخير نجيب صعوده الصحفي السريع والواثق ، و أصبح من أصحاب الأسماء بل من أصحاب الأساليب ، فالأسلوب هو الرجل ، وعرفت كتاباته بالصراحة والجسارة حتى وإن كان فيها بعض التطاول أو التجاوز عن معايير اللياقة ،  بيد أن ما رفع من قيمة أسمه كان هو تمسكه المفرط بحرية التعبير ، وهو ما أثبتته  له دون قصد تجارب السلطة في  تقييد الحرية التي  اختطها لنفسه ، على الرغم من القيود التي لقيها  مرة بعد أخرى ، فرفعت من اسمه من قبل أن يُصدر أعظم صحفه الناجحة وهي جريدة الجمهور المصري (وهي ذروة نجاحه في الصحافة المصرية) 1950 ، وقد وصل توزيعها إلى أرقام قياسية وتجاوزت أعلى معدلات التوزيع في ذلك الوقت ، وبخاصة في أثناء تأييدها المخلص (بل والعملي  والميداني ) لمعارك المقاومة الشعبية في قناة السويس 1951 .

هكذا كانت الخطوة التي وضعته في الصف الأول قبل أن يصل إلى القمة حين أصدر “النداء الجديد” في 1946بالتعاون مع النائب الوفدي المعروف ياسين سراج الدين ، وهي صحيفة وفدية التوجه  ظهرت في ذروة العداء الأمريكي والغربي للوفد ، وفي فترة سطوة حكومات السعديين المؤتلفين مع الأحرار الدستوريين في الفترة من 1944 ـ 1949 حين تولوا الحكم وأُبعِدَ الوفد عن الحُكم وتوالى تشكيل وزارات حكم الأقلية.

لم يكن من الغريب أن يُلقَى القبض على الأستاذ أبو الخير نجيب بعد نشر مقاله المشهور “تيجان تهاوت” ومع هذا فإن المحكمة برّأتْهُ، مرة واثتنين وفي المرة الثالثة بُرِّئ أيضاً بعد أن اتهمته الحكومة (أبريل 1948)، بأنه يحرض على الثورة ويدعو الجنود إلى عصيان الأوامر فضلاً عن أنه ينشُر أخباراً كاذبة عن رئيس الوزراء، ومع هذا كلّه فإن المحكمة برّأَته أيضا.

وفيما بعد سنوات رُويت على لسان الأستاذ أبو الخير نجيب قصة هذا المقال:

“في يناير 1948، قرأتُ في صدر الصفحة الأولى لجريدة الأهرام، خبر تنازل الملك «ميشيل» عن عرش رومانيا، وفي السادس من الشهر نفسه كتبت مقالًا بعنوان «التيجان الهاوية»، نُشر في جريدة «النداء» الوفدية، قلت فيه : ” ما قصة الملك ميشيل إلا قصة كل ملك مغامر لا يعرف لنفسه حدودًا، ولا يقنع بالقداسة تحوط شعبه، فيأبى إلا أن يخوض معارك السياسة المحلية، ويقحم نفسه في ما ليس من اختصاصه، وبذلك يهوي بنفسه إلى مستوى المسؤولية، ومتى هبط ملك بنفسه إلى هذا المستوى، فإنه يفقد الحصانة، ويصبح رجلًا عاديًّا يجري عليه ما يجري على رجال السياسة ورجل الشارع سواءً بسواء”.

“مقال مثل هذا لم يكن ليمر سهلًا بسيطًا من المطبعة”.

” في البداية، أوهمت عمال المطبعة بأنني سأكتب مقالًا عاديًّا عن حرب فلسطين، وقد كتبته بالفعل، ووُضع في مكانه بالصحيفة. في نفس الوقت كتبت مقال «التيجان الهاوية»، ودفعت بعنوان المقال إلى الخطاط كي يكتبه، باعتباره عنوانًا لقصة قصيرة، حتى إن الخطاط قال لي إنه عنوان أخَّاذ ويصلح لأن يكون عنوان مقال سياسي، لولا أنه «يودِّي في داهية».

” بعد الانتهاء أخذت العنوان ودفعت به إلى ورشة الحفر، ثم استلمت الكليشيه، واتجهت إلى المطبعة، هناك حيث حرصت على إخفائه حتى يصل المقال الأسبوعي إلى آلة الكبس، حيث يوضع الكليشيه، وعند انتهاء العامل من طبع مقال حرب فلسطين، طلبت منه رفع المقال بسرعة، ووضع مقال «التيجان الهاوية»، الذي كان بالطبع دون عنوان، وكان هذا مدعاة لشك العامل الذي بررت له بأنني في انتظار كليشيه العنوان، وقد تظاهرت بانتظار الكليشيه من ورشة الحفر، ثم أظهرته متعجلًا وكأنه وصل للتو، وسلمته إلى العامل على آلة الكبس، ليُطبع العنوان، وتُدار ماكينات المطبعة، وتهتز معها نبضات قلبي.”

“في السادسة والنصف من صباح اليوم التالي، دقت على باب منزلي يدٌ قوية، وعندما فتحتُ الباب اندفع منه ساعيان من الصحيفة في فزع قائلين إن مئات من رجال البوليس أغاروا على مقرها، وعلى المطبعة والمخزن، يجمعون الأعداد وينتشرون في الشوارع والميادين يختطفونها من أيدي الناس، وأنني مطلوب لحضور جلسة استثنائية طلبتها نيابة الصحافة للحصول على حكم بتثبيت المصادرة. في تمام الثامنة، عقدت المحكمة جلستها، وطالب رئيس النيابة بتثبيت المصادرة. لكن بعد المرافعة المستفيضة للدفاع، حكمت المحكمة بإلغاء قرار النيابة والإفراج عن الجريدة”.

ونأتي إلى أصداء نشر المقال:

“في ذات صباح الإفراج عن الصحيفة وأبو الخير، اندفع كريم ثابت، مستشار الملك فاروق، إلى مكتب إبراهيم باشا عبد الهادي، رئيس الديوان الملكي، ممسكًا بيمينه صحيفة «النداء»، وصاح في وجهه: «هل قرأت مقال الوفد في جريدة النداء اليوم؟ كيف أفلت هذا المقال من البوليس السياسي؟ وهل يليق أن يوافق عليه القضاء؟ ثم أين نيابة الصحافة؟ وكيف تركت المقال ومن حرضوه دون تحقيق؟ هناك مؤامرة كبيرة، ولا بد من اتخاذ أشد الإجراءات لكشفها ومعاقبة أبطالها، وهذا أقل ما يجب اتخاذه حتى تهدأ ثورة مولانا”.

“تدخَّل الملك، فقُبض عليَّ مرة أخرى، وقُدِّمت لجلسة سرية، قَدمتُ فيها دفاعًا عن نفسي، لكنهم أصروا على حبسي، وقد وضع هذا الأمر الحكومة في حرج، جعل وزير العدل يهدد بالاستقالة، واستشعر محمود فهمي النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر وقتها، الحرج أيضًا، فوضع استقالة الحكومة أمام استمرار حبسي.”

” كنت قد حصلت على قلم وورقة داخل السجن، وكتبت مقالًا عما حدث لي، ونُشر في جريدة «النداء»، ما أثار عاصفة في الشارع، فاستدعاني النائب العام، وقال لي: «مبروك، لقد قررنا الإفراج عنك دون ضمان، بشرط أن تعدني وعد شرف بوقف نشر مقالات فيها هذه الحدة». كنت في موقف لا يستدعي بطولة أخرى، لكنني قلت له إنني لا أقبل المساومة على حريتي، فأطلق سراحي رغمًا عن ذلك.”

ومن الإنصاف أن نذكر أن النقراشي باشا الذي هو رئيس الوزراء في أثناء هذه الأزمة كان من تدخّل للإفراج عنه، بل إنه هدّد باستقالة الوزارة من أجله.

من مآثر الأستاذ أبو الخير نجيب الوطنية عند من لا يقبلون الهدنة مع المستعمر أنه في 1951 نشر في جريدته ” الجمهور المصري”  أن قتال الإنجليز ضرورة لأن وجودهم غير شرعي، وقد استجابت النيابة للاحتجاج الرسمي البريطاني على مقاله، وخاصة أنها طلبت أن توجه إليه تهمة التحريض على القتل، ومع هذا فإن النيابة العامة حفظت التحقيق على الرغم من أنه أشار إلى ضرورة قتل القائد البريطاني أرسكين ، باعتبار وجود البريطانيين أمرا غير شرعي ،  وقد استمر أبو الخير نجيب في مهاجمة الاحتلال الأجنبي  بكل وسيلة ، حتى إنه كان صاحب فكرة تكوين  “الغرفة 8” في  مقر جريدة الجمهور المصري، وكان دور هذه الغرفة الشبيهة بغرف العمليات هو مساعدة الفدائيين الذين يحاربون الإنجليز و  المعسكرات الإنجليزية في مدن القناة.

قبل هذا تعدّدت مواقف الأستاذ أبو الخير نجيب الوطنية المخلصة وممارساته المهنية الشامخة، فقد كان هو السبب في قرار الأهرام بمُقاطعة إسماعيل صدقي باشا حين طالت فترة انتظاره لمُقابلة، وقد قاطعت الأهرام صدقي باشا شهراً كاملاً حتى ذهب للأهرام فاعتذر له. وهذه رواية منسوبة إليه عن قصة هذه الواقعة:

” كان أنطون الجميل باشا، رئيس تحرير «الأهرام»، يجلس في مكتبه، بنظارته الدائرية الضيقة، وشاربه محفوف الأطراف، يراجع بروفة إحدى صفحات عدد الغد، قبل أن أخترق باب مكتبه كالمِشْعل، ليخلع الصحفي اللبناني نظارته في ذهول: «شو اللي صار يا نجيب؟

” لا أُنكر أن أنطون باشا كان رجلًا نبيلًا وصحفيًّا يعرف قيمة المهنة والجريدة التي يرأس تحريرها، وقد امتص غضبي الهائج بانتصاره لموقفي بعد أن سردت عليه ما حدث، فأصدر أمرًا بمنع ذكر اسم رئيس الوزراء في أي أخبار تنشرها الجريدة، وقد كان هذا أمرًا عظيمًا جعل إسماعيل باشا صدقي يعتذر لي شخصيًّا عما جرى بعد أيام فقط”.

كتب الأستاذ أبو الخير نجيب عن الإمام الشهيد حسن البنا بعد اغتياله مقالا بعنوان: “الإمام الشهيد الرجل الذي فتح الطريق أمام القافلة” وقد قال في ذلك المقال:

” كان المغفور له الشيخ حسن البنا مصلحًا ينبع الإصلاح من أعماق نفسه، وكان داهية سياسيًا يجمع بين الصلابة فى الحق ومرونة الحكيم الذي يؤمن بواقع الأمر وينشد فتح الطريق المغلق لكي تمر القافلة متقدمة نحو هدف عظيم مرموق!

” ولقد قابلت الفقيد قبيل استشهاده بأسبوعين فقط، وكان هذا الاجتماع هو الأول والأخير مع مرشد الإخوان المسلمين، فكانت المعرفة بيننا لا تتجاوز التحية العادية في المناسبات الاجتماعية، ولكننا في هذه المرة كنا أكثر من صديقين، كان الشيخ قد عرف حقيقة الدور الذي لعبته، وحقيقة الإعصار الذي هب علىَّ فاقتلعني من صحيفتي وكاد يحطم قلبي!! عرف الفقيد ذلك كله، وعرف الباعث عليه فبالغ في الحفاوة بي والإقبال على. وهكذا أمضينا مدة ثلاث ساعات متوالية نتحدث في كل شيء في المشكلات السياسية وفى الماضي والحاضر وفى الدنيا والدين وفى الجريمة والمستقبل، إن [كلينا] كان يحس أن هذا الحديث لن يتكرر، وأن المقابلة هي الوداع الأخير.

” رحم الله الفقيد رحمة واسعة”.

ظل الأستاذ أبو الخير نجيب أيقونة كبرى للنضال حتى جاءت ثورة 1952، لكنه من باب المفارقة لقيَ فيما بعد ثورة 1952 أشدّ العذاب على يد الرئيس جمال عبد الناصر وصار مثلاً لإهدار كرامة الإنسان، واحتقار حرية الرأي، بل أصبح عِبرةً لمن يعتبِرُ ولمنْ لا يَعتبِر.

يُذكرُ له في هذا الصدد مقاله الشهير “طردنا ملكا واستبدلنا به [عشرة] ملوك” عقب إعلان الجمهورية في 1953، وقد قُبض عليه بسبب هذا المقال.

فلمّا حدث الخلاف بين نجيب وعبد الناصر فيما يعرف بأزمة مارس 1954 انحاز الأستاذ أبو الخير نجيب مثله في هذا مثل الأستاذ أحمد أبو الفتح وكتاب جريدة المصري إلى الديموقراطية وطالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم.

ظل الأستاذ أبو الخير نجيب معارضا لديكتاتورية العسكر، وسلوك عبد الناصر طيلة ما عرف بأزمة 1954، وهكذا قدّمه عبد الناصر للمحكمة بأقصى تهمة تُمكّنه من الخلاص منه نهائياً وهي تهمة الخيانة والاتصال بجهات أجنبية وحُكم عليه بالإعدام وضُعّف إلى السجن المؤبد 25 عاماً لكن السادات أفرج عنه في 1981 لأسباب صحية.

وبهذا أصبح الأستاذ أبو الخير نجيب بمثابة الصحفي الذي نال الإعدام والتجريد من شرف المواطنة بسبب مقال.

وفي تراثنا الصحفي صورة مشهورة له في ملابس المُعتقل سنة 1954 تُعتبر أيقونة الصور الصحفية المُعبّرة عن محنة الثورة في عهد 1952 مقارنة بما كان يستمتع به قبل 1952.

وفي تراثنا الصحفي رواية للأستاذ أبو الخير نجيب ” غير مشهورة وغير مؤكدة “عن يوم محاكمته، وفيها يقول: 

” قُدِّمتُ إلى محكمة ثورية بتهمة الخيانة، وكان نص الاتهام:

«في غضون سنة 1953 اتصل بجهات أجنبية تعمل ضد النظام الاجتماعي والسياسي القائم في البلاد، بقصد معاونتها على تحقيق أهدافها، وفي غضون سنة 1953-1954 عمد إلى الاتصال بطوائف العمال والطلبة وتحريضهم على التمرد والعصيان، وامتهن الصحافة، ولا يلتزم دستورها وأهدافها القومية»، وكنت ماثلًا أمام المحكمة أرقُب المصير الجَلَل”.

” في جلسة الاستراحة، جاءني ضابط وصعد بي إلى الطابق الثاني من مبنى مجلس الثورة في الجزيرة، والذي كنَّا فيه، وهناك وجدت جمال عبد الناصر شخصيًّا، أجلسني وأخذ يحدثني بودٍّ عن سبب عدم تأييدي للثورة بالرغم من إعجاب الثوار بما أكتبه، وأعلن استعداد «الثورة» تشييد دار صحفية كبرى لي تليق بتاريخي وكتاباتي”

” لكنني قابلته بالاحترام والرفضِ في آنٍ، وقلت إنني أعرف قرَّاءي وما يريدونه مني، فلم أتعوَّد الكتابة دفاعًا عن أحد غير الشعب، وإذا أحس الشعب تقصيرًا مني سأخسره، وعندها لن تكون لي أي قيمة”.

” هنا صمت عبد الناصر، وتغيرت ملامح الود، ثم صرفني، لأعود إلى المحاكمة التي قضت بإعدامي، قبل أن يُخفَّف الحكم إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة 25 عامًا.

ظلّت الصحافة المصرية تقتصر في ذكر أمجاد الأستاذ أبو الخير نجيب على الإشارة إلى معاناته من دون تفصيل القول في سببها الأخير.

وقد نُشر للأستاذ صلاح الأسواني مقالان في جريدة «الوفد» يناير 1992 عن قصة مقال “التيجان الهاوية” ومر هذان المقالان المنشور مرور الكرام.

 فلما جاء عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي نشر الفنان الأستاذ طوغان مقاله الشهير “الأستاذ أبو الخير نجيب صحافة الاعتزاز بالنفس” في 19 أبريل 2013 وكشف كثيراً من الحقائق عن مواقف هذا الرجل الشُجاع أوهي المواقف التي لم يكن من المُمكن أن تنشر قصتها بهذا الاعتزاز إلا في عهد حكم مدني وديموقراطي.

جاءت وفاة الأستاذ أبو الخير نجيب المفاجئة في السابع من أبريل 1983 لتُضيف إلى أمجاده، فقد تُوفي أمام مبنى نقابة الصحفيين بعد أن صدمته سيارة مُسرعة لم يُعرف قائدها.

وقص الأستاذ طوغان بطريقته التصويرية المتأثرة بالكاريكاتير قصة وفاته على النحو التالي:

” .. في أحد الأيام بعد نحو سنتين من الإفراج عن أبو الخير نجيب، فوجئ به يوم السابع من إبريل عام 1983 داخلًا مبني نقابة الصحفيين، إذ كان قد بدأ وقتها توزيع المواد الغذائية بالبطاقات”

” وحفاظًا على كرامة الصحفيين وتجنيبهم الوقوف في الطوابير، اقتطعت النقابة جزءًا من حديقتها وحولته إلى حانوت لبيع السكر والأرز والصابون واللحم والفراخ المجمَّدة”

” وقد جاء أبو الخير واشترى فرخة وعند خروجه من باب النقابة وعبوره الشارع، صدمته سيارة مُسرعة طوَّحته في الهواء، وألقته على الطريق مُضرجًا بالدماء، وعندما فحصوه وجدوه قد فارق الحياة “.

يقول الأستاذ طوغان بأسلوبه الكاريكاتيري:

 “مات أبو الخير نجيب أمام باب نقابة الصحفيين، ويده ممسكة بالفرخة” . 

فيما بعد وفاته تناولت السينما قصة حياته المثيرة في فيلم “الهروب من الخانكة ” الذي أنتجته الفنانة ماجدة الخطيب 1986 بطولة فريد شوقي، لكنّه مُنع من العرض ويروى أن المنتجة أوذيت في حريتها بسبب إنتاجها لهذا الفيلم.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه