“لويا جيركا” ليبية.. إنعاش القبلية

 

“اللويا جيركا” أو”جيرغا” هي كلمة بشتونية (أفغانية) تعني مجلس الصلح الكبير الذي يضم رؤساء القبائل ووجهائها، والذين يجتمعون عند الملمات الكبرى للفصل فيها، وتكتسب قراراتهم -التي تتم بالتفاهم وليس التصويت- قوة إلزامية كبيرة على السياسيين وكل مكونات المجتمع الأخرى، ولكنها-أي مجالس اللويا جيركا- غالبا تستخدم من قبل القوى الكبرى أو المهيمنة فقد استعملهم الاتحاد السوفيتي لدعم حزب الشعب الشيوعي الأفغاني، وإقرار دستوره عام 1985، كما استخدمهم الأمريكان لشرعنة احتلالهم لأفغانستان عقب سقوط حركة طالبان عام 2001، لكنها عجزت عن تحقيق السلام في أفغانستان فاضطرت واشنطن أخيرا إلى الاعتراف بحركة طالبان التي كانت تصنفها إرهابية، وعقدت معها اتفاقا للسلام في الدوحة مؤخرا.

في النظام القبلي لا يشترط العلم والثقافة لقيادة القبيلة، بل يتم ذلك وفقا لمواصفات أخرى أهمها الوراثة أو القوة المادية، ولهذا فإن كثيرا من زعماء القبائل في أي مكان في العالم يكونون قليلي العلم والثقافة أو حتى معدوميها بشكل كامل (مع استثناءات قليلة)، ولذلك تجد القوى المهيمنة سواء كانت دولية أو محلية ضالتها في هذا النظام القبلي لتمرير مشاريعها.

يبدو أن فكرة اللويا جيركا الأفغانية أصبحت مقنعة لبعض الأطراف الدولية لتسويقها في ليبيا، وهي بذلك -بقصد أو بدون قصد- تعيد ليبيا للوراء قرونا، بينما قامت ثورة السابع عشر من فبراير لإقامة دولة مدنية حديثة.

وضمن المساعي الدولية لتسوية الأزمة الليبية برزت مؤخرا أصوات مهمة تحاول استدعاء هذا النظام القبلي، ومنح زعماء القبائل الليبية الدور الأكبر في الخروج من الأزمة الحالية وتحديد مستقبل البلاد السياسي بعد ذلك.

كانت أبرز الأصوات التي تبنت هذا النهج القبلي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ومن بعده الرئيس التونسي قيس سعيد، وإلى جانبهما المشير عبد الفتاح السيسي، كما عمل الروس في هذا المسار بشكل سري عبر جواسيس مقبوض عليهم حاليا في طرابلس، ويمثلون أزمة مع الجانب الروسي بعد ضبطهم متلبسين بالتواصل غير المشروع مع زعماء قبائل ليبيين لحثهم على دعم تصدر سيف الإسلامي القذافي كبديل محتمل لخليفة حفتر.

قبلي بطبيعته:

ينطلق أصحاب هذه الخطة القبلية لحل النزاع من وهم أن المجتمع الليبي هو مجتمع قبلي بطبيعته، وأن للقبيلة الكلمة الأعلى على أي كيان أو جسم سياسي حديث، وأن الكيانات السياسية الحالية فشلت في تحقيق السلام والاستقرار للبلاد.

في حديثه عن رغبة الجزائر في الوساطة بين الليبيين قال تبون إن بلاده تتمتع بمصداقية عالية لدى القبائل الليبية، وإنها قابلة بالحل الجزائري، كما حرص السيسي خلال استعراضه للقوات على الحدود الغربية قبل أيام على حضور بعض ممثلي القبائل الليبية، حيث سمح لأحدهم بالحديث نيابة عن القبائل داعما لإعلان السيسي عن مشروعية تدخله عسكريا في ليبيا. كما حرص السيسي على تحريض القبائل الليبية لتفويضه للتدخل العسكري في ليبيا، وطالبهم بإرسال أبنائهم لتدريبهم وتسليحهم في مصر، ليؤسس من خلالهم صحوات ليبية على غرار الصحوات التي أسسها الأمريكان في العراق.

للغرابة فقد كان الصوت العربي الأبرز في إحياء القبلية قادما من تونس حيث ثورة الياسمين، وحيث الدولة المدنية التي تتباهي بأنها سبقت الكثير من العرب في التحديث والمدنية، فقد دعا الرئيس التونسي قيس سعيد، خلال مؤتمره الصحفي مع الرئيس الفرنسي ماكرون يوم الإثنين الماضي، القبائل الليبية إلى صياغة دستور للبلاد على غرار “اللويا جيركا” الأفغانية، أي أنه منح قيادة الشأن السياسي لزعماء ووجهاء القبائل وليس للسياسيين، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يعرض فيها قيس سعيد هذه الرؤية فقد سبق له أن استضاف زعماء قبائل ليبيين في ديسمبر من العام الماضي، (تنكر له زعماء قبائل أخرون طعنوا في صدقية تمثيل من حضروا للقبائل الليبية)، ودعا لاجتماع ثان أواخر فبراير الماضي، وكأن الرئيس القادم من ثورة مدينة، والمتخصص في القانون الدستوري لم يجد أمامه من حل للأزمة الليبية سوى بعث القبلية مجددا، وليس تشجيع المكونات السياسية حتى لو كانت ضعيفة حاليا.

الحالة القبلية في ليبيا:

لا يستطيع أحد الزعم بأنه يحتكر الحديث باسم القبائل الليبية، فرغم تأسيس مجلس قبائل وأعيان ليبيا في العام 2014، إلا أنه لا يضم كل القبائل، وقد سعى أخرون لتأسيس مجالس مشابهة حتى أصبح في ليبيا أكثر من مجلس للقبائل، وقد شجع على ذلك اهتمام الأمم المتحدة في السنوات الماضية بتمثيل القبائل في جلسات الحوار، وكان العقيد القذافي حريصا على ترسيخ الحالة القبلية في ليبيا، ولذلك فقد دعمته غالبية القبائل حتى النهاية، ووقف شيوخها ووجهاؤها ضد ثورة السابع عشر من فبراير 2011، ويقفون حاليا في الخطوط الأولى للثورة المضادة.
 ولا تزال هذه القبائل ترى في سيف الإسلام القذافي الخيار الأفضل، وهو ما دعا الروس لمحاولة بلورة هذا الخيار بدعم قبلي، لكن حكومة الوفاق حرقت الخطة مبكرا حين ألقت القبض على بعض الجواسيس الروس الذي عقدوا لقاءات سرية مع سيف الإسلام وبعض رموز القبائل. كما عقد ممثلو عدد من القبائل الليبية مؤتمرا حاشدا في ترهونة في فبراير الماضي أي قبل تحريرها من قوات حفتر، وكان المؤتمر بطبيعة الحال كما غيره من المؤتمرات القبلية داعما لحفتر، وليس سرا أن الكثير من القبائل لا تثبت على موقف واحد فهي مع من غلب، ولذلك تنقل ولاءها من حفتر للوفاق أو العكس حسب الحالة السياسية والعسكرية، وهذا من الأسباب الرئيسية التي تشكك في صلاحية القبائل لتصدر العمل السياسي.

ليس من المعقول أن تشجع أطراف دولية كبرى أو صغرى على عودة ليبيا إلى العصور الوسطى بينما يحلم شعبها بدولة مدنية حديثة، تديرها مؤسسات حكم رشيدة، وتتصدرها مؤسسات مجتمع مدني حديثة، وتعمل وفق دستور عصري، ولا أظن أن الليبيين الذين دفعوا ثمنا باهظا للتخلص من نظام القذافي القبلي المتخلف مستعدون للتخلي عن أحلامهم وطموحاتهم تحت أي دعاوى زائفة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه