“آيا صوفيا” وجدلية عودة الخلافة الإسلامية

رَفضُ المحكمة الدستورية التركية السماح للمسلمين بالصلاة في آيا صوفيا بإسطنبول؛ وفق الطلب الذي تقدمت به إحدى المؤسسات التركية المستقلة، فتح الباب مجددا لجدلية آيا صوفيا، وإمكانية عودته ليلعب دورا جديدا في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الدولة التركية، وهل الافضل أن يعود ككنيسة كما كان قبل فتح إسطنبول، أم الاولى له ولنا أن يبعث مسجدا كما أراده السلطان محمد الفاتح، ومدى أهمية ذلك لدي الاطراف المُتجادلة بشأنه؟

   عودة الروح

يتشبث الإسلاميون الأتراك ويعملون بكل مالديهم من عزم وقوة لضمان عودته كمسجد له دوره التاريخي المهم، كون تحويله إلى مسجد جاء ردا على تحويل المئات من المساجد في الأندلس إلى كنائس، الأمر الذي جعله رمزا للإسلام ولقوة المسلمين وقدرتهم على العودة مرة أخرى لتبوؤ المكانة التي كانت لهم تحت راية الخلافة الاسلامية.

ويعتقد الإسلاميون عموما، والأتراك على وجه الخصوص، أن استمرار إغلاق آيا صوفيا، وعدم إعادته رسميا للمسلمين يعد تكبيلا لأحد رموز الصحوة الاسلامية التى تجتاح العالم الإسلامي حاليا، واعتقالا للمارد الذي سُجن داخل المسجد يوم أن تحول إلى مُتحف، واُغُلقت أبوابه في وجه المصلين.

هم يؤمنون يقينا إن فتح أبواب المسجد أمام المصلين يعد إيذانا بعودة الدولة الإسلامية إلى مكانتها وقدرتها على مواجهة أعدائها والمتربصين بها، خصوصا وأنهم على ثقة مطلقة من أن الصراع بين الشرق والغرب لم يكن يوما صراعا حضاريا، وإنما هو في حقيقة الأمر كان وسيظل صراعا دينيا عقائديا، والشواهد على ذلك كثيرة، الأمر الذي يستلزم معه استعادة كافة نقاط القوة، والتحفيز من أجل مواجهة قادمة لا محالة، يمثل آيا صوفيا أحد ركائزها، حيث يعد أهم نقاط القوة والتفوق لدي المسلمين، والضعف والهزيمة للغرب.

أحلام الأوربيين

 بينما يرى العلمانيون الأتراك – والكماليون منهم خاصة-  أنه إذا كان ولابد من عودة آيا صوفيا للحياة مرة أخرى، ومنحه دورا على الساحة الثقافية المعاصرة، فإنه من الأجدى والأنفع لتركيا الحديثة أن يعود كنيسة كما كان، خصوصا وإن ذلك من شأنه المساهمة بجدية في قبول عضويتها داخل منظومة الاتحاد الأوربي ، وهى وجهة نظر تستند على أن أوربا المسيحية تطمح إلى سماع أجراس آيا صوفيا وهى تصدح في أجواء إسطنبول مرة أخرى، لذا فانهم سيكونون شاكرين للجمهورية التركية تحقيقها لذلك الحلم، الذى يعني لهم ضمن ما يعني أن تركيا المعاصرة باتت أكثر فاعلية وقدرة على الاندماج كلياً داخل المجتمع الأوربي من كافة النواحي.

أما خطوة إعادته مسجدا مرة أخرى، إذا ماحدثت، فإنها وفق وجهة نظرهم ستقضي تماما على حلم الانضمام للاتحاد الأوربي من جهة، وستثير الكثير من النزاعات والصراعات وربما الحروب العقائدية التى من شأنِها القضاء على المكانة الدولية التى حققتها الجمهورية التركية على مدى قرن من الزمان.

أما عامة الأتراك فإنهم يؤيدون بقاء الوضع على ماهو عليه، ويرونه الوضع الأفضل والأمثل الذي من شأنه الحفاظ على السلام الاجتماعي داخل دولة لديها الكثير من المشاكل والأزمات ولاتحتاج إلى المزيد.

    مندريس وأربكان

جدلية الخلاف حول مصير آيا صوفيا لم تنقطع يوما داخل المجتمع التركي، تخبو حينا وتشتعل أحيانا أخري، مع كل تغير يطرأ على الساحة السياسية التركية، مخلفة وراءها الكثير من الصدمات والأحزان وربما الدماء، وذلك منذ قرار مصطفي كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في ثلاثينيات القرن الماضي، بتحويل المسجد إلى مُتحف، وفتحه للزيارة أمام الجميع.

فمحاولة إعادة آيا صوفيا مسجدا كانت أحد الاسباب التي دفع رئيس وزراء تركيا المنتخب عدنان مندريس حياته ثمنا لها، إذ أعدمه العسكر هو واثنين من وزرائه عام 1961 عقب محاكمة عسكرية صورية، بتهم إعادة الآذان باللغة العربية، ومحاولة استرداد هوية تركيا الإسلامية، وفتح المساجد التى تحولت إلى متاحف ومخازن وتم إغلاق أبوابها في وجه المصلين، والعمل على إعادتها للعبادة وإقامة الصلاة بها مرة أخرى، وهى أمور خالفت وجهة نظر المؤسسة العسكرية آنذاك، ورأت فيها تهديداً لمشروع مصطفى كمال أتاتورك العلماني.

وقد اعتبر العسكر أن مجرد تنفيذ الوعد الانتخابي بإعادة آيا صوفيا مسجدا وفتحه للعبادة، ودعوة قادة العالم الاسلامي للاحتفال مع الأتراك بهذه المناسبة، سببا كافيا للإطاحة بنجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا المنتخب أيضا، وإجباره على الاستقالة من منصبة عام 1997 فيما عُرف آنذاك بالانقلاب الابيض، وحل حزبه الرفاه بأمر من المحكمة الدستورية عقب ذلك.

  دروس مستفادة

وإذا كان مندريس ووزيراه استُشهدوا ثمنا لمبادئهم وولائهم لهويتهم الإسلامية، واُرغم أربكان على التخلي عن منصبه واُغلق حزبه، فإن الدروس المستفادة من تلك التجارب أثمرت على مايبدو في توجهات وقرارات الجيل الجديد من السياسيين الأتراك الذين يتوافقون معهم في المبادئ والأيديولوجية، ويسعون لتحقيق نفس الأهداف، التي تصب في اتجاه إعادة الهوية الإسلامية للمجتمع.

فهاهو رجب طيب أردوغان يدرس خطواته باتجاه آيا صوفيا بكل دقة وحذر، إذ تم في عهده إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، التى أصبحت تدين بالولاء للأديولوجية الإسلامية للدولة التركية، وتتباهى بتاريخها العسكري الذي يرتبط مباشرة بالانتصارات والفتوحات التى تحققت في عهد الدولة العثمانية، كما استعادت بفخر اسم “المحمديين” الذي كان يُطلق على المنتمين لها من قادة وجنود، وهو الاسم الذي تم تجاهله خلال العقود الماضية.

احضر سجادتك وتعال

تلك الأرضية أسست لعودة الكثير من المظاهر الإسلامية للشارع التركي، الذي بات أكثر وعيا وتقبلا لكل ما يمت للإسلام بصلة، ومنها تلك الدعوة التى أطلقتها أواخر مايو / أيار عام 2014 جمعية ” شباب الأناضول ” لإقامة صلاة الفجر في الساحة الخارجية لمسجد آيا صوفيا تحت شعار ” أحضر سجادتك وتعال”، وذلك في إطار حملة دعائية كبيرة تستهدف بعث الحياة مجددا داخل المسجد.

وهى الجمعية نفسها التى قامت بجمع حوالي 15 مليون توقيع لمذكرة تطالب باستعادة المسجد، ورغم أن ذلك الطلب قوبل بالرفض من جانب الحكومة، فإن تلك الحملة أسفرت عن السماح برفع الأذان من فوق مئذنة آيا صوفيا، في إطار فعالية خاصة نظمتها رئاسة الشؤون الدينية للاحتفال بليلة القدر في رمضان من العام نفسه، الأمر الذى اعتبره الإسلاميون الأتراك عملية جس نبض من جانب المسؤولين في الدولة لقياس ردود الفعل حول ذلك الأمر على الصعيدين الداخلي والخارجي.

    تلاوة القرآن

غياب ردود فعل حقيقة على عودة الأذان لآيا صوفيا بعد انقطاع دام 85 عاما، شجع الحكومة لتكرار الأمر في بعض المناسبات الخاصة، إذ قامت رئاسة الشؤون الدينية في عام 2015 بافتتاح معرض كبير في باحة المسجد تحت عنوان ” النبي محمد في ذكرى مولده الـ 1444″ حيث تمت وللمرة الاولى تلاوة آيات من القرآن الكريم داخله عبر مكبرات الصوت التى اخترقت الأسوار والأحجار، معلنة للعالم أجمع أن القرآن عاد ليرتل من داخل مسجد آيا صوفيا مرة أخرى.

في حين قامت إحدى الفضائيات التركية الموالية للحزب الحاكم ببث برنامج ديني من داخله طوال أيام شهر رمضان عام 2017، وهو الأمر الذي لم يحتمله اليونانيون أحفاد البيزنطيين، الذين أعربوا عن استيائهم من الحدث عبر بيان أصدرته الخارجية اليونانية، دانت فيه موافقة السلطات التركية المعنية ودعمها له، الأمر الذي رفضته تركيا، معتبرة إياه غير مقبول، وتدخلا في شأن تركي داخلي لايحق لأية دولة التدخل فيه.

مواجهة التهديدات الغربية

إدارة الشؤون الدينية عينت مؤخرا إماما لمسجد ” قصر هونكار” الذى يقع ضمن نطاق حرم آيا صوفيا، الأمر الذى يؤمن رفع الأذان عبر المآذن الأربع لآيا صوفيا خمس مرات يوميا، وذلك ردا على بيان المفوضية الأمريكية للحرية الدينية في العالم، الذى هدد صراحة بأن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد سيعرض وضع تركيا الدولي للخطر، وسيعيد للأذهان ما أسماه البيان إساءة معاملتها للمسيحيين خلال القرن الماضي، بينما هدد مفتي العاصمة التركية أنقرة بتسريع خطوات إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة من جديد في حال استمر الجدل وسيل الاتهامات التى تطلقها الدول الأوربية وبابا الفاتيكان ضد تركيا حول أحداث 1915م التاريخية التى يصفها الغرب بـ” إبادة الأرمن”.

رمز للإسلام والمسلمين

أردوغان من جانبه وقبل عدة سنوات مضت صرح في رده على الدعوات المتكررة لفتح آيا صوفيا أمام المصلين بأنه لن يفكر في تغيير وضع المتحف الحالي ما دام هناك «صرح عظيم آخر مخصص للعبادة في إسطنبول ويقع أمام آيا صوفيا مباشرة وهو مسجد السلطان أحمد الذي يرجع إلى القرن الـ 17 شبه خاو من المصلين»، مشيرا إلى أن إسطنبول بها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد، وذلك إمعانا في الحذر، والتأكيد على أن الخطوات التى تُتخذ في هذا الشأن تتم وفق منهجية محددة، لتحقيق الهدف عبر التأني وعدم التهور، درءا لأية مخاطر قد تطيح بكل ماتحقق.

إلا أنه عاد في مارس/آذار الماضي، ومن داخل آيا صوفيا نفسه ليعرب عن أسفه تجاه تحويل عدد من المساجد داخل تركيا إلى متاحف وحظائر للحيوانات ومخازن، مشيرا إلى أن من قاموا بذلك لايعرفون قيمة التراث الذي تركه الأجداد، ومؤكًدا أن المرحلة القادمة حسّاسة للغاية بالنسبة لتركيا، وتستدعي التحرّك بدقة بالغة، وذلك في إشارة واضحة إلى صعوبة المعركة التي باتت قريبة جدا على ما يبدو.

 يدرك الرئيس التركي إذا أنه رغم كثرة عدد المساجد التى تنتشر في أرجاء إسطنبول فإن آيا صوفيا له مكانة خاصة لدى المسلمين جميعا، إنه ليس مجرد مسجد منعوا الصلاة بداخله ويريدون استعادته، إنه رمز لمرحلة قوة الاسلام، وإعادة فتحه للعبادة مرة أخرى، ستكون رد اعتبار للإمبراطورية العثمانية، وللتاريخ الاسلامي، وإيذانا بعودة الروح الممزوجة بالعزة والفخر للأمة الإسلامية جمعاء، مثله في ذلك مثل المسجد الأقصى تماما. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه