جنينة.. محاكمة الشرف

(1)

هشام جنينة ليس بطلي، وليس من عينة الزعماء الثوريين الذين كنت أنتظرهم، هكذا كنت أرى الصورة من بعيد، بكل الحسابات العقلية وبكل الشواهد التاريخية وبكل المعادلات النفسية، وحسب قاموس اللغة النضالية التي نشأت عليها أجيال مشبعة بشعارات التمرد والهتافات “الحنجرانية” العالية، بل إنني كنت أنظر (وربما مازلت) للمستشار جنينة باعتباره “رجل نظام”، فهو ليس سياسياً ولا يريد أن يكون، وليس متمرداً بل رجل قانون، لا يهوى الطيران خارج السرب، ولا يفضل الغناء في الساحات العامة، لكن كان يحمل بداخله “عيباً خطيراً” دفغ به إلى السجن وإلى المحاكمة المدنية ثم المحاكمة العسكرية (لينال القهر من الطرفين)، وذلك “العيب الخطير” الذي سلخ جنينة عن النظام وفرق بينهما باللعنة واللعان، هو: الشرف

(2)

هل يكفي الشرف كتهمة مشينة يطارد بها النظام ضابطاً سابقاً في جهازه الأمني وقاضيا مرموقا في سلطته القضائية ومسؤولا رقابياً كان مؤتمناً على أكبر مؤسسة رقابية للدولة؟، هل يكفي الشرف لكي يجعل من “رجل النظام” عدواً للنظام يستحق كل هذا التنكيل العلني، الذي يحمل في طياته (وفي ظاهره أيضاً) رسالة تصفية معنوية وبدنية لمسؤول أراد الإصلاح من داخل النظام ففتك به النظام

(3)

تبدو الإجابة سهلة ومؤسفة: نعم يكفي

فالشرف مخيف لشياطين العهر السياسي واللصوصية الاقتصادية، الشرف عدو الفاسدين، لذلك كان “تقرير الفساد” الذي عمل عليه جنينة وأعلن بعضا من ملامحه علانية، كان كافياً لإصدار الحكم بتصفيته بعد أن كشف الغطاء عن حجم فساد أجهزة ومؤسسات لم يكن لها أن تسكت عن مسؤول عينته للتواطؤ مع فسادها والاكتفاء بمحاسبة اللصوص الصغار المنافسين لها، فإذا بالمحتسب النزيه لا يفرق بين فاسد صغير وفاسد كبير، متصوراً أنه يقدم خدمة للوطن وللنظام نفسه، فغضب الذئاب وارتفع العواء يطالب برأس الرجل الذي لوث سمعة “اللصوص الشرفاء!”، أطلقت السلطة نواباً من عينة مصطفى بكرى وأسامة هيكل، وإعلاماً من العينة الوحيدة الذي تنتجها السلطة، وتم سن قانون عجيب ومعيب لإقالة المسؤول الذي تمنع القوانين (ويمنع المنطق) إقالته من جانب سلطة تنفيذية يراقبها ويحاسبها، لكن المنطق معتقل تحت التعذيب في زمن السيسي، والقوانين صارت مجرد مراسيم فردية يسنها ويستخدمها شخص واحد على مقاسه وليس على مقاس الدستور، فتم عزل هشام جنينة من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، ولم يكف العزل لطمأنة اللصوص، فبدأت حملات إسكاته وترويعه، وتم محاصرته بالقضايا الكيدية، ولما بدأ ينخرط في تحركات وطنية تقترب من المجال السياسي، تصاعدت رسائل التهديد، ولما أعلن الفريق “مستدعى” سامي عنان عزمه الترشح للرئاسة ومعه جنينة نائباً للشؤون القانونية والإنسانية، أرسل النظام رسالة أعنف لرجله “الشريف المارق”، لكن جنينة كان قد قرر استكمال مسيرة الشرف، وتحدث للإعلام بما يتحدث به السياسيون في الجلسات الخاصة والغرف المغلقة، تحدث عن وثائق نعرف أنها موجودة، ونعرف أن الفريق عنان نشر جانباً منها في الصحف “القومية” بعد أقل من ثلاثة اشهر على تصدر السيسي للمشهد السياسي في 3 يوليو 2013، وألمح في شهادته التي حملت عنوان “أوراق من مذكرات” إلى تفاصيل مهمة عن الأشهر التي سبقت ثورة يناير، وعن الأيام الأولى للثورة، وعن عودته من الولايات المتحدة الأمريكية بعد متابعته لجمعة الغضب على شاشات الفضائيات، واعترف بنفسه أنه صاحب فكرة “الانقلاب الناعم” على مبارك، وأنه كان يخطط لانتقال السلطة بطريقة ذكرها تفصيلاً، لكن حساباته كلها ذهبت أدراج الرياح، وفي 3 يوليو 2013 وجد ضابطاً من الخاملين العاملين تحت قيادته سابقاً (الضابط النتن اللي حط الدبوس في الأستيكة)  وجده يستولي على كل الشيء وينفرد بالسلطة بعد الإطاحة بجميع المنافسين.

(4)

مع الوقت ومع رفقة الحجب والعزل ومع مسيرة المعارضة والتنكيل وبرغم كل المسافات والحسابات صار المستشار جنينة صديقاً عزيزاً وأخاً في الوطن وفي محاربة الفساد.. صار “رجل النظام المهذب الشريف” خارجاً عن النظام، أو بتعبير أدق: صار النظام بعيداً عنه لأنه نظام يبتعد بقدر استطاعته عن الشرف والنزاهة والعدل ويفر من كل صاحب ضمير، بينما بدأت خطوات المعارضين للنظام تتقارب، وقد كنت حريصا على دعم هذا التقارب انسانيا ومعنويا وسياسيا، لكنني لم أستجب لدعوات كريمة بحضور اجتماعات لمناقشة الاتفاق على مرشح وطني توافقي والتي انتهت بعد أشهر بالاستقرار على خوض الفريق عنان للسباق ومعه فريق رئاسي تقدمه الدكتور حازم حسني والمستشار جنينة كنائبين للرئيس المحتمل مع انتظار التوسع في التشكيل حسب استجابة القوى السياسية المؤيدة، وبرغم عدم حضوري لأي من الاجتماعات التحضيرية، ثم خروجي من مصر بعدها، وبرغم نقص المعلومات الدامغة في قضية الوثائق، فإن العقل يقول إن جنينة كان يعرف جانباً مما حدث، سواء بالنقاش المباشر مع سامي عنان أثناء جلسات التشاور في الترشح (وهو ما نفاه عنان في التحقيقات لأسباب قانونية مفهومة ومقدرة)، أو بالاطلاع على ما نشر (وربما على بعض ما  لم ينشر ايضاً)، والسيسي يعرف أن عنان يعرف، ويخشى من ترك الباب مفتوحاً للسير في هذا الاتجاه، فقرر إغلاقه بأي ثمن، لكن المؤسف على غير ما توقعنا (وعلى غير ما نتمنى) أن السيسي لم يدفع ثمنا كبيرا مقابل اعتقال سامي عنان وهشام جنينة، فقد نجح في الاستمرار في الحكم عبر مهزلة انتخابية سخر منها العالم كله، بينما يختفي المنافسون وراء الجدران أو تحت أغطية الصمت والحجب والخوف الذي يملأ سماء مصر كدخان خانق، لكن ليس معنى هذا أن الصراع انتهى، لأن المحاكمات (حتى لو كانت عسكرية) تمثل أملا جديداً في “الكلام” الذي ارتكب السيسي كل هذه الحماقات ليكتمه، وحتى لو كانت المحاكمات صورية، فإن الشكل يقتضي مرافعات وتفنيدا للاتهامات، وطلب شهود، وتغطيات إعلامية، وجذب الرأي العام المحلي والدولي لمتابعة قضايا معيبة من هذا النوع الذي يشين أي دولة عصرية لها  دستور، والسؤال: هل لدينا الرؤية والتخطيط والترتيب لهذه المحاكمات، بحيث نجعلها محاكمة للنظام، وليس المستشار جنينة، والفريق عنان الذي نأمل تقديمه لمحاكمة علنية قريبة؟

(5)

لا تجعلوا محاكمة هشام جنينة أمام محاكمة عسكرية، فعلا عاديا يجلب الإحباط ويمر في صمت، اجعلوها حدثاً كبيراً، افتحوا الملفات وانبشوا في تفاصيل الاتهامات وفي تاريخ الثورة، اسألوا عن تلك الوثائق المخيفة والمخفية، وتذكروا أن السيسي في حوار ما قبل ترشحه عام 2014 تحدث علانية على شاشة التليفزيون عن تسرب حقائب من وثائق الدولة المصرية بينما كان وزيراً للدفاع، وهي تهمة اعترف بها وموثقة بالفيديو عن تورطه في اختفاء وثائق، قال إنها تتضمن تقديرات موقف، وبيانات استراتيجية وليست مجرد محاضر اجتماعات، وفي رأيي أن الخوض في تفاصيل القضية وتوسيع نظاقها سيقلب المائدة على نظام الحجب والتخويف والإسكات، فالكلام هو أخطر ما يزعج اللصوص وأنظمة القهر، وكما قال الشاعر الأمريكي آلن جينسبرغ: انهضوا.. انهضوا يا ناس واستخدموا رئاكم، رُدوا على الطغاة، فكل ما يخافونه هو ألسنتكم؟

(6)

اتكلموا

ما أحلى الكلام / ما ألزمه / ما أعظمه

في البدء كانت كلمة الرب الإله / خلقت حياه / والخلق منها اتعلموا

فاتكلموا

اتكلموا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه