السودان والنفوذ التركي في البحر الاحمر

إعادة ميناء سواكن الاستراتيجي للعمل كميناء بحرى يخدم المراكب التجارية والعسكرية مرة أخرى، سيمثل تهديدا حقيقيا للإمارات

بعيدا عما أثارته الزيارة التي قام بها مؤخرا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان من انتقادات حادة شنتها وسائل إعلام خليجية وعربية على كل من أنقرة والخرطوم ، معتبره أن مغزاها وتوقيتها والنتائج التي أسفرت عنها تمثل تهديدا فعليا للأمن القومي العربي ، وتفتح الباب على مصراعيه أمام ما أسمته تلك الصحف بـ ” عودة الاستعمار العثماني للمنطقة العربية عبر بوابة السودان ” ، إلا أن الواقع يؤكد أن المصالح والأهداف التي تسعى كل من أنقرة والخرطوم لتحقيقها من وراء ذلك التعاون المشترك ، هي الدافع الوحيد وراءه ، ما جعلهما تتجاهلان الانتقادات والهجوم الذى شُن عليهما من كافة الاطراف .

وسائل الاعلام التركية من جانبها ثمنت الزيارة التي وصفتها بالتاريخية ـ واعتبرت أن نتائجها وما اسفرت عنه من اتفاقيات وتفاهمات سينعكس بصورة إيجابية على مجمل الاوضاع داخل البلدين معا، خصوصا بعد التغريدة التي كتبها الرئيس التركي على حسابه بتويتر باللغة العربية، والتي قال فيها:” إن تقرب تركيا من أخواتها الأفارقة ليس تقربا لمصلحة طرف واحد بل هو علاقات منافع متبادلة تهدف الى إغناء افريقيا والنهوض بها”

  قلق محور الخليج

 الصحف التركية ومنها صحيفة “ينى شفق” المقربة من الحكومة تابعت أخبار الزيارة وما نجم عنها من تفاهمات، والاستقبال الرسمي والشعبي الذي قوبل به أردوغان فى كل منطقة قام بزيارتها من الخرطوم إلى بورتسودان وحجم التدافع الضخم من المواطنين السودانيين الذين رفعوا الأعلام التركية خلال استقباله، وكذا التكبيرات والتهليلات التي تعالت من الحضور الذين توافدوا لسماع كلمته في جامعة الخرطوم التي منحته الدكتوراه الفخرية، مشيدة بالتغطية الإعلامية الواسعة التي قامت بها الصحف السودانية.

“ينى شفق” انتقدت في الوقت نفسه التعليقات العدائية التي صدرت من بعض الصحف الخليجية خلال تعليقها على الزيارة ، إذ نشرت في أحد عناوينها البارزة أن ” زيارة أردوغان التاريخية للسودان أحرقت دم عكاظ السعودية” ، وقالت الصحيفة في خبرها : أن الحب والاهتمام الذى قوبل به الرئيس أردوغان في زيارته للخرطوم أقلق الجانب السعودي فخرج إعلامه عن طوره ، متهمة عكاظ ، التي وصفتها بالذراع الإعلامي لولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ، بانها أصبحت إماراتية أكثر من الصحف الإماراتية نفسها ، مشيرة إلى أن هجومها على شخص أردوغان والذى تكرر أكثر من مرة خلال فترة وجيزة ، يأتي مجاملة للإمارات ووزير خارجيتها الذى “مرغ أردوغان أنفه في التراب” على حد وصف الصحيفة بسبب إعادته نشر تغريده مسيئة للعثمانيين .

  إعادة التوازن للمنطقة   

واعتبرت الصحف التركية ذات التوجه الإسلامي مثل صحيفة ” تركيا ” و”وقت”، أن زيارة أردوغان التاريخية للسودان، والتقارب التركي السوداني أقلق بالفعل المحور السعودي المصري الإماراتي ، وهوما ظهر ذلك جليا في ردة فعل صحيفة عكاظ السعودية ، وهو الأمر الذى ربما يكون صحيحا في ظل التصريح الذى صدر عن المستشار الأول لرئيس الوزراء التركي الذى قال فيه إن تركيا تسعى لأن تكون بوابة السودان نحو أوربا على أن تكون السودان بوابة تركيا نحو أفريقيا ، مشددا على أن هذه الزيارة ليست ضد مصر ، لكنها لصالح شعبي السودان وتركيا ، وهو نفس المعنى الذى أكد عليه الكاتب الصحفي التركي مصطفى أوزجان ، الذى أوضح في عموده اليومي أن تركيا كانت تأمل أن تكون مصر هى بوابتها نحو أفريقيا ، إلا أن التطورات التي حدثت بها مؤخرا عرقلت هذا التوجه ، ولهذا فإن السودان بعلاقاتها التاريخية والتجارية مع تركيا يمكنها القيام بهذا الدور بعد أن غابت القاهرة .

فيما شدد فخر الدين داده رئيس موقع تايم تورك الإلكتروني، على أهمية توقيت الزيارة التي جاءت، وفقا لوجهة نظره، في وقت تحاك فيه المؤامرات الكبرى ضد تركيا، خصوصا بعد أن أتضح وجود دور لبعض الدول العربية في انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 بتوفير الدعم المالي والغطاء السياسي والإعلامي والاستراتيجي للانقلابيين، مضيفا أن تحركات المعسكر السعودي الإماراتي يمثل خطورة على مسار تركيا الديمقراطي، من خلال دعم ذلك المعسكر للمنظمات الإرهابية التي تستهدف الدولة التركية.

وفى هذا الإطار يرى “داده” أهمية تقوية أواصر العلاقات التركية السودانية، عبر إقامة تحالف قوى يعيد التوازن للشرق الاوسط الذي بات في مهب الريح بسبب محور الخليج الذي يحمل راية العلمانيين الجدد، ويحارب كل ماله علاقة بالإسلام.

    دلالات سياسية

وعموما فإن هناك توجها عاما في الإعلام التركي يرى أن زيارة أردوغان للخرطوم تحديدا، رغم أن جولته الأفريقية شملت أيضا تشاد وتونس، لها انعكاسات سلبية خطيرة على المحور السعودي – الإماراتي تحديدا، الامر الذي سيتسبب في أحداث تغييرات جوهرية في مخططات محور الخليج، وسيُزيد من قلقهم بعد أن أصبحت السودان عضوا فاعلا في المحور التركي المواجه لأطماع محور الخليج غير المشروعة في المنطقة.

وهو ما يبدو صحيحا إلى درجة كبيرة، إذا ما أخذنا في الاعتبار التصريح الذي صدر عن وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور الذى قال قبل وصول الرئيس التركي للخرطوم إن ” زيارة أردوغان تحمل دلالات سياسية من شأنها الارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى استراتيجي “، وهو الامر الذى أتضح مغزاه جليا حينما أعلن الرئيس التركي أنه ” طلب من الرئيس السوداني تخصيص جزيرة سواكن التاريخية لتركيا بهدف ترميم الآثار العثمانية بها، وإعادتها للعمل مجددا كميناء ملاحي ومنطقة سياحية، وهو ما وافق عليه البشير.

اعلان الرئيس التركي ذلك الأمر والذي جاء مصحوبا بجملة: ” أن هناك ملحقا لن أتحدث عنه الآن “. أثار المخاوف من أن الحديث عن ترميم الاثار العثمانية بالجزيرة ما هو المقدمة لتأسيس نفوذ عسكري تركى يتم التحضير له في السودان ، سيعقبه الإعلان إما عن قاعدة عسكرية تركية هناك أو ميناء عسكري خصوصا في ظل قيام أنقرة خلال السنوات الماضية بتعزيز قدرات أسطولها البحري وتطوير صناعاتها الحربية البحرية ، ما يعنى أن تكون السودان هى الدولة العربية الثالثة في الشرق الاوسط التي تحتضن قاعدة عسكرية تركية بعد القاعدة العسكرية في قطر والتي تطل على الخليج العربي،  والقاعدة العسكرية في الصومال على خليج عدن ، فيما ستكون القاعدة العسكرية في السودان على البحر الاحمر مقابل موانئ  ينبع والليث والقنفذه وجدة السعودية ، ومجاورة لمينائي القصير وسفاجا المصريين .

   مخاوف مشروعة

الأمر الذي تبدو معه مخاوف الإمارات والسعودية بشأن التواجد العسكري التركي في البحر الاحمر أمرا مشروعا، إذا ما أخذ في الاعتبار اتفاقيتي التعاون الدفاعي والتعاون في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية التي تم توقيعهما بحضور رئيس أركان الجيش التركي في السودان إلى جانب تشكيل مجلس للتعاون الاستراتيجي بين البلدين. وإعلان وزير الخارجية السوداني أن بلاده وقعت اتفاقيات للتعاون العسكري والأمني مع انقرة، مشيرا إلى أن أحد بنودها يشمل إنشاء مرسى لصيانة السفن المدنية والعسكرية، وهو ما أكده وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو الذي أوضح أنه تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الاحمر، مؤكدا مواصلة بلاده تقديم كل الدعم للسودان في هذا الخصوص، مشددا في الوقت ذاته على أهمية أمن افريقيا والبحر الأحمر بالنسبة لأنقرة.                                                               

من ناحية أخرى فإن إعادة  ميناء سواكن الاستراتيجي للعمل كميناء بحرى يخدم المراكب التجارية والعسكرية مرة أخرى، سيمثل تهديدا حقيقيا للإمارات تحديدا، ومنافسا فعليا لموانيها في جبل على ودبى ، والتي حاربت بشده خلال الفترة الماضية كافة المحاولات الرامية إلى تطوير أو انشاء أي ميناء يمكنه سحب البساط من تحت أقدام موانيها ، ناهيك عن منافسته لميناء جدة السعودي، في ظل رؤية العديد من الخبراء في مجال التجارة البحرية الخاصة بإمكان ميناء سواكن أن يكون الرابط الفعلي لحركة الملاحة بين أفريقيا وآسيا إذا قام السودان بتوظيف علاقاته الأفريقية لدعمه وتحويله لأكبر ميناء تجارى على البحر الاحمر ، خصوصا في ظل وجود الاتفاق المبرم بين الخرطوم وقطر لإنشاء ميناء بورتسودان ليكون أكبر ميناء للحاويات على ساحل البحر الاحمر .

 بينما تأتى تصريحات بعض المسئولين السودانيين عن احتمالية أن تكون قطر جزءا من تطوير ميناء سواكن وإدارته، عاملا إضافيا يمنح بعدا أخر لزيادة حجم المخاوف السعودية والإماراتية من توسع النفوذ التركي ـ القطري في المنطقة، ما يعنى تهديدا مباشرا وصريحا لمصالحهما معا، خصوصا وأنه في تلك الحالة سيكون لكل من الدوحة وأنقرة السيطرة الكاملة على الممر الأكثر محورية في منطقة البحر الاحمر، من الحدود المصرية إلى باب المندب في اليمن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

     

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه