الدراما التاريخية، وتوظيفها سياسيا

النجاح الباهر الذى أحرزه المسلسل، كان الدافع والمحرك للاتراك المنتمين للتيار الإسلامي إلى توظيف الدراما لتحقيق أهدافهم فى الداخل والخارج

 

لعبت الفنون بأشكالها المختلفة دورا مهما في التاريخ السياسى لدول الشرق الاوسط، إذ تم توظيفها دوما من جانب النخب السياسية الحاكمة لتحقيق غايات وأهداف محددة، أهمها على الإطلاق التأثير على الرأى العام في تلك الدول وتوجيه بوصلته نحو وجة محددة، ورغم اعتقاد البعض أن الاغنية الوطنية هى أهم الاشكال الفنية التى استخدمت لأغراض سياسية، فإن الحقيقة هى أن الدراما بنوعيها السينمائى والمتلفز كانت ولاتزال تلعب دورا أكثر فعالية وتأثيرا، بل وتعد أخطر وأهم أنواع الفنون التى تُوظف لهذا الغرض، خصوصا وأنها تسعى لتبديل الحقائق وتبرير المواقف والأحداث وتزييف الوقائع، واختلاق قضايا وهمية ليس لها وجود فعلي، وهنا نرصد تجربتي مصر وتركيا في هذا المجال . 

    الريادة المصرية

تعد مصر من الدول الرائدة والسباقة في توظيف الدراما سياسيا، ففي أعقاب انقلاب الثالث والعشرين من يوليو/تموز عام 1952 ، عمد القائمون عليه إلى توجيه قطاع السينما لإنتاج عدد من الأفلام تتحدث عن الفترة الملكية، بهدف تشويه صورة النظم الملكية عموما، والملك فاروق على وجه الخصوص، حيث تم وصمه بالخيانة من خلال اختلاق قصص انحرافاته الاخلاقية وعلاقاته النسائية المتعددة، وقضية الأسلحة الفاسدة، التى أثبتت التحقيقات التى أجريت بشأنها بناء على توجيهات من اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية عدم صحتها، ورغم ذلك، ظل تداول تلك القصص الوهمية قائما بفضل ما أُنتج من أفلام خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حتى تحولت تلك المعلومات الخاطئة إلى حقيقة راسخة في أذهان المصريين والعرب جميعا.

  تشويه الملكية

وعقب ظهور التلفاز بات من أولى مهام المسلسلات الدرامية التاريخية، التى تتحدث عن تلك الحقبة من تاريخ مصر، تشويه صورة العائلة الملكية المصرية، ونعتها بأحط الصفات، فجميع أفرادها رجالا ونساء – في نظر القائمين على إنتاج تلك الأعمال – مجموعة من المنحرفين جنسيا ودينيا، الكاذبين، الخونة، الظالمين، مع الحرص على إظهار الضباط الذين قاموا بإنقلاب يوليو بمظهر المؤمنين الصادقين، وإلباسهم ثوب الوطنيين، الذين يخافون دوما على مصالح المصريين ويدافعون عن حقوق البسطاء والمهمشين في مجتمع غابت عنه العدالة والعيش بكرامة وآدمية بسبب تلك العائلة الملكية الظالمة.

وظل الحال على تلك الصورة، معلومات خاطئة وأحداث مزيفة تتداولها الأجيال المتعاقبة من دون تدقيق ولا تمحيص، حتى تسعينيات القرن الماضى، حينما أنتج مسلسل درامى عن الملك فاروق، وهو المسلسل الذى اعتبر الكثيرون أنه أعاد الاعتبار للملك فاروق وأسرته، حيث تم تناول سيرتهم جميعا بنوع من المنطق والحياد، وقدم العمل صورة حقيقية لفترة من أهم فترات تاريخ مصر والمنطقة العربية عبر الاستعانة في كتابته بالعديد من مذكرات المسؤولين والمقربين من القصر الملكى خلال تلك المرحلة، وتم تبرئة الرجل من التهم والتلفيقات التى أُلصقت باسمه، وأظهر المسلسل العديد من الحقائق التى جرى إخفاؤها عمدا، وبات الملك فاروق رجلا محبوبا من عامة المصريين الذين أصبحوا يترحمون عليه وعلى عصره الذى مضى، حتى إن البعض طالب بعودة ابنه لتولي عرش مصر وإعادة الملكية مرة أخرى، خصوصا وأن هناك الكثير من المآخذ على يوليو وماتلاها من مظالم طالت المصريين جميعا، الأغنياء منهم والفقراء، لينقلب السحر على الساحر .  

جماعة شيطانية

وحينما وقع الخلاف بين السلطة الحاكمة وجماعة الاخوان المسلمين بعد أن تضاربت مصالح الطرفين، كانت الدراما المتلفزة خير وسيلة يمكن من خلالها رسم صورة شيطانية لجماعة طالما اشتهرت في المجتمع بالتدين والالتزام بالنصوص القرآنية، وجرى تشويهها واختلاق عدد من المواقف التى تصب في صالح الهدف من إنتاج المسلسل الذي حمل اسمها، حيث تم اتهام الإخوان بالخيانة والعمالة لصالح الانجليز والألمان، والسعي للانقضاض على السلطة وتقويض الحياة المدنية والحرية الشخصية للمصريين.

وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ماجاء في المسلسل من أحداث ومعلومات تم فيها استغلال حالة الجهل بالتاريخ، وإحجام معظم المشاهدين عن القراءة والتدقيق في صحة المعلومات التى يتلقونها من هنا أو هناك، إلا أن تباين ردود الافعال من جانب المثقفين، ورفض المنتمين لكل من حزب الوفد والتيار الناصرى للكثير مما جاء في المسلسل من أحداث، وماجرى على لسان أبطاله من حوار، وتأكيدهم أن المسلسل يسيئ للنحاس باشا ولجمال عبدالناصر، متهمين المؤلف بالانتماء للإخوان، إنما يدل على أن المسلسل فشل فشلا ذريعا في تحقيق الهدف الذى سعى إليه، وهو تشويه صورة الاخوان المسلمين، فدفاع الوفد عن النحاس، ودفاع الناصريين عن عبدالناصر يعنى أن الجميع بشر وليسوا ملائكة، يصيبون ويخطئون، وليس بينهم أحد منزه عن الخطأ، بمن فيهم الإخوان أنفسهم، وهى نتيجة لم يسع إليها القائمون على المسلسل.

وإذا كانت النخبة الحاكمة في مصر كانت ولاتزال تقوم بتوظيف الفنون عموما، والدراما على وجه الخصوص لتصفية حساباتها مع من تعتبرهم أعداء لها، فإن تركيا التي اشتهرت بإنتاجها الدرامى خلال السنوات الأخيرة، والذي أصبح يذاع في أكثر من 150 دولة فى العالم، اتخذت في هذا الاتجاه منحى مغايرا تماما، بهدف تحقيق أهداف تختلف في مجملها عن الأهداف المصرية.

   حلم العثمانية

فالأتراك ومنذ صعود حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة عام 2002، لديهم هدف محدد، يضعونه نصب أعينهم، وهو استعادة مكانتهم التاريخية ومجد دولتهم العثمانية التي تآمرت عليها أوربا، حتى أعلنت وفاتها رسميا، وأقامت بدلا منها الجمهورية التركية، التى تبرأت بدورها على مدى حوالي قرن من كل مايمت للدولة العثمانية وميراثها بصلة، جغرافيا وتاريخيا وعقائديا وثقافيا واجتماعيا، إكراما لأوربا وإرضاء لها، حتى بات الأتراك وكأن تاريخهم بدأ مع ميلاد الجمهورية التركية، وكل ما عداها لا صلة لهم به.

لم تكن المهمة يسيرة، ولا الطريق معبدا، صحيح أن الأتراك قرروا الانتشار ثقافيا وفنيا واجتماعيا في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار يوغسلافيا لأهداف سياسية واقتصادية، وبدأوا مرحلة التواصل مع الشعوب ذات القومية التركية، إلا أن ذلك كان مجرد بداية الطريق الذي اختاروه لاستعادة ما ضاع منهم من ميراث الدولة العثمانية فعليا ومعنويا.

توظيف الدراما التاريخية لتحقيق هذا الغرض جاء فى أعقاب عرض المسلسل التركى الشهير ” القرن العظيم” الذى عرض فى الدول العربية تحت اسم “حريم السلطان” وحقق نسب مشاهدة فاقت تصور أى متابع، رغم أعتراض النخبة الحاكمة عليه، واعتباره يسيئ إلى الإمبراطورية العثمانية، وتاريخها على وجه العموم، وإلى شخص السلطان سليمان القانونى أبرز سلاطين آل عثمان على وجه الخصوص، فالرجل هو أول من سن القوانين للدولة، كما كان فارسا ومحاربا مقداما، قاد بنفسه الجيوش الاسلامية في الفتوحات التى تمت في عصره، ولم يتخلف يوما عن حملة خرجت حتى بعد أن تجاوز عمرة السبعين عاما.

لكن النجاح الباهر الذى أحرزه المسلسل كان الدافع والمحرك للاتراك المنتمين للتيار الإسلامي إلى توظيف الدراما لتحقيق أهدافهم فى الداخل والخارج، فكان إنتاج فيلم الفاتح الذى يؤرخ لمرحلة حكم السلطان محمد الفاتح وفتح مدينة إسطنبول والقضاء على الإمبراطورية البيزنطية، وهو الفيلم الذى حقق نجاحا ساحقا داخل تركيا وخارجها، ما شجعهم على المضى قدما وتوسيع نطاق العمل في الدراما التاريخية، لتحقيق أمرين أولهما إحياء جذوة الانتماء للتاريخ العثمانى في نفوس الأتراك، وبث روح التباهى بأجدادهم وبتاريخهم، والشعور بالفخر لكل مايرتبط بتلك الحقبة على كافة المستويات، وثانيهما إعادة تقديم تركيا للعالمين العربى والاسلامى بصورة مغايرة لما تم ترسيخه في أذهان العامة بتلك البلدان خلال الفترة التى أعقبت انهيار الدولة العثمانية، فالتركى – كما تقدمه الدراما التركية حاليا – هو المقاتل الذى يدافع عن الإسلام والمسلمين جميعا بغض النظر عن قوميتهم، والذى يدفع حياته ثمنا لرفع راية الحق خفاقة عالية ويعيد الكرامة والعزة لأمة فقدت مكانتها وتأثيرها منذ اختفاء الدولة العثمانية، وباتت ترزح تحت حكم دول الاحتلال حينا ورهينة لحكومات ديكتاتورية أحيانا أخرى .

التوظيف السياسي

ومن هنا كان من الأهمية بمكان إنتاج مسلسل تاريخى يوثق أواصر تلك العلاقة بين الأتراك وعامة المسلمين، وهل هناك أفضل من مسلسل يحكى قصة السلطان عبدالحميد الثاني، ذلك الرجل الذى وقف في وجه المخططات الصهيونية، رافضا بيع فلسطين بأى ثمن، ورافضا التعاون مع تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، ليدفع الثمن غاليا من سمعته التى تم تشويهها، ومكانته كسلطان بعد أن تمت تنحيته عن العرش وتحديد إقامته، وهو المسلسل الذى يعد البداية الفعلية للتواصل التاريخي والثقافي والعقائدي بين العرب والمسلمين من جهه وبين الأتراك من جهة أخرى، فالقدس كانت وستظل دوما رابطا قويا يربط المسلمين جميعا برباط واحد.

لتنتقل الدارما التاريخية التركية إلى وجهتها التالية، وهذه المرة بتوجيهات مباشرة من الرئاسة التركية، حيث تم إنتاج المسلسل التاريخى الضخم ” قيامة أرطغرل ” الذي يحكى قصة ظهور الأتراك وآل عثمان على الساحة السياسية الإسلامية وبداية تكوين الإمبراطورية العثمانية، ويرصد ماقدمه الأتراك للاسلام والمسلمين من انتصارات وفتوحات ، والحروب والمعارك التى خاضوها من أجل ذلك والأحداث التى شهدتها هذه الفترة المهمة، التي تم استغلالها لإحداث إسقاطات على الحاضر التركى، حقق المسلسل نجاحا باهرا وأصبح حديث الملايين الذين يتابعونه على شاشات التلفاز، وعلى المواقع الإلكترونية، وينتظرون عرض حلقاته بشغف شديد .

   النموذج الامثل

ورغم أن المسلسل يتحدث عن فترة اختلطت فيها القوميات والإثنيات التى تمثل العالم الإسلامي، والتي انضوت تحت لواء الدولة العثمانية لنصرة الاسلام ورفع راية الحق، فإنه ركز في أحداثه على القومية التركية ومنحها التميز والقدرة، متجاهلا دور باقى القوميات الاخرى خصوصا الأكراد الذين لعبوا دورا مهما وحيويا خلال تلك الحقبة التى يرصدها المسلسل، وهو ما أرجعه البعض لوجود خلافات سياسية محتدمة بين تركيا والاكراد.

ورغم الانتقادات التى وجهت إلى قيامة أرطغرل، واتهام المؤلف بتزييف التاريخ، واختلاق أحداث تبرز شجاعة الأتراك وتحولهم من بشر إلى ملائكة أو شبه آلهة، فإن المسلسل نجح في تحقيق الاهداف المطلوبة منه بامتياز، والتى من أهمها تغيير صورة الأتراك النمطية التى سبق وأن صدرتها الدراما المصرية للشعوب العربية، حتى أصبح العرب جميعا منبهرين بالحضارة التركية ونمط الحياة فيها، وبات الحديث عن عودة الخلافة العثمانية من الأمور المطروحة في مناقشات العامة والمثقفين، بل والمرحب بها بينهم بصورة علنية، بعدما لمسوا فيما يشاهدونه دراميا ومايتابعونه سياسيا، النموذج الأمثل للحياة التى يرغبون فيها.

 تلك النتائج ماكان لها أن تتحقق من دون ذلك التناغم الذي نرصده بوضوح بين النخبة السياسية التركية وصانعي الدراما التاريخية، والذي يعد دليلا حيا على مقدرة تلك الدراما في إحداث تغييرات لاحصر لها تجاه الآخر، وتصحيح المواقف والرؤى الخاصة بالكثير من الأمور والأحداث، وصولا للدول والجماعات، شريطة الصدق فى تناولها، ووجود نوايا لاستثمارها بصورة إيجابية وليس لتصفية الحسابات.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه