نقاش حول المسح على الجوارب والتيسير الفقهي

وهذا ذكرني بأحد مشايخ الأوقاف عندما كنت أحج ومعي جدتي رحمها لله وأمي، وما أدراك بالحج مع امرأتين تصحبهما وحدك في الزحام

 

أثار مقالي على الجزيرة مباشر (المسح على الجوارب) نقاشا على صفحات التواصل الاجتماعي، وجروبات الواتس أب، وداخل دوائر نقاشية علمية وغير علمية، ومن خلال تواصل علماء وطلبة علم حول الموضوع معي منها الموافق، ومنها المخالف إما لبعض المسائل، أو للطرح كله، وهو ما يستدعي فتح نقاش ليس حول الموضوع، بل حول منهجية تناول الموضوع، ومنهجية طرح المسائل الفقهية في زماننا، لقد دارت معظم نقاشات المناقشين وبخاصة الرافضين حول أن ما قمت باختياره في مسألة المسح على الجورب، هي آراء ضعيفة، وأني جئت بأيسر الآراء في كل مذهب، وأفتيت بها للناس، وأن هذا المنهج يخالف المنهج العلمي عند الفقهاء والمدارس الفقهية، وسوف أتناول هذه المسائل باختصار أيضا، من باب إثراء المناقشة، وأدعو كل من هو معني بالفقه والبحث العلمي، أن يطيل البحث والنقاش حولها، وما يعتبره البعض مسلَّمات عنده، فهي ليست كذلك عند غيره، ونحن نتعبد إلى الله بالحق والدليل، وكل منا يتوخى رضا الله عز وجل، فليس لي عند  الناس حاجة أبتغيها بالتيسير عليهم، ولا من خالفوني كذلك، فكلنا يبغي الحق وينشده.

آراؤك بلا أدلة أوتفصيل:

أولا: قال المعارضون: إن المقال لم يكن مفصلا، سواء في عرض الآراء، أو في عرض الأدلة بكل تفاصيلها، وأوضح أمرين مهمين: أن لغة الكتابة للمواقع على الانترنت تقتضي الاختصار، وليس الإطالة والإطناب، وذلك لأكثر من سبب، أهمها: أن سياسة التحريرية للمواقع تتطلب ألا يزيد المقال عن عدد كلمات معينة، يلتزم بها الكاتب نقصا أو التزاما. وثانيا: لأن قدرة وطاقة القارئ لهذه الموضوعات والمواقع لا يتحمل أكثر من ذلك، ولذا ينصرف كثير من الناس عن مقالات بعض المشايخ لأنه يريد النشر والكتابة وكأنه يكتب (مقدمة ابن خلدون) فيسهب في المدخل، والكلام، ولغة الإعلام تختلف عن لغة الدرس العلمي، وهذا أمر بات معلوم للجميع.

ثانيا: أنني ذكرت قبل ذكري للرأي الذي أميل إليه، ذكرت الرأي المخالف، وما فيه من اختلافات، وكل رأي غالبا، ثم أتبعه بدليله، وأكتفي بذكر دليل عليه، فليس المجال كتابة أطروحة فقهية عن المسح على الجوارب، فأذكر كل رأي ودليله، وقديما قال العرب: يكفيك من الجيد القلادة.

التلفيق وتتبع الرُّخَص:

ثالثا: أما مسألة أن الآراء التي قلتها مجتمعة ليست رأي مذهب واحد، بل هي انتقاءات لمذاهب مختلفة، وأن هذا ما يسميه الفقهاء: (التلفيق)، وهنا وأسأل من يرفضون هذه المنهج، لو أن شخصا، ذهب فسأل أبا يوسف ومحمد من الحنفية عن المسح على الجورب الرقيق، فأجابوه بالجواز، ثم بعد فترة ذهب وسأل مالكا والمالكية وابن حزم والشافعي قبل أن يذهب إلى مصر، فسألهم عن مدة المسح، فقالوا له: لا مدة، امسح كما شئت، ثم بعدها ذهب فسأل أبو داود الظاهري عن المسح على طهارة هل يشترط أم لا؟ فأجابه بالجواز، ثم سأل بعد ذلك الحسن وعطاء عن هل خلع الجورب ناقض للوضوء أم لا؟ فأجابه بأنه لا ينتقض. هل هنا يكون الشخص هذا لفَّق بين المذاهب؟ سيجيبون بأن المقلد لا مذهب له، ومذهبه مذهب من يفتيه، وهذا كلام جميل، إذن تجيزون للعامة ممن لا اهتمام لهم بالفقه والعلم أن يأخذوا بهذه الآراء، ثم تمنعونها عن طلبة العلم والعلماء؟!! ومعظم ما ذكرته من آراء قال بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو حنبلي المذهب، ولم يعتبر ذلك خروجا منه عن المذهب الحنبلي، أو تلفيقا يلام عليه!

ومع ذلك فإن كتب الأصول ناقشت هذه القضية وهي موضع خلاف، ويمكن لمن يخالفنا أن يراجعها في ذلك، يقول الدكتور وهبة الزحيلي وهو ممن يفتي بحرمة الإفتاء خارج المذاهب الأربعة: (والخلاصة: إن دين الله يسر لا عسر، وإن القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس. قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال عز وجل: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) وقال سبحانه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال صلى الله عليه وسلم: “بعثت بالحنيفية السمحة”).[1]

أما تتبع الرخص وأيسر الآراء في المذاهب، فقال عنها الدكتور الزحيلي: (وقد سبق البيان في التلفيق الممنوع: أنه لا يجوز قصد تتبع الرخص عمدا؛ لأن من تتبعها فسق في رأي بعضهم، وفي رأي آخرين: لا يفسق، لهذا ينبغي توضيح خلاف العلماء في هذا الموضوع[2].

ومما قاله عن خلاف الأصوليين حوله، ومن أجازه: (وقال آخرون وهم بعض المالكية كالقرافي وأكثر أصحاب الشافعي والراجح عند الحنفية: يجوز تتبع رخص المذاهب؛ لأنه لم يوجد في الشرع ما يمنع منه، إذ إنه للإنسان أن يسلك الأخف عليه، إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن قد عمل بآخر، بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام “ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما”، “وكان يحب ما خفف على أمته”[3]، وقال:”بعثت بالحنيفية السمحة”[4]، وقال أيضا: “إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”[5]، وقال الشعبي: “ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى” وقد أخذ بهذا الرأي الكمال بن الهمام في التحرير، وصاحب مسلم الثبوت). [6]وقد أسهبت في نقاش هذه المسألة في كتابي: (القرضاوي فقيها) في الفصل الخامس منه، فقد كانت – ولا زالت – تهمة فقهية يتهم بها شيخنا القرضاوي وكتبه.

وفي نهاية الأمر: من منعوا التلفيق نقلوا كلاما عن أئمة، ولا يوجد نص شرعي يمنعه، والممنوع شرعا هو ما منعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس فقيها معينا، مع تقديرنا للفقهاء ومدارسهم.

جورب النبي صلى الله عليه وسلم ليس كجوربنا!!

رابعا: قال بعض من خالفوا ما قلت به في مقالي عن المسح على الجوارب، بأن الحديث المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين، لم يكونا كجوارب عصرنا، فقد كانت جوارب زمانه أثخن، وأكثر سُمْكا، وهو كلام لا يصح تصوره، طبيعي أن ملابسنا ليست كملابس النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جواربنا، فهل ورد في أحاديث النبي صلى الله عليه وصف في الجورب الذي يمسح عليه، واشترطت ذلك؟ الإجابة: لا، إذن الأمر متروك على عمومه، فمن أين تخصصونه؟! وهل معنى صحة وضوء كل منا أن نتوضأ كما كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم حتى في وسائل الطهارة؟ فهل سنذهب للخلاء في الشوارع والصحراء لقضاء حاجتنا؟ وهل سنتوضأ من قربة ماء، أو من كوب ونغلق (حنفيات) المياه؟ وهل سنصلي على الحصا والرمال ونرمي بالسجاد خارج المساجد؟ وهل وهل وهل؟

وهذا ذكرني بأحد مشايخ الأوقاف عندما كنت أحج ومعي جدتي رحمها الله وأمي، وما أدراك بالحج مع امرأتين تصحبهما وحدك في الزحام، تدفع إحداهن بعجلات كبار السن، وتمسك بالثانية، فطلبت منهما أن يوكلاني للرمي نيابة عنهما، واخترت وقتا لا زحام فيه، فإذا بمفتي الحملة يقول: إن رميي باطل، فقلت له: يا مولانا لا تحجر واسعا، فإذا كنت تبحث عن فعل السنة كما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فأنتم جميعا ترمون من الطابق العلوي لرمي الجمرات، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى بالأسفل، ولم يكن إلا في طابق واحد، فعليك أن تهدم هذه الطوابق التي بنيت للتيسير على الناس، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رمى الجمرات وهو على ناقته، فإذن عليك أن تطالب المملكة العربية السعودية بتأجير ثلاثة ملايين ناقة لنركبها جميعا لنرمي عليها، كي نوافق السنة، وقد أوجب ذلك الإمام ابن حزم، وقالوا عن تشدده في الحج، بأنه لم يحج، فكتب فقها لم يمارسه، وهكذا غالبا بعض المشايخ.

لا إنكار في المسائل الخلافية:

خامسا: هنا نقطة مهمة تغيب عن بعض الإخوة الذين رفضوا ما كتبته، وقد هاجم البعض هجوما لا ينطلق من علم شرعي دقيق، فإن ما قاله فقهاؤنا عند الخلاف في مثل هذه القضايا التي هي موضع اختلاف وليست موضع إجماع، فقالوا هذه القاعدة: (لا إنكار في المختلف فيه)، أي أنك تكتفي بذكر رأيك ودليله، وتعلن به، وتدعو إليه، لكنك لا تنكر على من خالفك، وأخذ برأي آخر، لك النقاش، لكن ليس لك العنف في النقاش، وادعاء صوابية رأيك فقط، وما سواه جهلاء ولا علم عندهم، وعدم الإنكار على المخالف، نقل عن علماء كبار وثقات، وأصوليين، منهم الأئمة: سفيان الثوري[7]، وأحمد بن حنبل[8]، والغزالي[9]، والنووي[10]، والعز بن عبد السلام[11]، وابن رجب[12]، وابن قدامة[13]، والسيوطي، وابن تيمية[14]، وهي نقول مهمة لا يتسع مقام المقال هنا لنقله، ولعلي أنقله في دراسة عنهم وعن غيرهم.

هذا شأن كل تيسير يقابله معارضة:

سادسا وأخيرا: ما قيل عن مقالي، وهو مبحث في كتاب أعكف عليه إن شاء الله، هو نفس ما قيل عن كل كتاب جاء فيه كاتبه بآراء فيها تيسير على الناس، وهذا الكلام قيل عن كتاب (الدين الخالص) للشيخ محمود خطاب السبكي الذي أنهى فيه العبادات إلى الزكاة ولم يكمله، وقالوا: إنه يأتي بمذهب خامس بعد المذاهب الأربعة. وقيل عن كتاب: (فقه السنة) للشيخ سيد سابق، وعندما جاء فيه بتيسيرات هائلة ومهمة في زمانه، هوجم الكتاب والكاتب كذلك، وقيل عن كتاب: (الحلال والحرام في الإسلام) للشيخ يوسف القرضاوي، وسخروا منه وقالوا: الأولى به أن يسميه (الحلال والحلال في الإسلام) لأنه لم يحرم شيئا، ورد القرضاوي على سخريتهم بسخرية فقال: موافق أن أسميه (الحلال والحلال في الإسلام) ولكن بعدما يكتبوا هم كتاب يسمونه: (الحرام والحرام في الإسلام) إشارة إلى أنهم يحرمون كل شيء. فسيظل كل ما نكتبه يلقى تأييدا ورفضا، وهذا شأن كل رأي في كل زمان ومكان.

[1] انظر: أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/1148) طبعة دار الفكر.

[2] يراجع :شرح المحلي على جمع الجوامع 2/328، ومسلم الثبوت 2/356، والموافقات للشاطبي 4/133،144 وما بعدها، وإرشاد الفحول 240، والمستصفى 2/125، وشرح الإسنوي 3/266، ومذكرات في أصول الفقه للشيخ زهير 260، والمدخل إلى مذهب أحمد 195، وفتاوى الشيخ عليش 1/58، 77، وتبصرة الحكام 1/59.

[3] رواه البخاري عن عائشة.

[4] أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبدالله.

[5] أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة (جامع الأصول 1/214).

[6] انظر: أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/1142-1153).

[7] انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/69). نقلا عن: مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي للدكتور صلاح الصاوي ص 19.

[8] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/189)

[9] انظر: إحياء علوم الدين (2/324).

[10] انظر: شرح صحيح مسلم (2/32).

[11] انظر: شجرة المعارف والأحوال وصالح الأعمال والأقوال للعز بن عبد السلام ص 377.

[12] انظر: جامع العلوم والحكم: (2/254،255).

[13] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/189).

[14] انظر: مجموع الفتاوى (30/79 ،80 ).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه