بأموال الإمارات.. بيوت مقدسية في قبضة المستوطنين

هيثم أسعد- محمد عبد الله لحبيب:
أكثر من ١٥٠ بؤرة استيطانية حول المسجد الأقصى.

أموال الإمارات، والسماسرة الذين يحمي الاحتلال بعضهم، وجمعيات الاستيطان، والقوانين الإسرائيلية الجائرة تلتهم مساكن الفلسطينيين المجاورين للمسجد الأقصى وما حوله.

في هذا التحقيق تتبعت الجزيرة بالوثائق والشهادات، مسار عدة بيوت بالبلدة القديمة وسلوان، وصلت كلها في النهاية إلى أيدي مستوطنين، وفي تلك الأثناء رصدت الجزيرة جمعيات وشركات وشخصيات تعمل على تسريب منازل فلسطينية، ويحظى بعض نشاطها بتغطية من شخصيات في السلطة الفلسطينية التي يتهم بعض رموزها بالتواطؤ في ملف التسريب

رسم توضيحي لمراحل تسريب المنازل في القدس (الجزيرة)
منزل جودة.. اتهامات للسلطة

عرض عقار عائلة جودة الذي يبعد عن المسجد الأقصى حوالي ٣٥٠ مترا، للبيع منذ عام ٢٠١٢، طرحت العائلة فكرة بيع المنزل على إدارة الأوقاف وعلى وزارة التربية الفلسطينية، لكن البيت بقي بلا مشترٍ لمدة عامين إلى أن ظهر “فادي السلامين” وهو شاب فلسطيني مقرب من محمد دحلان ووقع اتفاقية بيع أولية مع صاحب المنزل أديب جودة، لكن تلك الاتفاقية فسخت عند المحكمة المركزية بسبب عدم تمكن السلامين من إتمام ثمن العقار -كما يشرح جودة- ليختفي السلامين، ويظهر خالد العطاري الذي قُدِّم على أنه رجل أعمال.

عند ظهور العطاري تداول الأهالي خبر نية بيع منزل عائلة جودة، فاتصل كمال قويدر -وهو مواطن مقدسي حمل على عاتقه الوقوف في وجه تسريب المنازل- بمحافظ القدس عدنان الحسيني، وهو حينها على رأس عمله بالمحافظة، محذرًا من نية تسريب العقار.

يصف قويدر بلكنته المقدسية جهود المستوطنين للاستحواذ على عقار عائلة جودة، قائلا: “منيش عارف ليش اليهود مستلحمين على هالبيت الموجود بحارة السعدية”، ويواصل استغرابه: “كأن بهذا البيت القريب جدا من المسجد شيئا ما يؤدي إلى الأقصى، لست أدري. لقد جند اليهود ناسا كثرا للاستيلاء على هذا البيت؛ من دحلان، إلى الإمارات، إلى فادي السلامين، إلى خالد العطاري، إلى أديب جودة، يوجد كثير من النافذين لهم علاقة ببيع هذا البيت”.

وكالة دورية العطاري-وثيقة1 (الجزيرة)

طمأن الحسيني كمال قويدر، في اتصال مسجل حصلت عليه الجزيرة، بأن البيت لن يتم بيعه قائلا: “نحن نتابع الموضوع. لا تقلق، حتى لو اشتراه العطاري فلن يستطيع بيعه في النهاية لأن العقار وقف”.

بهذه الطمأنة سكنت نسبيا نفوس المقدسيين، وكانت الأمور تجري في صمت. حصل خالد العطاري على تزكية من المحافظ عدنان الحسيني وافى بها آل جودة، وبدأت إجراءات نقل ملكية المنزل إلى العطاري.

يدافع الحسيني عن نفسه بأن المحافظة ليست معنية بالبحث المباشر في خلفيات الشخصيات، وأنها تحيل عملية البحث إلى أجهزة الأمن، وبعد أن تستكمل أجهزة الأمن بحثها، وتحيل النتائج إلى المحافظة، تُمنَح الموافقةُ على البيع.

لن يواجه العطاري مشكلة في الحصول على تزكية من أجهزة الأمن؛ فهو صديق لمدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج كما تقول صحيفة هآريتس، وللمحافظ عدنان الحسيني أيضا. وقد زكاه الأخير في النهاية، وزكته شخصيات فلسطينية أخرى، كما يفيد صاحب المنزل المسرب أديب جودة.

اتفاقية بيع أديب جودة-وثيقة 2 (الجزيرة)

تثبت الوثائق التي حصلت عليها الجزيرة أن اتفاقية بيع تمت بين عائلة جودة عن طريق لمياء جودة وخالد العطاري بتاريخ: ٢٨ ديمسبر/ كانون الأول ٢٠١٦ وبعدها انتقل عقد كهرباء المنزل إلى اسم العطاري.

يدافع العطاري عن نفسه بأن اتفاقية البيع تمت بين عائلة جودة، وشركة “داهو هولينجز ليمتد” بشكل مباشر، ولا دخل له فيها، ويرفع في وجه محدثيه ما قال إنه نسخة من الاتفاقية، لكن دائرة الأملاك الإسرائيلية قطعت الشك باليقين، فمن خلال وثيقة صادرة عنها نجد أن المنزل انتقل من ملكية عائلة جودة إلى ملكية خالد العطاري في ٢٣ إبريل/ نيسان عام ٢٠١٨ وانتقلت في نفس اليوم من خالد العطاري إلى شركة “داهو هولينجز ليمتد”.

وبعد ذلك حصلت جمعية عطيرد كهونيم الاستيطانية على المنزل مقابل دفع ١٧ مليون دولار للشركة التي اشترته بمبلغ ٢.٥ مليون دولار.

ما زاد من تأكيد ارتباط العطاري بالصفقة التي تبرأ منها في آخر مقابلة صحفية أجريناها معه قبيل اختفائه عن الأنظار، هو كون أوراق الشركة التي تحول العقار إليها تحمل اسم العطاري باعتباره متعهدا.

داهو العطاري- وثيقة3 (الجزيرة)

 

نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الشيخ كمال الخطيب قال إن العطاري وماجد فرج من جهة، وفادي السلامين ومن خلفه محمد دحلان والإمارات من جهة أخرى، “يتنافسون” لإيصال العقار إلى أيدي المستوطنين اليهود.

أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية رامي الحمد لله على حسابه الشخصي بتويتر أن السلطة شكلت لجنة للتحقيق في تسريب العقار، ورفضت حركة فتح في بيان رسمي لها “الزج بأسماء الشخصيات الوطنية” في ملف القضية، لكن الأهالي الذين يتهمون شخصيات في السلطة لم يلتفتوا إلى ما يعتبرونه تغاضيا أو تمالؤًا على تسريب العقار، بل شكلوا لجنة محلية لمتابعة القضية، حضر جلسة تشكيلها كل من أديب جودة، وخالد العطاري.

اعتُقل اثنان من قيادات اللجنة التي شكلها الأهالي، وكان تحذير السلطات الإسرائيلية لهما من الاقتراب من ملف التسريب، أو التعرض لمن كان سببا في تسريب بيت آل جودة، يطابق إلى حد بعيد التحذيرات التي جاءت من شخصيات محسوبة على السلطة الفلسطينية، وهي “نفسها المطالب التي تحمي مسربي بيت آل جودة، وتمنع الوصول إلى القوة التي تقف خلفهم، في الداخل والتي شجعت العطاري على بيع المنزل” على حد تعبير عبد الله علقم، وهو رئيس اللجنة الذي سجل الوقائع.

داهو العطاري- وثيقة3 ص2 (الجزيرة)

استيقظ المقدسيون على بيت آل جودة وقد تحول إلى بؤرة استيطانية في حارة تفصلها عن المسجد الأقصى بضع دقائق من السير على الأقدام، وهو ما يدل على أن “التزكيات التي حصل عليها العطاري من أجهزة السلطة لم تكن في محلها إذن” كما يقول أديب جودة.

قطعنا الشك باليقين فيمن سرب بيت آل جودة، وزاد من تأكيد المعطيات التي وصلنا إليها اختفاء العطاري عن الأنظار بعيد مقابلة بدا فيها متوترا وغير واثق مما يقول، فهناك بحسب فادي السلامين من أعاق الصفقة الأولى ومنع وصول الأموال التي حولها السلامين، لشراء منزل عائلة جودة.

رفض ماجد فرج مدير المخابرات الفلسطينية التحدث إلينا، وكذلك فعل الناطق باسم أجهزة أمن السلطة عدنان الضميري، رغم محاولاتنا المتكررة.

الطريق إلى التسريب

في عام ٢٠٠٠ وضعت إسرائيل إستراتيجية تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القدس إلى ١٢% بحلول عام ٢٠٢٠.

توفر سلطات الاحتلال الإسرائيلي أرضية ملائمة لتسريب المنازل عبر ترسانة من الإجراءات، والقوانين أبرزها قوانين: “أملاك الغائبين” و”تنظيم البناء” و”الجيل الثالث” التي تستهدف كلها إنهاء الوجود الفلسطيني في القدس.

بلغ عدد البيوت المهدومة بحجة عدم الترخيص ١١٣٤ بيتا بين عامي ٢٠٠١ و٢٠١٤ بمعنى أنه يهدم ٦.٢٥ بيوت كل شهر، ويهدم بيتان كل عشرة أيام طيلة عقد ونصف.

وبموازاة القوانين التي سنت للتضييق على المقدسيين، تتراكم الأعباء الاقتصادية بسبب الضرائب الإسرائيلية، والقروض البنكية التي يلجأ إليها المقدسيون لبناء المنازل، ومواجهة مصاعب الحياة، في ظل وضع اقتصادي متردّ، تبلغ معدلات البطالة فيه حوالي 14% من القوى العاملة.

وتمثل رواتب العمل في إسرائيل أكثر من ٥٠% من دخل السكان.

وفي ظل استعصاء الحصول على تراخيص البناء من بلدية القدس يلجأ الأهالي إلى البناء بدون ترخيص، و”عندما تبدأ بلدية القدس إصدار أوامر هدم وتقديم المعنيين لمحاكمات وفرض غرامات مالية باهظة تصل إلى مئات آلاف الدولارات على كاهل المواطن المثقل أصلا بالديون والالتزامات المالية” -كما يقول المحامي خالد زبارقة- فإن المواطن المقدسي يجد نفسه مضطرا للبحث عن مشتر للعقار.

قانون الجيل الثالث (الجزيرة)

 

“بيت الأوزباشي” المعروف بين المقدسيين بأنه مقر لمدرسة الفتاة، تراكمت عليه ديون الضرائب، ولم تجد محاولة وزارة التربية الفلسطينية جدولة الديون، وتسرب المبنى في النهاية إلى المستوطنين.

استطاعت سلطات الاحتلال بسياسة النفس الطويل، والإجراءات المتلاحقة الاستحواذ على مباني ذات رمزية تاريخية، مثل مقرات بنوك من بينها مقر البنك العربي، ومخفر الشرطة الأردنية بباب العامود، ومبنى البريد والهاتف المقابل لباب الساهرة.

تنضاف إلى الأسباب التي يدبرها المحتل للاستيلاء على المنازل وضغوط الحياة على المقدسيين، عواملُ أخرى ضاغطة كما يشرح أديب جودة، وهو صاحب بيت مقدسي وصل في النهاية إلى المستوطنين: “كبرت العائلة، وأصبح الورثة يريدون بيع حصصهم، وتعطل البيت، ولم يعد هناك مستفيد، لذلك قررنا بيعه”.

في مطلع سبعينيات القرن الماضي تأسست منظمة “عطيرد كوهنيم” على أيدي مجموعة من الحاخامات اليهود، وهي تهدف إلى تهويد مدينة القدس عبر دعم الاستيطان بشراء المنازل والاستحواذ عليها بكل الطرق، تدعمها في ذلك حكومات إسرائيل ومنظومتها الأمنية.

وفي عام ١٩٧٩ انشقت عنها منظمة العاد، دون أن تحيد عن الأهداف الرئيسية للمنظمة الأم.

تعد الجمعيتان من أكثر الجمعيات الاستيطانية العاملة على انتزاع تفوق ديمغرافي في مدينة القدس.

وترتكز جهود المنظمتين في منطقة باب الخليل التي توجد بها قلعة القدس، أو “قلعة داود” كما يسميها اليهود، وتؤمن ممرا آمنا للوصول من القدس الغربية إلى المسجد الأقصى وباحاته.

 

أقنعة عربية

“نحمل المسؤولية لناس زي عبد الله صرصور الي هو كان السبب الأساسي الي خلى الناس تثق في الحاج فريد يحيى وجلبه على مدينة القدس، وعرفه على الأوقاف الإسلامية، وهذه عرفته على أبو عنان بيضون وفتحت له، عن غير وعي، المجال للتعرف على ناس من سلوان يمكن أن يبيعوا عقاراتهم”.

تشير هذه الإفادة من مدير مركز معلومات وادي حلوان جواد صيام إلى واحدة من أخطر أدوات تسريب منازل المقدسيين إلى الجمعيات الاستيطانية، هي القناع العربي الذي تمثله شبكة من سماسرة العقارات، يتولون الشراء من الأهالي بحجج مختلفة، ويتعهدون بعدم تسريب العقارات لكن الحقائق ما تلبث أن تتكشف، فإذا هم مجرد محطة قصيرة يتوقف بها العقار في طريقه إلى بالوعة الاستيطان الناعم.

قانون أملاك الغائبين (الجزيرة)

مدير صندوق الأراضي الإسرائيلية في بلدية القدس قال للجزيرة إن مشاريعهم لتهويد القدس وشراء المنازل تتخفّى خلف أسماء عربية، رافضًا إعطاء تفاصيل إضافية.

فريد الحاج يحيى، وشمس الدين القواسمي، وخالد العطاري نماذج ثلاثة تكشف الوثائقُ والشهادات التي حصلت عليها الجزيرة تورطهم في عمليات تسريب مباشرة لمنازل في البلدة القديمة، وسلوان.

يتحرك الأربعة وغيرهم لإقناع الأهالي ببيع العقارات التي يواجه أصحابها صعوبات مالية، أو يعرضونها للبيع لأي سبب من الأسباب؛ فيتقدمون لشرائها تحت غطاء النشاط التجاري الصرف، أو العمل الخيري.

تثبت الوثائق تورط العطاري في صفقة بيت آل جودة الذي يبعد عن المسجد الأقصى حوالي ٣٥٠ مترا، وتقدم شهادات النشطاء والأهالي معلومات عن تسريب فريد الحاج يحيى لاثنين وعشرين عقارا في بلدة سلوان. أما شمس الدين القواسمي فتلاحقه شبه تسريب بيت آل الرجبي في البلدة القديمة.

“بيضون” و”الرجبي”.. أموال الإمارات

ليس سرًّا أن اثنين من أبرز من تلاحقهم تهم التسريب لهم صلة بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ ففريد الحاج يحيى عمل بجمعية عجمان الخيرية، وكان ممثلا لها في القدس مدة من الزمن، ويصرح في أكثر من مقابلة مسجلة بأنه جلب أموالا إماراتية إلى القدس، وساهم في مشاريع خيرية.

يوثق المحامي خالد زبارقة دور المال الإماراتي في تسريب أحد المنازل عام ٢٠١٤ بالقول إن “الأموال تم تحويلها من الإمارات إلى بنك عربي في منطقة العيزرية تابع للسلطة الفلسطينية وتم سحب هذه الأموال، وتصل إحدى دفعاتها إلى نصف مليون دولار، تم سحبها نقدا من فرع البنك”.

أبو عنان بيضون -وهو مواطن مقدسي- ينقل عن شمس الدين القواسمي المقرب من محمد دحلان قوله: إنه يشتري العقارات للإمارات. وعند السؤال عن ارتفاع الثمن المعروض الذي يساوي ثلاثة أضعاف القيمة الحقيقية للمنزل الواقع في منطقة غير تجارية، يجيب القواسمي: “أنا أريد الشراء للإمارات (…) يمكن أن يريدوه مشفى أو مدرسة”! لكن العقار في النهاية يصل إلى المستوطنين.

أبوعنان-وثيقة4 (الجزيرة)

وينضم نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الشيخ كمال الخطيب إلى مؤكدي الدور الإماراتي في تسريب المنازل بالقول: “لن أتردد في القول بأنها الإمارات. قلتها وأؤكد اليوم وغدا أمام الله وأمام شعبنا أن رجال أعمال إماراتيين هم من يقف خلف هذه الصفقات، وطبعا من يساعدهم على تمرير هذه الصفقات لا شك أنها عناصر فلسطينية ولن أتردد في القول إن هناك شخصيات فلسطينية نافذة، في بعض مؤسسات السلطة”.

قصة بيت عائلة جودة التي مرت سابقا، مجرد سيناريو مطور لقصص تسريب المنازل في سلوان والبلدة القديمة بمدينة القدس.. قصة بيت بيضون يرويها صاحب البيت نفسه أبو عنان بيضون.

استأجر فريد الحاج يحيى أحد طوابق المنزل بحجة استضافة حجاج من دول مثل ماليزيا وإندونيسيا، “تفاديا -كما يقول- لتحولهم إلى فنادق إسرائيلية” وبدأ ربط العلاقات.

عمل يحيى مع مؤسستين إماراتيتين، إحداهما جمعية عجمان الخيرية، وكان يدير جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات. اعترف في مقابلة منشورة بأنه كان يشتري بيوتا مقدسية بأموال إماراتية.

وتتداول على نطاق واسع صورة لفريد مع السفير الإماراتي السابق في الأردن علي محمد الشامسي. وقد كان فريد “يستعرض صوره مع الأمراء الإماراتيين، وهم يعانقونه”، كما يفيد أبو عنان

اتفاقية بيع بيضون-وثيقة5 (الجزيرة)

لا يجادل فريد في أنه اشترى بيوتا في القدس وسلوان، لكنه يجادل في عددها، فهو ينكر أن تكون ٢٢ أو ٢٣ بيتا، بل يقول إنها يمكن أن تصل إلى ثلاثة بيوت أو أربعة، كما ورد في مقابلته مع موقع “بانيت” المنشورة في أكتوبر/ تشرين عام ٢٠١٤.

اتهم فريد بتسريب منازل إلى المستوطنين اليهود، وادّعى أنه لا يبيع لمشتبه فيهم، إلا أن كل البيوت التي اشتراها آلت في النهاية إلى أيدي المستوطنين، منها ٢٥ بيتا في بلدة سلوان آلت إليهم دفعة واحدة، حيث استولى عليها المستوطنون في ٢٧ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٤، ولا يصدق أبو عنان بيضون أن يكون ذلك بمحض الصدفة.

استعصى أبو عنان على محاولات فريد إقناعه ببيع البيت، فلجأ السمسار إلى الابن الذي باعه البيت، بعقد موقع في ١٥ يوليو/ تموز ٢٠١٤ ولحق بالمنازل التي وقعت في يدي فريد سابقا وتحولت كلها إلى بؤر استيطانية تتسبب في أذى لجيرانها المقدسيين، لعل ذلك يرغمهم على مغادرة بيوتهم أو بيع لسمسار ما تحت ضغط الضرائب، وجار السوء.

بعد حادثة بيت بيضون، وحوادث مماثلة، اختفى فريد الحاج يحيى عن الأنظار إلى اليوم خاصة بعد إهدار دمه من قبل سكان القدس، ويقول معارفه الذين حاولنا عن طريقهم الوصول إليه إنه يغير رقم هاتفه كل شهر تقريبا، ولا يمكن الوصول إليه.

وقف بيضون-وثيقة6 (الجزيرة)

وكما اختفى فريد الحاج يحيى وخالد العطاري، اختفى أيضا شمس الدين القواسمي، وآخرون متّهمون بتسريب منازل مقدسية إلى مستوطنين يهود.

منزل عائلة الرجبي في سلوان ضحية من ضحايا شمس الدين القواسمي دفع فيه ثلاثة أضعاف ثمنه، بحجة أن الإماراتيين يريدون شراءه.

استأجر القواسمي بيتا من أبي عنان بيضون، لكن أحد المعارف في سلوان حذر بيضون من القواسمي حين علم برغبته في شراء بيت الرجبي، وأنه عرض ثمنا له أكثر من ٢٠٠ ألف دولار، في حين أن البيت لا يساوي ثلث هذا المبلغ.

واجه بيضون -كما يقول- القواسمي بخبر محاولته شراء بيت الرجبي، فأنكر في البداية، لكنه عاد واعترف بأن الإماراتيين يريدون شراء البيت، وأنه لا يعرف هدفهم منه، فطلب منه بيضون مغادرة بيته، لكنه جاءه بتزكية من محافظ القدس عدنان الحسيني، تعرف القواسمي بأنه كان “يعمل في الجبهة الشعبية، وله باع طويل مع رجال الإصلاح، ومعروف عندنا في هذا البلد”.

ولم تكن تزكية الحسيني للقواسمي في محلها مرة أخرى، لأن بيت الرجبي الذي اشتُرِي بمال إماراتي وبيد القواسمي تحول إلى بؤرة استيطانية ازدادت بها مراتع المستوطنين في بلدة سلوان بمدينة القدس ابتداء من ٢٠ أكتوبر/ تشرين الأول عام ٢٠١٤، وبدأت معه معاناة عائلات حي الحارة الوسطى بسلوان، جراء زرع بؤرة استيطانية جديدة.

وتعتقد جمعيات استيطانية أن الحارة الوسطى تعود إلى “الإرث اليهودي بالمدينة”.

قانون التخطيط والبناء (الجزيرة)
أين يذهب المسرّبون؟

“عدد من المسربين موجودون في الضفة الغربية، ولديهم استثمارات هناك، وفي أريحا يمتلكون عقارات، كل المسربين القادمين من منطقة وادي حلوة اشتروا عقارات في أريحا، وبعضهم يملك استثمارات في كفر عقب.. إنهم يحسون بالأمان في رام الله أكثر  من سلوان”.

بهذه الكلمات يوضح مدير مركز معلومات وادي حلوان جواد صيام، الوجهة التي يسلكها أغلب المسربين بعد احتراق أوراقهم في القدس، الذي قد يصل إلى إهدار الأهالي لدمائهم.

تواجه السلطة الفلسطينية تهم التواطؤ التي توجه إلى بعض رموزها وأجهزتها، بالنفي، حيث يقول المحافظ السابق للقدس عدنان الحسين إن المحافظة لم تمنح تزكيات لمشتبه فيهم، لكن الشخص قد يتغير بعد أن تمنح له التزكية، ويتحول من تاجر أو سمسار عادي إلى “مسرب عقارات”.

وعند مواجهته بكون المسربين يبقون طلقاء بعد أن يثبت تورطهم في التسريب، أو تحوم الشبه الواضحة حولهم، يرد الحسيني بأن هؤلاء يحملون “الجنسية الإسرائيلية، أو البطاقة المقدسية” ولا سبيل لأجهزة السلطة عليهم. فـ”لو اعتقلوا واحدا منهم، لحاصرت إسرائيل رام الله صبيحة اليوم التالي” بتعبير المحافظ السابق.

أما أستاذ العلوم السياسية جمال عمرو فيرى أن الضعف في تعامل السلطة مع الملف يعود إلى اتفاق أوسلو الموقع عام ١٩٩٣، الذي كبّل أيدي السلطة فيما يتعلق بالقدس بإحالتها إلى مفاوضات الوضع النهائي، مع أن “المفاوض الإسرائيلي كان يضمر عدم فتح ملف القدس أبدا”.

صحيفة هآريتس الإسرائيلية ذكرت أن الشرطة الإسرائيلية منعت نشر أسماء فلسطينيين متورطين في تسريب المنازل إلى المستوطنين.

مراحل تسريب منزل عائلة جودة (الجزيرة)
لا نبيع للعرب

قادنا البحث في شبكة الإنترنت والاتصالات مع الشهود إلى عناوين شركات إسرائيلية تعرض منازل مقدسية للبيع تثني على موصفاتها بأنها عربية.

وتتراوح أسعار المنازل المعروضة على مواقع الشركات بين مليون و٢٠ مليون دولار أمريكي.

وعند الاتصال بالمعلنين رفضوا إجابتنا قائلين إن هذه “المنازل لا تباع للعرب”.

سألناهم: ولمن هذه المنازل؟ فتهربت الموظفة قائلة: “لن يخبرك أحد من يملك المنازل.. دائرة الأملاك والبلدية في إسرائيل يعرفون، لكن لا أحد يمكن أن يعطيك معلومات سوى المالك أو المحامي الخاص به”.

لا نبيع لليهود

” كنت مشردا في خيمة أمام بيتي الذي هددني اليهود بأن يأخذوه، وجاءتني جمعية إماراتية مشهورة قالوا لي: أن تبيع بيتك أحسن من أن يأخذه اليهود ويضيع. فما قبلت”. تلك كلمات رد بها ببراءة عبد الله أبو ناب، وهو مواطن مقدسي.

وصلت العروض ٢٠ مليون دولار ثمنًا للبيت فرفضها أبو ناب، وفضّل الترحيل من بيته ومماطلة المحاكم الإسرائيلية ليبقى البيت مظلمة تنتظر عدالة قد تأتي بها الأيام، على أن يبيعه ليصل في النهاية إلى المستوطنين.

تكشف قصة هذا المواطن جانبا من الصمود الذي يواجه به المقدسيون عُزّلا محاولة الاستيطان الإسرائيلي تغيير الوقع الديمغرافي في المدينة المقدسة، دون يأس فـ”ما زال هناك معنا مساحة يمكن العمل بها من أجل تثبيت العقارات الفلسطينية في بيت المقدس” كما يقول المحامي خالد زبارقة.

ورغم جهود الجمعيات الاستيطانية في ترغيب المستوطنين في السكن في المناطق المستوْلَى عليها، فإنهم ما زالوا يتقون صولة الأهالي.

يقول مدير مركز معلومات سلوان جواد صيام بعد التسريب الكبير الذي تسبب فيه الحاج فريد يحيى في سلوان “كان يصعب عليهم أن يأتوا بتلك الكمية الكبيرة من المستوطنين دفعة واحدة، فنشروا إعلانا في الصحف بتعويض كل مستوطن يقبل السكنى في تلك البيوت ٥٠٠ شيكل إسرائيلي، بشرط أن يكون قادرا على حمل السلاح”.

دفاع المقدسيين عن مدينتهم لا يجد عنوانا داعما يأوي إليه كما يقول كمال قويدر “فلا أحد للأقصى!!”.

المصدر : الجزيرة