عودة التوتر للعلاقات التركية – الامريكية

ما يعنى أن حالة التوتر في العلاقات الامريكية التركية هذه المرة من الصعب تجاوزها في المستقبل القريب

  عاد التوتر ليطفو مجددا على سطح العلاقات التركية – الأمريكية ، رغم تخطى أزمة التأشيرات ، التي خيمت على علاقات البلدين منذ عدة أشهر، عقب قيام أنقرة باعتقال أحد مواطنيها العاملين في السفارة الامريكية ، والتحقيق معه بتهمة التواصل مع عدد من العسكريين الضالعين في محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا في الخامس عشر من يوليو / تموز عام 2016 ، الأمر الذى تسبب في منع حصول الآلاف على تأشيرات للسفر إلى الولايات المتحدة بعد أن علقت السفارة تقديم خدماتها ، وردت أنقرة بالمثل وعلقت بدورها منح تأشيرات للراغبين من الأمريكيين في زيارة تركيا .

  بيانات تحذيرية

التوتر الجديد بدا واضحا في البيان شديد اللهجة الذى أصدرته مؤخرا الخارجية التركية ، وحذرت فيه مواطنيها المقيمين بالولايات المتحدة أو الراغبين في السفر إليها من احتمالية تعرضهم لأعمال عنف ، وأشار البيان إلى تصاعد حدة الأعمال الإرهابية والهجمات المسلحة، وعمليات دهس المدنيين في الشوارع وعلى الطرقات في المدن الكبرى، وخلال الفعاليات الثقافية وداخل مراكز العبادة ومحطات مترو الأنفاق والأبنية العامة بما فيها سكن الطلاب الجامعي ، وشدد البيان من مغبة التعرض للاعتقالات العشوائية التي بات يتعرض لها المواطنون الأتراك الذين يؤدون عملا رسميا داخل الولايات الأمريكية استنادا إلى شهادات جهات غير موثوقة . وطلب بيان الخارجية المواطنين الأتراك الذين يخططون للسفر إلى الولايات المتحدة بإعادة النظر في خططهم، أو اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتأمين سلامتهم في حال اضطرارهم لإتمام سفرتهم.

التحذير التركي جاء ردا على تحذير مماثل صدر منذ بضعة أيام عن الخارجية الأمريكية، نصحت فيه مواطنيها بعدم السفر إلى تركيا لكونها غير آمنه بالنسبة لهم، وهو التحذير الذي أثار غضب واستياء المسؤولين الأتراك، حيث أعلن وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو أن هذا التحذير لا يليق أن يصدر عن دولة حليفة، مؤكدا أن بلاده أكثر أمنا من الولايات المتحدة ذاتها.

شاويش أوغلو في تصريحات صحفية عقد مقارنة بين الوضع الداخلي في بلاده ونظيره في الولايات المتحدة ، مشيرا إلى أنه بالنظر إلى أعداد الأشخاص الذين يقتلون يوميا في المدن الأمريكية بمن فيهم الأجانب والسياح سندرك أن تركيا أكثر أمنا من الولايات المتحدة ، إذ استقبلت في العام المنصرم 32 مليون سائح أجنبي منهم سياح يحملون الجنسية الأمريكية عادوا جميعهم إلى بلادهم سالمين ، لافتا إلى وجود زيادة كبيرة في أعداد السياح الوافدين لتركيا من الولايات المتحدة خلال العام الجاري وفق الحجوزات الموجودة لدي وزارة السياحة.

وأكد أن تركيا لا تعاني من ظاهرة معاداة الأجانب، في وقت بلغت فيه معاداة الأجانب أعلى مستوياتها في الولايات المتحدة، ولدى الإدارة الامريكية ذاتها، إذ أقدم الرئيس نفسه على إهانة دول وبلدان كثيرة، حيث بدا احتقاره لهم واضحا، متسائلا: هل وضع بمثل هذه الصورة يوضح أن الولايات المتحدة أقل أمنا أم تركيا، كجهة يمكن للمرء السفر إليها؟!

  فتح الله غولان  

دون شك فإن التحذيرات الأمنية المتبادلة ليست سوى حجه واهية تخفى وراءها نيران الأزمة المشتعلة منذ فترة ليست بالقليلة بين الجانبين ، أما الأسباب الحقيقة فتكمن في ثلاثة ملفات رئيسية ، والتي يبدو أنها السبب الرئيس لعودة التوتر إلى العلاقات بين الدولتين الحليفتين وترجح عدم انتهائه في المنظور القريب على الأقل  ، أول هذه الأسباب هو عدم تلبية واشنطن لرغبة حليفتها أنقرة ، الخاصة بتسليمها فتح الله غولان المتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة ، إذ بات من الواضح لدى القيادة السياسية التركية أن واشنطن تتلاعب بها ، وإنه ليس لديها الرغبة الحقيقية في التعاون معها بجدية في هذا الملف ، خصوصا بعد مرور عام ونصف على تلك المحاولة الفاشلة ، والتي تلتها مطالبات تركية كثيرة رسمية وقانونية لتسليم غولان ، وقام عدد من الوزراء المعنيين بهذا الشأن بزيارات متتالية لواشنطن خصيصا لمناقشة هذا الطلب مع المسئولين في الإدارة الامريكية ـ إلا أن واشنطن – لاتزال تماطل حتى الان .

وهو ما بدا واضحا في التصريحات الصحفية التي أدلى بها القائم بإعمال السفارة الأمريكية في أنقرة فيليب كونسيت بشأن هذا الموضوع ، والذى أشار فيها إلى أن طلب أنقرة قيد النقاش في بلاده ، وأنهم سيواصلون تلك المناقشة بشكل مكثف ربما في الأسابيع أو الاشهر المقبلة – على حد وصفه – دون تحديد موعد نهائي لذلك ، وهو ما دفع الرئيس التركي – على ما يبدو – للتصريح بأن بلاده لن تقوم بتسليم أي مشتبه به لواشنطن مالم تقم الأخيرة بتسليم فتح الله غولان لتركيا ، المتهم بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة ، وأوضح أردوغان أنهم قاموا بتسليم أحد عشر إرهابيا حتى الآن للولايات المتحدة ، لكنها لم تعد لهم الشخص الوحيد الذى طالبوا بتسليمه لهم ، مختلقين الكثير من الأعذار الواهية لذلك ، مضيفا : إذا لم نستلم غولن فأعذرونا حينذاك فمن الآن وصاعدا لن نسلمكم أي إرهابي تطلبوه منا ما دمت أنا في السلطة . 

   اتهامات ملفقة

 

التعاون بين واشنطن وجماعة فتح الله غولن، والذي يثير حنق أنقرة بشدة، بدا واضحا أيضا في المحاكمة التي يتعرض لها المصرفي التركي محمد خاقان آتيلا، والذي تم اعتقاله خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في مارس / آذار من العام الماضي، حيث تم توجيه خمسة اتهامات له من قبل محكمة مانهاتن الاتحادية التي يحاكم أمامها بتهم خرق عقوبات واشنطن على إيران، والمشاركة في خداع الولايات المتحدة، والمشاركة في خداع البنوك الأمريكية، والتآمر والتحايل المصرفي، والمشاركة في عمليات غسيل الأموال.

إذ ترى أنقرة أن تلك التهم جميعها تم تلفيقها لإتيلا ، الذى يشغل منصب نائب رئيس بنك الشعب التركي ، من جانب جماعة فتح الله غولن ، والمتعاطفين معهم داخل الإدارة الامريكية ، واعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلك المحاكمة بمثابة عنوان لمحاولة انقلاب جديدة ضد تركيا بمضمون سياسى وليس عسكريا هذه المرة ، وقال أردوغان أمام الكتلة البرلمانية لحزبه العدالة والتنمية  إن هذه المحاولة ستفشل كما فشلت سابقتها ، مشيرا إلى أنها مؤامرة تم تدبيرها من جانب جماعة فتح الله غولن بالتعاون مع CIA  و FBI بهدف تضييق الخناق على تركيا اقتصاديا ، مؤكدا أن هذا لن يحدث ، ومعربا في الوقت ذاته عن عميق استيائه من تصرفات من وصفهم بحلفاء تركيا ( الولايات المتحدة ) الذين يدعمون تنظيمات إرهابية بمختلف أنواع السلاح ، متسائلا : ما الذى يبقى لنبحثه معهم ؟! .

أكراد سوريا

تصريحات أردوغان هذه تقودنا مباشرة إلى الملف الأكثر قلقا وتوترا وخطورة لدى الإدارة التركية ، والذى يمثل السبب الثالث لما تشهده العلاقات  بين البلدين من تجاذبات ومشادات علنية ، حيث رصدت المخابرات التركية  قيام واشنطن بتدريب وتسليح عدد من التنظيمات السورية الكردية التي تصنفها أنقرة كمنظمات إرهابية مثل تنظيم حماية الشعب الكردي ” ب ى د ” الذى تعتبره الذراع السوري لمنظمة حزب العمال الكردستاني ” بى ك ك ”  ، وتؤكد المعلومات المتوفرة لدى تركيا قيام الجيش والاستخبارات الأمريكيين بالتعاون مع قيادات من تنظيم ال بي ك ك بتدريب 400 عنصر من عناصر منظمة  ” ب ى د  ” ، وأن الاستخبارات الأمريكية أشرفت على القيام بالمحاضرات النظرية والتقنية والفنية لهذه العناصر ، بينما تولت وحدات الإنزال الجوي والقوات الخاصة بالجيش الأمريكي بالتعاون مع عدد من قيادات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بشمال العراق بالتدريبات العملية الخاصة بكيفية استخدام عدد من الأسلحة ، إضافة إلى مدهم بإحداث أجهزة الاتصالات اللاسلكية وأجهزة التجسس وتدريبهم عليها ، والعمل على إنشاء محطة حديثة للتنصت على الاتصالات في المنطقة ، وذلك بهدف إقامة ما يسمى بحرس الحدود في سوريا لمنع ظهور عناصر تنظيم داعش مجددا بالمنطقة ، إلى جانب إضفاء صفة الجيش النظامي على تنظيم حماية الشعب الكردى ” ب ى د ” من خلال دعمه تقنيا ولوجستيا .

فيما توالت المعلومات الخاصة بالزيارة التي قام بها مؤخرا وفد من الخارجية الامريكية برئاسة الدبلوماسي ماكس مارتين للمناطق الواقعة تحت سيطرة منظمتي حماية الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني بشمال سوريا ، حيث ألتقى الوفد آلدر خليل وفوزي يوسف وبدران جياكرد الذين بحثوا مسألة تطبيق النظام الفيدرالي في سوريا  التي طرحها ممثلو تلك التنظيمات في الاجتماع ، كما انتقل الوفد الأمريكي إلى منطقة عين العرب حيث ألتقى بفرهاد عبدى شاهين الملقب بشاهين جيلو قائد ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية ، المشكلة من قوات حزب العمال الكردستاني وحماية الشعب الكردي حيث تمت مناقشة موضوع إعادة إعمار الرقة ، والمعروف بعلاقاته المتميزة مع واشنطن .

استدعاء السفير

تلك التحركات الأمريكية ، التي تتم بعيدا عن التنسيق مع أنقرة ، بل وتتجاهل وجودها ، فيما يبدو وكأنه تعاون متعمد لتهديد أمنها القومي من جانب دولة يفترض أنها حليفتها ،  دفعت وزارة الخارجية التركية لاستدعاء القائم بأعمال السفارة الأمريكية فيليب كونسيت وإبلاغه عميق انزعاج أنقرة تجاه تواصل بلاده مع عناصر إرهابية تهدد أمن وسلامة تركيا ، والاستمرار في القيام بتقديم الدعم المسلح  لمنظمات تصنفها تركيا بالإرهابية ، وبينما أكد وزير الخارجية أن قيام واشنطن بدعم وتسليح تلك الجماعات الإرهابية من شأنه الإضرار بالعلاقات الاستراتيجية المتميزة التي جمعت دوما بين البلدين ، علق رئيس الجمهورية على ذلك بقوله :” إن الولايات المتحدة لا تنصت لما نقول ، لكنها تستمع لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب – فهل يمكن أن تكون هناك شراكة استراتيجية على هذا النحو ، تركيا ليست الدولة التي تغير مواقفها وفق السياسات الأمريكية غير المتسقة في المنطقة .

ما يعنى أن حالة التوتر في العلاقات الأمريكية التركية هذه المرة من الصعب تجاوزها في المستقبل القريب، في ظل استمرار النهج الذي تتبعه واشنطن في الملفات الثلاثة، الأمر الذي يرجح احتمال امتداد آثارها إلى ملفات أخرى خلال الفترة المقبلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                    

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه