في دولة المخابرات.. الكل عدو الكل (3)

الاحتفال بالذكرى الثلاثين لكلية الحقوق في جامعة بوتسدام في ألمانيا الشرقية حيث يتم تخريج ضباط المخابرات

قال المؤرخ الألماني “هوبيرتس كنابِه” لضابط جهاز المخابرات (شتازي) متحديا “إذا أرسلتم لي عميلا لكم فسوف أتعرف عليه بالتأكيد”.

رد عليه الضابط بهدوء “لم نرسل أي أحد، لقد أخذنا هؤلاء الذين كانوا حولك”، وكان اثنان من صديقيه المقربين هما بالفعل من وشيا به للمخابرات.

لم يكن ذلك استثناء في قصة كنابه، فقد فضحت وثائق وزارة أمن الدولة، التي خرجت للعلن بعد انهيار جدار برلين، تعاونَ الكثير من المواطنين مع الشتازي ضد أصدقائهم المقربين وأفراد عائلتهم، الأمر الذي صدم المجتمع الألماني، وأحدث فيه هزة عنيفة، أدت إلى قطع الكثير من العلاقات مع الأقرباء، وإنهاء الكثير من الصداقات والزيجات.

فالكاتب هانز يواخيم شيدليش، كان من أوائل المعارضين الذين تمكنوا من الاطلاع على ملفاتهم في وزارة أمن الدولة، ليكتشف أنه كان مراقبا من قبل أخيه الأكبر لسنوات، والذي لم يتوانَ عن كتابة تقارير للشتازي، تتضمن تحركات أخيه الأصغر ونواياه وفحوى أحاديثهما الخاصة، الأمر الذي جعل شيدليش ينشر عام 1992 رواية تتناول علاقته مع أخيه الأكبر الذي أنهى حياته لاحقا بالانتحار، أما القيادية في المعارضة فيرا لينجرزفيلد اكتشفت أن من تجسس عليها لصالح الشتازي لسنوات لم يكن سوى زوجها.

الكاتب هانز يواخيم شيدليش اكتشف أنه كان مراقبا من قبل أخيه الأكبر لسنوات (ويكيبيديا)
الموظفون غير الرسميين

أطلقت وزارة أمن الدولة على هؤلاء اسم (الموظفين غير الرسميين) أو اختصارا  IM، وكانوا يملكون أهمية لا تقدر بثمن لجهاز الشتازي، فعلى عكس المراقبين الرسميين وأجهزة التنصت والكاميرات، لا يسجل هؤلاء تحركات الهدف فقط، بل يستطيعون أيضا من خلال التواصل، والثقة المتبادلة بينهم وبين الهدف، معرفة نواياه وهواجسه ومخاوفه ونقاط ضعفه، وما يدور في رأسه من أفكار، الأمر الذي يجعل المعلومات التي يقدمونها عن الهدف أكثر دسامة من كل ما يمكن أن يقدمه الموظفون الرسميون، كما كان بوسعهم التدخل وفق خطة “التحليل” الموضوعة من قبل المخابرات، للتأثير على حياة الهدف، وتغيير مسار الأحداث في حياته، وذلك في المناحي التي لا يستطيع الموظفون الرسميون الوصول إليها أو التأثير فيها.

ولم يكن العملاء مجبرين على التخابر لصالح الشتازي إلا نادرا، فقد استطاع الشتازي بمساعدة علم النفس العملياتي التأثير على قناعات الناس واستغلال نقاط ضعفهم ودغدغة أحلامهم لتجنيدهم. ولم يكن استهداف الناس للعمل مع المخابرات عشوائيا، بل كان أمرا مدروسا، يمارسه أشخاص مؤهلون أكاديميا، بحيث يستطيعون التعرف على الدوافع المناسبة لدى كل شخص، لتوظيفها في عملية تحويله التدريجية، من مواطن عادي إلى شخص لديه القدرة على الوشاية بأقرب المقربين له بضمير مرتاح.

فقد صرح 60% من الموظفين غير الرسميين لدى شتازي، بأنهم قاموا بما قاموا به من تعاون مع المخابرات، بدافع الشعور بالواجب، والاستجابة لنداء الضمير، بينما كان 27% فقط طامعون بالتسهيلات والمنافع التي يجلبها التعاون مع الشتازي في نواحي الحياة المختلفة، والمجبرون على الأمر لم يشكلوا سوى النسبة الأصغر وهي 23 %، والتي عدها الباحثون النفسيون في كلية أمن الدولة إذ ذاك عالية بشكل يدعو للقلق، لأن الشتازي عرف أن العملاء المجبرين سيكونون بالضرورة عملاء سيئين.

القيادية في المعارضة في ألمانيا الشرقية فيرا لينجرزفيلد عام 1990 (ويكيبيديا)
أعداد الموظفين غير الرسميين

خلال عمر جمهورية ألمانيا الشرقية (1949-1989) جند جهاز المخابرات ما يقارب 624 ألف مدني لمراقبة المواطنين الآخرين، وبلغ عددهم الأكبر في سبعينيات القرن الماضي، بما يقارب 200 ألف موظف غير رسمي، حيث كانت أعدادهم تعكس مقدار القلق الأمني الذي تعيشه وزارة أمن الدولة، فقد كانت هذه الأعداد تقفز في ارتفاع ملحوظ مع كل أزمة تضرب المجتمع الألماني، مثل عصيان عام 1953، وبناء جدار برلين، وسياسة التقارب الألماني-الألماني بعد توقيع اتفاقية هلسنكي.

وقد جندت الشتازي 12 ألفا من المواطنين لمراقبة المعارضين في ألمانيا الغربية، وكان البعض منهم ممن تم إرسالهم من ألمانيا الشرقية لهذا الغرض، بينما كان القسم الأكبر منهم هم مواطنون في ألمانيا الغربية، عملوا مع الشتازي بدافع من “التعاطف” مع نظام الحكم في شقيقتهم الشرقية.

 وكان أكثر من 80% من الموظفين غير الرسميين رجالا، تراوحت أعمار النسبة العظمى منهم بين 25 و40، رغم وجود قُصَّر وكبار في السن بينهم أيضا.

نسبة الموظفين الرسميين إلى الموظفين غير الرسميين

كان عدد الموظفين غير الرسميين المتعاونين مع الشتازي يبلغ ضعف عدد الموظفين الرسميين في الجهاز نفسه، ففي عام 1989 بلغ عدد الموظفين غير الرسميين حوالي 189 ألف موظف ، في مقابل 90 ألف موظف رسمي في ذات العام، وهذا يعني وجود موظف غير رسمي واحد لكل 89 مواطنا، مقابل موظف رسمي واحد لكل 180 مواطنا، في الدولة التي بلغ عدد سكانها في ذلك العام 16 مليونا. وتعتبر هذه النسب من أعلى النسب في العمل الأمني في العالم، مع ضرورة الإشارة إلى عدم الإجماع على هذه الأرقام، لصعوبة عمليات التحقق منها، ولوجود تصنيفات في وثائق أمن الدولة لمواطنين تعاونوا مع الشتازي بشكل أو بآخر، دون أن يطلق عليهم لقب “موظف غير رسمي”، مما يجعل هذه التقديرات لأعدادهم أقل من العدد الحقيقي.

المؤرخ الألماني هوبيرتس كنابِه (ويكيبيديا)

فقد قام كثير من المواطنين، بتقديم معلومات عن جيرانهم وزملائهم وأقربائهم للشتازي، بدون قصد أحياناً، بسبب تقديم موظفي الاستخبارات أنفسهم بهويات مزيفة، كموظفي جمارك أو إداريين، وذلك لإخفاء أسباب فضولهم الحقيقية. وكانت تسجل أسماء هؤلاء الأشخاص على أنهم مصادر للمعلومات، ويسجل بجانب أسمائهم ملاحظات عن مدى استعدادهم للثرثرة.

أما المدنيون في الأماكن الحساسة، كأصحاب القرار في المواقع الإدارية والمؤسسات الحكومية والمنظمات الاجتماعية، فقد حرصت المخابرات بشكل خاص على تجنيدهم للعمل معها، أو ربما اختيارهم منذ البداية ليشغلوا هذا المنصب أو ذاك، وذلك ليقوموا بالتأثير على حياة المواطنين المستهدفين، الواقعين تحت سلطتهم المباشرة، بإعاقة ترقيتهم مثلا، أو خلق صعوبات في عملهم، وذلك عند إيعاز المخابرات لهم بهذا الأمر بغرض القيام بـ “تحليلهم”.

هذه الأعداد الكبيرة من الموظفين غير الرسميين، تمكنت من تغطية جميع مناحي الحياة العامة في الدولة، وشكلت الأداة الأكثر تأثيرا في يد الشتازي، لإحكام قبضته على المجتمع، حيث لم يكن يحتاج الأمر للبدء بعملية “تحليل” شخص ما، إلا البدء بالبحث عن أقرب مقربيه، ممن يملك استعدادا للتعاون مع الشتازي، ثم إغواؤه بشكل أو بآخر، ليبدأ تعاونه مع المخابرات، والذي يستمر في المتوسط من 6 إلى 10 سنوات، وقد يستمر أكثر من ذلك. وكلما كان الهدف أكثر أهمية كان على الشتازي أن تقوم بتجنيد عدد أكبر من أصدقائه وأقربائه الذين يحيطون به.

وهكذا لم يكن المجتمع فقط مخترقا، بل حتى الدوائر الضيقة في الحياة الشخصية للأفراد، ولم يكن في دولة الحكم الشمولي أي مكان آمن يستطيع أن يلجأ الفرد له ليشعر بالأمان، ولا حتى غرفة نومه، ولم يكن ثمة شخص يمكن الثقة به. كان الجميع أعداء محتملين للجميع، وكان بوسع الشتازي أن يأخذ كل الناس من حولك، حتى أقرب المقربين لك، ليتركك في معركتك معه وحيدا جدا، وبلا أي معين.

وسيتناول التقرير التالي جوهر عملية التحليل وكيفية تنفيذها على الضحايا.

الحلقة الأولى

مخابرات ألمانيا الشرقية: حقبة سوداء ودهاء شيطاني

الحلقة الثانية

مخابرات ألمانيا الشرقية.. تحويل العمل “القذر” إلى علم أكاديمي

قامت بإعداد المادة: ديما مصطفى سكران
المصدر : الجزيرة مباشر