المعارضة الباردة في الخارج.. والحرام في قيامة أرطغرل

 

في فتوى عجيبة ككثير من الفتاوى المحسوبة علي دار الإفتاء المصرية، تقرر أن مشاهدة المسلسل التركي ” وادي الذئاب ، والمسلسل التاريخي ” قيامة أرطغرل ” حرام ولا تجوز شرعا ، وأن مشاهدها لا يدخل الجنة في الوقت الذي يبلغ فيه الإسفاف الذي تقدمه السينما المصرية للحضيض بالحض على المخدرات والعنف والبلطجة، ولم تجرؤ دار الإفتاء بالتلفظ بما يدين هذا الانحطاط، ولم تجرؤ على تحريم القتل للآلاف في ميداني رابعة والنهضة، ولم تجرؤ على كتابة بيان تشجب فيه التنازل عن مقدسات الأمة ، بل وصدق المفتي على المئات من أحكام الإعدام على الأبرياء دون أن تهتز له شعرة حياء أو خوف!

 ولا يعد هذا هو الهجوم الأول أو الوحيد على مسلسل أرطغرل والذي يروي بطولات ” أرطغرل بن سليمان شاه في فتح بلاد الأناضول والتمهيد لبناء الدولة العثمانية صاحبة الحضارة العظيمة والأملاك التي وصلت لقلب أوربا علي يد ابنه المؤسس عثمان بن أرطغرل، فقد لقي المسلسل هجوما عنيفا من الإعلام المصري الموالي للانقلاب بغير سبب سوى النكاية في النظام التركي الذي لم يعترف بالنظام الانقلابي حتى اليوم، ويستوعب على أرضه معظم المطاردين والمناوئين للنظام المصري.

وعلي صعيد آخر يحصد الفيلم المصري ” بسبوسة بالقشطة ” والذي أنتجته قناة مكملين المناهضة للانقلاب الجائزة الماسية في المهرجان الأوربي للأفلام المستقلة ، مما تسبب في حالة الصرع للإعلام المصري المتحدث باسم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ، ومن المعروف أن الفيلم يتعرض للقصص المأساوية للمعتقلين في البلاد من خلال قصة سجين سياسي ، واتهم الإعلام المصري تركيا زورا بأنها من مولت إنتاج الفيلم ، كما ادعت أن الإخوان المسلمين يقومون من خلاله بتشويه صورة بلادهم من اإسطنبول ، ولم يسلم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من ألسنة الإعلاميين المصريين في هجومهم علي الفيلم

الفن والذعر والوهن السياسي

لا يوجد نظام مستقيم على مستوي العالم يخشى عملا فنيا ينتقده ، ولا يوجد نظام مستقيم كذلك يهاجم عملا فنيا يحكي تاريخ دولة ما ويظهر عظمة النشأة ، وعظمة الحضارة ، وبطولات الأجداد ، إلا إذا كان نظاما يضرب الفساد جذوره وينسج سياسته على بيع الوهم للجماهير التي تكتشف وهنه كل يوم ، ولم يقف نظام عند جملة أعمال فنية مثلما وقف النظام المصري الذي أوقف إعلامه ونقاده وأجهزته الأمنية ولجانه الإلكترونية للهجوم علي عمل فني يتابعه الملايين علي مستوى العالم ، وقدم نموذجا لأعمال راقية تكشف أهمية هذا المجال إذا أحسن توجيهه واستخدامه بشكل راق وصحيح في تشكيل الفكر المجتمعي وتصحيح الفكر التاريخي تجاه قضايا الأمة ، والمجتمع القوي علي كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، هو مجتمع قوي كذلك في الإنتاج الفني ، على  عكس المجتمعات الأخرى التي تتوقف للبكائيات والكذب وتوجيه الاتهامات الباطلة والشتائم الهابطة .

ويذكر التاريخ أن القوة الناعمة المستخدمة في الفن والرياضة والإنتاج  الأدبي استخدمتها الدول الكبري وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في التبشير لأفكارها الاستعمارية ومنها مشروع العولمة خاصة في الجانب الثقافي والذي دفعت فرنسا لحالة من الذعر تجعل وزير خارجيتها رولان دوما يحذر بلاده في أواخر عام 1991 من نزعة الهيمنة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وبروز القوة الأمريكية كقطب أوحد ، وهو في هذه الصيحة التحذيرية لم يكن يحذر أوربا وحدها ، وإنما كان يحذر شعوب العالم جميعا للخضوع للهيمنة الأمريكية عن طريق الخضوع لانتشار فكرة العولمة والتي ركزت علي السيطرة الاقتصادية من خلال الفن في هوليود ، وانتشاره على حساب الثقافات المحلية في أوربا والعالم ، والتحديات كبيرة أمام أي نظام ليستخدم تلك القوة في السيطرة وتغيير فكرة ما لدى شعب آخر أهمها حرية  الرأي ، ومكانة الفرد في المجتمع ، والقدرة الفكرية الجمعية على اتخاذ قرار وتوجيه سياسة الدولة التي تضمهم ، ومدى قبول النظام السياسي وشعبيته بين فئات الشعب المختلفة ، ومن تلك التحديات نخلص إلى أن النظم الشمولية القمعية ليس من السهل أن تقدم فنا قادرا علي تقديم فكرة مؤثرة في محيطها الضيق ، فضلا عن تأثيرها في دائرة أوسع ، ومن هنا ندرك كذلك أنه كان جديرا بالنظام القمعي في مصر أن يصيبه الذعر ، فهو لم يعد مرفوضا بين معارضيه وحدهم ، وإنما نجد أن دائرة قبوله داخل القطر تضيق ، فلم تعد تتسع إلا للمنتفعين من وجوده ، وقليل ما هم

المعارضة بالخارج وفرص كسر التحديات

تعددت الفرص أمام المعارضة المصرية المهاجرة في تركيا وغيرها أن تخرج من حالة الثبات والسكون التي دخلتها منذ العام 2015 والذي توقف فيه الحراك الثوري فجأة ، ثم تغير مسار الإعلام حينها ليصير معارضة باردة لا يمثل الإعلام الثوري أو قضية الشرعية كما يعلن دوما ، صار يشبه إعلام المعارضة المستأنسة حيث النقد لأوضاع تتعلق بالأداء الحكومي، وكأن المشكلة مثلا في وزير التعليم الذي أفسد منظومة التعليم، أو وزارة الداخلية التي تسخر إمكاناتها الأمنية لإهانة المواطن بمناسبة وغير مناسبة ، أو كأنه في وزارة التموين التي تتلاعب في أسعار الاحتياجات الأولية للفقراء والبسطاء والموظف الذي سقط من الطبقة الوسطى للطبقة الدنيا ، أو كأن الإشكالية في وزارة النقل التي تهمل في إنشاء الطرق وليس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة التي تتعمد سرقة مقدرات البلاد ، وتاجرت في الخضار وألبان الأطفال.

لقد تحولت لمعارضة من النوع الكرتوني الذي يسدد الوقت أكثر مما يغطي فكرة لا يحملها، أتيحت له أكثر من فرصة ليتحول لإعلام ثوري محرك مع كل دعوة للنزول، وختمت بمحمد علي الذي أفشل عمدا لسبب غير مفهوم حتى الآن.

والتحدي الأول للمعارضة في الخارج هو كسر روتين المعارضة الباردة، واتخاذ دور المحايد وتقليد الأداء المهني بغير قدرة على إدارة حوار والتفاعل معه خاصة في استضافة مؤيدي الانقلاب والمدافعين عنه دون أن يملك المحاور أدوات الحوار الناجح

أما التحدي الثاني فهو وضع هدف لصنع الحدث وليس انتظاره للتعبير عنه، لقد استطاع الإعلام المهني في ثورات الربيع العربي أن يلفت انتباه العالم لوجود ثورة وليس مجرد مجموعة احتجاجات، وسلط أضواءه على مطالب الشعوب الحقيقية دون تجميل أو رتوش أو مواربة، وتلك هي المهنية، حين تضع هدفا مسبقا، ثم تضع له وسائل تخدمه وتعمل على تحقيقه على أن تكون تلك الوسائل قابلة للتجدد والتغيير بمرونة وفقا للمستجدات

والتحدي الثالث هو اختيار كوادر ووجوها جديدة تدرب بشكل كاف لتبني مجموعة قضايا تدور في فلك القضية الكبري وهي إسقاط الانقلاب، كوادر تعنى بملف المعتقلين، وأخري بالملف الحقوقي، ومجموعة بالحراك الثوري وكيفية تجديده وتسليط الضوء على كل حراك محتمل دون تجاهله كما يحدث مع الجوكر الذي يتجاهله الجميع بالخارج كما أشار هو بنفسه في نداءاته المتكررة للقنوات الإعلامية كي تنقل فكرته إن هم أرادوا حقا أن تتحرر البلاد

وتعتبر خطوة إنتاج فيلم ” بسبوسة بالقشطة ” الذي أزعج إعلام الانقلاب خطوة جيدة، بالرغم من أنها تفتقر للمنهجية والتخطيط وتحديد الهدف العام من مجموعة البرامج المقدمة ككل، إلا أنها خطوة جيدة وبداية قوية لتقديم نوع محترم من أنواع القوة الناعمة باستخدام الفن الدرامي، وتظل خطوة وحيدة يضعفها أن لا تجبر بمحاولات أقوي

إنها فرصة ربما تكون الأخيرة للمعارضة بالخارج أن تعيد حساباتها، وتدخل ضمن برنامجها المعتمد على تثبيت الحالة الصفرية أساليب جديدة لتبني حراك جديد يعيد للقضية وجودها وصخبها الذي أماتته بقرار لا ندري حتى اليوم من وراءه، عليها أن تفعل وتنتهز الفرصة الأخيرة في وقت بلغ السيل الزبى، واحتقنت الجماهير بالغضب على كل الأطراف، وحين يشتعل الفتيل لن ترحم الشعوب وقتها نظاما تجبر، ولا معارضة فسدت.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه