كأن كوريا وإيران دول كارتون!

تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب اليوم ضد إيران بتدميرها بقوة هائلة إذا هددت مصالح بلاده أو حلفائه، قالها بالأمس ضد كوريا الشمالية التي توعدها بالتدمير الكامل.
 فهو يعيد قراءة نفس النص المكتوب له، والمحفوظ في درج المكتب البيضاوي، والذي يخرجه مع كل أزمة يفتعلها أو يُضخّمها لأسباب تتعلق بسياساته الخارجية الفوضوية المهددة للسلم والاستقرار العالمي، وفي جانب منها الابتزاز المالي للحلفاء مقابل حمايتهم.
وفي خضم قنابل التصريحات المحشوة بذخيرة التهديد والوعيد ينتهز الفرصة ليدعو الطرف الذي يواجهه إلى الحوار. 

إنه يصنع حالة سينمائية هوليوودية من التلويح بالقوة الهائلة، وصنع أجواء من الصدمة والترويع، ليجعل كوريا أولاً، ثم إيران حالياً تشعر بالضعف والخوف وتُؤثر السلامة فتبادر إلى إعلان الرغبة في الجلوس على الطاولة.

الرئيس المنتشي بقوة بلاده أشعل معركة سياسية عنيفة ضد كوريا خلال 2017 إلى درجة حدوث قلق دولي من الذهاب للحرب في منطقة شرق آسيا شديدة التوتر، بل نقلت قناة “سي إن إن” آنذاك عن مصادر خلال زيارته إلى بورتريكو لتفقد آثار الإعصار أنه يفكر باستخدام الحقيبة النووية!

 بالطبع هذا جنون في التفكير من رئيس القوة العظمى الذي يحتفظ بالزر النووي، وأمام مثل هذا الانفلات وصفه الرئيس الكوري كيم يونج أون بأنه مختل عقلياً، ومتسلط، ويلعب بالنار، ورجل عصابات، وليس رجل سياسة. وإذا كانت بيونغ يانغ تجاوبت مع دعوته للاجتماع، فلم يكن ذلك من منطلق الضعف، إنما بعد أن أفرغ شحنة التهديد، وظهرت نيته الكامنة في اللقاء أمام الكاميرات.

هذا الهوس يتكرر اليوم بتلويحه باستخدام القوة الهائلة لنسف إيران إذا هددت مصالح أمريكا أو حلفائها، فما أشبه اليوم بالبارحة مع رئيس تاجر ومقامر، وحوله مجموعة من صقور المحافظين، لا يدرون أن إطلاق الرصاصة الأولى قرار سهل، لكن إسكات البنادق قرار شديد الصعوبة.

ليست دول من كرتون أو صفيح

على الجبهة الكورية التي أشعلها أولاً، وجعل العالم يقف على قدميه فقد  واجه مقاومة وصلابة من نظام بيونغ يانغ الذي يمتلك أوراق قوة عسكرية نووية وصواريخ باليستية تجاوز مداها ألف كيلومتر مربع.

 وقال الكوريون إنها تصل إلى نيويورك وسواحل أمريكا، أما جزيرة “جوام” الواقعة في المحيط الهادي فهددوا بإزالتها من الوجود، واحدة بواحدة، فليس ترامب وحده الذي يمكنه إزالة كيانات الدول من على الخريطة، وكأنها دول من كرتون أو صفيح.

التهديد الكوري الشمالي موجه أيضاً إلى حليفين لأمريكا تتولى الدفاع عنهما في شرق آسيا: كوريا الجنوبية، واليابان، فماذا عساه يفعل لحماية بلدين تنتشر فيهما قواعده العسكرية، وقواته، ومصالحه؟

فكما يقدر على الإيذاء، فإن الطرف المواجه، ومهما كان أقل في القوة بمراحل، فإنه يقدر على الإيذاء أيضاً.
 وكل الحروب التي خاضتها أمريكا، ولا تزال تخوضها، لم تحسم نصراً سريعاً فيها، بل طال أمدها، واضطرت للانسحاب بخسائر وإهانات، في فيتنام، والعراق، والصومال، وفي أفغانستان تفاوض حالياً على الخروج الآمن من أطول حروبها، وإخفاق في كوبا بعد حصار طويل لها، وفشل في فنزويلا من تشافيز إلى مادورو.

هدأت الجبهة الكورية بعد أن وافق الرئيس كيم على عقد القمة، وفي لحظة تحول من الرجل القصير السمين، والرجل الصاروخ إلى زعيم وصديق رائع عند ترامب، كما عُقدت قمة ثانية في فيتنام دون نتائج على الأرض، المهم أن يشبع الغرور في شخصيته بأنه أجبر الكوري على الجلوس معه، وأن أوباما لم يستطع فعل ذلك.
وإحدى مشاكله النفسية إرث أوباما الذي يعمل على إزالته، ولو تمكن من شطب سنوات الرئيس الرابع والأربعين من تاريخ الرئاسة والبيت الأبيض لفعل، عقدة كامنة لا يريد أن يتحرر منها.

إشعال جبهة إيران

جاء الدور اليوم على تسخين وإشعال الجبهة الإيرانية، وترك الجبهة الكورية شبه باردة، ومن الجلبة الآنية قد يعتقد البعض أن حرباً جديدة قادمة في الخليج العربي، والحقيقة ليست هناك حرب، إنما السيناريو نفسه وهو الضغط بقوة هائلة لدفع إيران إلى الهرولة للاجتماع معه، لكن هل يجهل هو وجون بولتون مستشاره للأمن القومي وداعية الحرب ضد إيران وتغيير النظام، أنه أمام خصم عنيد يستند إلى تاريخ امبراطوري فارسي قديم، وذاكرة الإيرانيين مشبعة بالروح التاريخية القومية والاعتداد بالذات، فالتاريخ له دور مهم في الصمود والاعتزاز الوطني للبلدان العريقة والعتيدة.

وعندما يكشف الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه عندما كان في الأمم المتحدة العام الماضي توسط خمس رؤساء دول كبرى للتفاوض مع أمريكا، ورفضنا، وأن وزارة الخارجية الأمريكية أرسلت أكثر من عشر طلبات  للتفاوض، فهذا دليل على عقلية تستند في أحد قواعدها على إرث يرفض إعلان الضعف والانكسار، ولا يزال ترامب يدعو الإيرانيين للاتصال به، كأنه يلاعب جمهورية موز، وليس دولة إقليمية كبرى ذات توجه عقائدي سياسي وقومي وديني.

والتقدير أن الإيرانيين لن يذهبوا إلى أي عاصمة للقاء الرئيس الأمريكي في ظل الظروف الحالية حيث سيظهرون كما لو كانوا مهزومين في حرب لم تحدث من الأصل، وهم يعلمون أنهم لو فعلوا ذلك سيكونون في موقف خضوع أمام واشنطن، ولهذا يقول روحاني: لن نستسلم أمام أي نوع من الغطرسة والترهيب، واليوم ليس الوقت المناسب للمفاوضات، إنما حان وقت المقاومة والمرونة.

مصالح أمريكا تحت الاستهداف
 

القواعد والمصالح الأمريكية بالخليج في مرمى إيران، مثل الوضع في كوريا الشمالية، والإضافي هنا أن أذرع إيران قادرة على مزيد من إيذاء أمريكا ومصالحها في أكثر من مكان، واستهداف إسرائيل حليفها الأوثق، وجزء كبير مما يجري اليوم تجاه إيران لصالح الكيان الصهيوني، وجعله القوة الوحيدة المتفوقة في المنطقة، والجزء الآخر تصفية إنجاز أوباما في الاتفاق النووي، والمزيد من حلب السعودية ودول الخليج، فكل تصريح، وكل تحريك لبارجة، وكل انتشار عسكري له ثمن يدخل الخزينة الأمريكية.

 لكن هناك في شرق آسيا لا تدفع اليابان وكوريا للحماية بنفس القدر الذي تدفع به بلدان الخليج، ولو تُركت اليابان تتسلح وتبني جيشاً مقاتلاً لأصبحت قوة عسكرية جبارة مثل قوتها الاقتصادية والصناعية الهائلة، وهما بلدان ديمقراطيان فيهما محاسبة ومساءلة عن كل دولار يذهب للأمريكان، وعملاقان اقتصاديان في آسيا والعالم يُحسب لهما حساب، وأي من هذه العوامل والقيم لا يتوفر لحلفاء أمريكا الخليجيين في غرب آسيا رغم أنهم من أغنى بلدان العالم، فهم بلا قواعد صناعية وإنتاجية متطورة يحتاجها العالم، وهم بلا انفتاح سياسي، وما يذهب للأمريكي من المال لا يخضع لمناقشة أو محاسبة.

الوسطاء يتحركون

لا يعني هذا أن قنوات التواصل مسدودة، هناك وسطاء ينشطون الآن بين طهران وواشنطن، غالباً القطريون والعُمانيون والعراقيون، فالأطراف الثلاثة تربطهم علاقات حسنة مع الجانبين، وقد تتحرك القاهرة لكن في حدود معينة بحكم علاقتها الخاصة مع ترامب لمحاولة إيقاف التصعيد لرفع الحرج عن نفسها أمام حليفيها السعودي والإماراتي في مسألة الدفاع عنهما ضد أي عدوان، إذ ترى ألا مصلحة لها في مواجهة إيران أو استعدائها سياسياً أو عسكرياً، وربما انسحابها مما يُسمى الناتو العربي يصب في نفس الاتجاه لكي لا تدخل في خصومة مجانية مع إيران، وقنوات القاهرة إلى عقل طهران تمر عبر دمشق وبغداد.
موقع إسرائيلي اسمه “ديبكا” نشر عن وجود أطراف أمريكية إيرانية تتفاوض في الدوحة دون تأكيد رسمي، أو توثيق للمعلومة، لكن أي تحرك غير مستبعد، خاصة من ثلاثي خليجي ليس مع التصعيد ولا التهديد بالحرب: عُمان، وقطر، والكويت، ويشاطرهم الموقف ذاته معظم الدول العربية، ودعوات الرياض لعقد قمم خليجية وعربية بالتزامن مع قمة إسلامية هدفها دفع الخليجيين والعرب لتبني السياسة السعودية في الحشد ضد إيران، وهذا مشكوك فيه. 

فلتهدأ الجبهة الايرانية، ويتم تبريدها أولاً، ثم يبدأ التفاوض دون شروط مسبقة لإنجاز اتفاق نووي يعالج ثغرات الاتفاق الذي انسحب منه ترامب، ويتسع التفاوض لعلاج شامل لكل أسباب التوتر في المنطقة من كل جوانبها ومن مختلف أطرافها، فهذا هو الحل الوحيد الذي يجب العمل عليه في منطقة توتر وقلاقل وحروب.
 فهل يتعقل ترامب أم سيواصل ديماجوجيته وغروره وصراخه بتدمير الدول؟!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه