عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة 16]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي

كان شهرُ ديسمبر 2012، هو الأكثرَ نفيراً، منذ تولّي الرئيسِ محمد مرسي سدةَ الحكمِ، فهو الشهرُ الذي شهدَ محاولةً من المعارضةِ لعرقلةِ الاستفتاءِ على الدستورِ بشتّى الطرقِ.

تقرير| سليم عزوز

فيه جرى حصارُ قصرِ الاتحادية، وما حدث هناك من اشتباكاتٍ، ومقتلِ عشرةٍ، تبيّنَ فيما بعد أن غالبيتَهم من جماعةِ الإخوانِ المسلمين، كما قُتل الصحفيُّ “الحسيني أبو ضيف”، واتُّهم الإخوانُ بقتلِه، وكانت جنازتُه -التي خرجت من مقرِّ نقابةِ الصحفيين بوسطِ القاهرة- حاشدةً، وكان الهتافُ فيها ضد “الإخوانِ القتلة”، إلى أن وصلت مسجدِ عُمر مكرم عبرَ ميدانِ التحرير، الذي يحتشدُ فيه المتظاهرون ضد الرئيسِ، قبلَ انتقالِ الجثمانِ لمسقطِ رأسِه بمحافظةِ سوهاج، وقد اصطحبَه إلى هناك مجموعةٌ من النشطاءِ، وعندما أرادوا نقلَ مشهدِ القاهرةِ بالهتافِ ضد الإخوانِ طلب منهم أهلُه التوقفَ، وذلك، لأن الهتافَ خروجٌ على تقاليد تشييعِ الجنائزِ في بعضِ محافظاتِ الصعيدِ، حيث يستوجب الأمرُ الصمتَ، ثم إنهم لا يريدون لأحدٍ أن يفرضَ عليهم أجندتَه، فليسوا على يقينٍ بأن قاتلِيهِ من الإخوان.

وفي الحقيقةِ، فإن الذين يعرفون “الحسيني أبو ضيف” قد تأثّروا كثيراً بمقتله، وكنتُ قد تعرفتُ عليه قبل وفاته، عندما بدأ في التواجدِ بمقرِ نقابةِ الصحفيين، مُنضماً لأيِ موقفٍ نقابيٍ، أو أي فاعليةٍ تطالبُ بالحرياتِ، وقد تعرفتُ عليه في اعتصامِ الزملاءِ بجريدة “الشعب”، وكان – وباعتبارِه مصوراً صحفياً بالأساسِ- يجيدُ استخدامَ أدواتِه، حيث يقومُ بتصويرِ الاعتصامِ، وعملِ فيديوهات لبثِّها عبرَ الإنترنت، وقد سجّل معي مقطعاً، أعلنتُ فيه التضامنَ مع الزملاءِ، قام برفعِه، وكان يؤدّي هذا بحماسٍ شديدٍ.

كانَ “أبو ضيف” طويلَ القامة، مهذباً إذا تكلمَ، لا يكاد صوتُه يُسمعُ، ونجح في فترةٍ وجيزةٍ، أن يكون علامةً من علاماتِ النقابةِ، ومن الشخصياتِ التي تربطُها علاقةٌ جيدةٌ بالجميعِ من كافةِ التياراتِ، فلم يكن يُعرفُ عنه توجهٌ سياسيٌ معينٌ، وإن كان البعضُ قال إنه ناصريٌّ، وردّ آخرون عليهم بأنه كان أقربَ للتوجهِ الإسلاميِ، فقد كان الظاهرُ في توجهِه هو انحيازَه لقضيةِ الحرياتِ، وقد وظّفَ الفريقُ المعادي للرئيسِ في مجلسِ النقابةِ مقتلَ “الحسيني أبو ضيف” لصالحِه، وكان مما قيلَ عن سببِ استهدافِ الإخوانِ له، أنه كان يقومُ بتصويرِ اجتياحِهم محيطَ قصرِ الاتحادية والاعتداءِ على المعتصمين، فكان الهدفُ من استهدافِه هو السطوَ على دليلِ إدانتِهم، وتمّ الحديثُ عن قيامِهم بعد ذلك بانتزاعِ كاميرته، وتمّ الترويجُ لعمليةِ الاستيلاءِ على آلةِ التصويرِ والإدانةِ بشكلٍ واسعٍ، وقد علمتُ بعد ذلك، أنّ هذا لم يكنْ صحيحاً، وأن هناك من بين المعتصمين مَن قاموا بتسليمِ الكاميرا لرئيسِ تحريرِ جريدة “الفجر” عادل حمودة، التي يعملُ فيها الحسيني أبو ضيف.

الحسيني أبو ضيف

كان مجلسُ نقابةِ الصحفيين، منقسماً بين اتجاهَين: واحدٍ يقودُه النقيبُ ممدوح الولي، وكان قريباً من الحكمِ، والثاني يقودُه الناصري وكيلُ أول النقابةِ جمال فهمي، وهو ضد الحكمِ القائمِ، ويبحثُ عن أي مبررٍ لإعلانِ الحربِ على النظامِ، وكان الصوتُ المرجحُ في المجلسِ مع النقيبِ عضو المجلس جمال عبد الرحيم، لكنه خسِر هذا الصوتَ بالإطاحة به من رئاسةِ تحريرِ جريدة الجمهورية!

عودةُ النقيب

وكانت النقابةُ قد قدّمت اقتراحاتِها للجنةِ إعدادِ الدستورِ، ويمثلُها النقيبُ فيها، وكان الاقتراحُ الأهمُّ، يتمثلُ في النصِ على عدمِ الحبسِ في قضايا النشرِ، ومن رأي القانونيين في الجمعيةِ التأسيسيةِ ومن بينهم المستشارُ حسام الغرياني، أنه نصٌّ يليقُ بالقانون، وليس نصّاً دستورياً، وكانت تلك فرصةً لأن يعلنَ مجلسُ النقابةِ بالأغلبيةِ الانسحابَ من الجمعيةِ، مع موجةِ الانسحاباتِ لأسبابٍ سياسيةٍ، ثم ظهرَ ممدوح الولي في الاجتماعِ الأخيرِ الذي يُنقلُ على الهواءِ مباشرة، رغم قرارِ المجلسِ، وكان هذا الحضورُ، يعني أنه تلقى اتصالاً يفيدُ الاستجابةَ لمطلبِ النقابةِ، ليعودَ بمكسبٍ، ينتصرُ فيه على خصومِه في المجلسِ، ومن ناحيةٍ أخرى يمثلُ ترضيةً للجماعةِ الصحفيةِ، ويفكك جبهةَ المنسحبين بعودةِ نقابةِ الصحفيين إلى الجمعيةِ التأسيسيةِ.

وقفَ ممدوح الولي يتكلمُ، ويعيدُ تقديمَ مطلبِ نقابة الصحفيين، ليبدوَ أنه في مناخٍ معادٍ، فقد علمتُ أن السلفيين في الجمعيةِ التأسيسيةِ قادوا اتجاهَ الرفضِ لهذا المطلبِ، فهل كانوا ينسّقون مع جهاتٍ أمنيةٍ خارجَ اجتماعاتِ الجمعية التأسيسية؟

لكن لا ننسى أن الظاهرَ من الأمرِ هو انحيازُ السلفيين للإخوانِ في هذه المرحلةِ، وقد نُشر على لسان زعيمِهم ياسر برهامي قولُه في وصفِ معارضي الرئيسِ في تلك الفترةِ، أنهم كالنملِ الذي يواجه فيلاً. وذلك في معرض سخريتِه منهم واستهانتِه بهم.

بَيدَ أن مَن وقفَ رافضاً اقتراحَ النقابة، ومتعالياً على النقابةِ والنقيبِ، كان هو الدكتور سليم العوا، فهل كان ينسقُ مع السلفيين فحسب؟، أم مع الجهاتِ التي ينسقُ السلفيون معها، ويهمُّها ألا ينتصرَ النقيبُ في هذه المعركةِ، وأن تستمرّ مقاطعةُ النقابةِ للجمعيةِ التأسيسيةِ، و”العوا” صاحبُ علاقاتٍ عميقةٍ وقديمةٍ بمباحثِ أمنِ الدولةِ، واعترفَ هو بذلك في حوارٍ تلفزيونيٍ بعد الثورةِ، وقال إنه كان ينقلُ بعضَ الأمور التي يتصلُ علمُه بها في الخارجِ، إلى رئيسِ الجهازِ اللواءِ حسن عبد الرحمن. فهل هو مَن ساعدَه في أطروحتِه للدكتوراه التي حصل عليها من كليةِ الحقوقِ بجامعة عين شمس قبل الثورةِ مباشرة، وبعد الثورةِ حاولتُ التوصلَ إلى أيِ معلوماتٍ عنها، ولو بالاطلاعِ على نسخةٍ منها في مكتبة الجامعةِ أو بمعرفةِ أسماءِ أعضاءِ لجنةِ المناقشةِ والمشرفِ، فعمِلت الجامعةُ كلَّ ما في وسعِها من أجلِ التستُّرِ على الموضوعِ، فالرجلُ كان في السِّجنِ ومتهماً بقتلِ الثوارِ.

لقد عاد ممدوح الولي من هذا الاجتماعِ بخُفَّي حُنين، فقد فشل المستشارُ الغرياني في تحقيقِ وعدِه، إزاءَ هذا الرفضِ من جانب السلفيين وإزاءَ هذا الاعتراضِ من جانبِ العوا، الذي قال من موقفِ الصمود إن أحداً لن يفرضَ عليهم شيئاً، ويقصدُ بالأحد الجماعةَ الصحفيةَ وممثلَها، ليتخذَ مجلسُ النقابة قراراً بإحالته للجنةِ التأديبِ، لخروجِه على قرارِ المجلسِ بالانسحابِ من الجمعيةِ التأسيسيةِ، في سابقةٍ هي الأولى من نوعِها.

الدكتور محمد سليم العوا (يمين) وياسر برهامي وممدوح الولي

وها هي قضيةُ مقتل “الحسيني أبو ضيف” تمثلُ رصيداً مضافاً لصالحِ من يقودون الموقفَ الرافضَ لحكم الرئيسِ محمد مرسي داخل مجلسِ نقابة الصحفيين.

السيسي على الخطّ

ولم تُمثِّلْ كلُّ هذه الفوضى في الشارعِ من قبل جبهةِ الإنقاذ حائلاً دونَ أن يُقدِمَ الرئيسُ على خطوةِ الاستفتاءِ على الدستورِ، فوقعَ الطلاقُ البائنُ بينَه وبينَ معارضيه، ليدخلَ عبد الفتاح السيسي على الخطّ.

ففي يوم 11 ديسمبر دعا السيسي قوى المعارضةِ لاجتماعٍ معه.. وكان قد سبقت هذه الدعوةَ بثلاثةِ أيامٍ وفي يوم 9 ديسمبر تصريحاتٌ له لم يلقِ أحدٌ لها بالاً، تتلخصُ في أن “القوات المسلحة ملكٌ للشعب ولا تنحازُ لأيِ فصيلٍ”، مؤكداً أنها تضعُ مصلحةَ الوطنِ وأمنَه القوميَ فوقَ كلِ اعتبار، وتؤدي مهامَها الوطنيةَ بكل نزاهةٍ وحياديةٍ ولا تنحازُ لأي طرفٍ أو فصيلٍ سوى للشعب المصري، داعياً أن يكون الجميعُ يداً واحدةً للحفاظِ على وحدةِ الوطنِ، ومواجهةِ التحديات التي تهددُ الأمنَ القوميَ.

كان هذا على هامشِ حضورِه مشروعاً تكتيكياً لقواتِ الدفاعِ الجوي.

ولم يكن الرئيسُ محمد مرسي هناك، لقد بدأ الرئيسُ مهامَه الوظيفيةَ بالمبالغةِ في حضورِ كل أمرٍ متعلقٍ بالجيشِ، فلا يكادُ يمرُّ يومٌ دون أن يوجدَ في مناسبةٍ للقوات المسلحة وخريجيها، ويبدو أنه ساعتَها كان حريصاً على تأكيدِ صفتِه كقائدٍ أعلى للقواتِ المسلحة، أما الآن فالجيشُ في يدٍ أمينةٍ، وهل هناك يدٌ أمينةٌ أوثقُ من يدَي عبد الفتاح السيسي الذي أعلن انحيازَه للمشروعِ الإسلاميِ، وكان يصلي خلفَ الرئيسِ الفرضَ بفرضِه، عندما يكونُ في رئاسةِ الجمهورية؟!

إنّ التصريحَ الذي أطلقَه وإن بدا كلاماً مرسلاً، إلا أن الحديثَ عن عدمِ الانحيازِ لأي فصيلٍ، كان ينبغي أن يُطلب منه التوضيحُ، فهل يعتبر الرئاسةَ فصيلاً؟.. لكن ماذا يفيدُ سؤالُه، وإجاباتُه دائماً تأتي مدفوعةً بالعاطفةِ، كما فعلَ في أزمة دعوةِ قوى المعارضة للاجتماعِ.

قد يكون كلامُ السيسي عادياً فعلاً، لكن الذي يزيدُ الأمرَ ريبةً أنه في اليوم التالي أعلنَ وزيرُ الداخليةِ اللواءُ أحمد جمال الدين: “لن نعملَ لصالح طرفٍ.. دونَ الآخر.. وانحيازُنا للشعب”.. إنها- يا إلهي- نفسُ النغمةِ يتمّ عزفُها في توقيتٍ واحدٍ. فمن يقصدُ وزيرُ الداخلية بالأطرافِ، وهل مؤسسةُ الرئاسة هي طرفٌ؟ وهل دورُ الوزارةِ فعلاً أن تقفَ على الحيادِ بين هذه الأطرافِ؟.. هل هي جهةٌ مستقلة؟!

كان هذا التصريحُ خلال لقاءِ وزيرِ الداخلية مع قياداتِ وضباطِ وأفرادِ وجنودِ الأمنِ المركزي يوم 10 ديسمبر 2012.

وزير الداخلية أحمد جمال الدين

وإذا كان وزيرُ الدفاعِ يبالغُ في إثباتِ ولائِه للرئيسِ محمد مرسي، فإن وزيرَ الداخليةِ قد ثبتت خيانتُه قبل ذلك بأيامٍ، وفي يومِ حصارِ الاتحادية، عندما ظلت الرئاسةُ تتصلُ به خمسَ ساعاتٍ متصلة، ويكون الردُّ أنّ التليفون مغلقٌ أو غيرُ متاحٍ، وهناك تهديدٌ جديٌّ باقتحامِ القصر، وقد بدأت طلائعُ المقتحمين تتسلقُ أسوارَه.

وكان الرئيسُ ومَن معَه قد استقرَّ في وجدانِهم خيانةُ وزير الداخليةِ، وكان طبيعياً أن يخرجَ في التعديلِ الوزاري، بعد شهرٍ من هذه الواقعةِ، وبعد الاستفتاءِ على الدستورِ، وتمّ تعيينُ اللواء محمد إبراهيم وزيراً للداخلية.

محمد إبراهيم وزير الداخلية الأسبق (يمين) وعبد الفتاح السيسي

لكن ألا يستدعي ترديدُ نفسِ النغمةِ من الوزيرَين في وقتٍ واحدٍ، التفكيرَ، وإن كان أحدهما خائناً بالدليل، والثاني من الموالاة؟!

في نهاية يومِ الثلاثاء 11 ديسمبر، أخبرني زملائي أن خبراً أذيعَ الآن عن دعوةِ وزيرِ الدفاع للقوى السياسيةِ للقاء معه، وبعد قليلٍ أعلنت جبهةُ الإنقاذ برئاسة الدكتور محمد البرادعي تلبيتَها الدعوةَ، وهي التي تضعُ شروطاً على لقاء الرئيسِ، ورفضت دعوتَه في السابق.

ودخلت زميلتي المحررةُ العسكريةُ بالجريدة مكتبي، وهي تخبرني أنّهم في إدارةِ الشؤونِ المعنويةِ أخبروها أنهم أرسلوا لي دعوةً لحضورِ الاجتماع، على هاتفي الجوال، ولم أكن قد انتبهتُ لذلك، ففتحتُ الهاتفَ لأجدَ الرسالةَ بموعد ومكان الاجتماعِ موقعةً باسم الرائدِ عمرو من الشؤونِ المعنويةِ. كما دعوها هي بطبيعةِ الحالِ، وكانت الدعوةُ لي بصفتي المهنيةِ كرئيسِ تحريرِ الأحرار، وليس لأنني من قوى المعارضةِ المعنيةِ بالحوار.

كان السؤالُ المهمُّ الذي طرحتُه على الزملاءِ في قسمِ الأخبارِ في جريدتنا الذي ينبغي الحصولُ على إجابةٍ عنه من مصادرِهم المعنية، هل هذه الدعوةُ تتمُّ بالاتفاقِ مع الرئيس محمد مرسي، أم أنها خطوةٌ من وزيرِ الدفاع بعيداً عنه؟

لقد اتصل مَن لهم علاقةٌ بالملف بمصادرِهم، وكانت المصادرُ الإخوانيةُ تؤكّدُ أن كلَّ الأمورِ تتمُ بعلمِ الرئيسِ، وأن الدعوةَ تتمُّ لصالحِه، وأنها فكرةٌ من السيسي طُرحت على الرئاسةِ فاستحسنتها، لاسيما أن المعارضةَ رفضت دعوةَ الرئيس، فكان اللجوءُ إلى الخُطةِ البديلةِ. ومن بين هذه المصادرِ مَن قال إنهم لا يستبعدون دخولَ الرئيس على المجتمعين في اللحظةِ المناسبة.

وقال ياسر علي المتحدثُ الرسميُّ باسمِ رئاسةِ الجمهورية إن الرئيسَ محمد مرسي سيحضرُ “اللقاء الاجتماعي”! الذي دعا إليه وزيرُ الدفاعِ، وإن اللقاءَ دعوةُ غداءٍ ليرى الشعبُ أننا أسرةٌ واحدةٌ، وأنه لا تعارضَ بين لقاءِ وزيرِ الدفاعِ ودعوةِ رئاسةِ الجمهوريةِ لاستكمالِ الحوارِ الوطني، بحسب ما نقلته عنه جريدةُ “المصري اليوم”، والتي نسبت إلى مصدرٍ عسكريٍ رفيعِ المستوى أن المبادرةَ طُرحت من جانب السيسي مع اللواءِ أحمد جمال الدين وزيرِ الداخلية.

وللتذكيرِ فإن “المصري اليوم” كانت قد انتقلت إليها صفةُ “صحيفة المجلس العسكري”، وهي الصفةُ التي أطلقتُها على جريدةِ “الأخبار” إبان تولّي “ياسر رزق” رئاسةَ تحريرِها، وقد انتقل “رزق” لرئاسةِ تحرير “المصري اليوم”، ولهذا من المهمِ في هذه الفترةِ قراءةُ ما بين السطورِ فيما يختصُ بموقفِ العسكرِ، وإن كانت قد نشرت أن مصدراً عسكرياً رفيعَ المستوى أكّد أن اللقاء دُعي إليه الرئيسُ محمد مرسي ورئيسُ الوزراء.

لاحظِ الصياغةَ، فالرئيسُ سيحضرُ ولكن بصفته مدعواً، أهو مثلُ البرادعي وحمدين؟!

لم يكن معظمُ ما قيل صحيحاً، بما في ذلك إعلانُ جبهةِ الإنقاذ أنها ستعقدُ اجتماعاً للنظرِ في قَبولِ الدعوةِ أو رفضِها، فالحقيقةُ أن قيادتَها بمن فيهم حمدين والبرادعي قبلوا الدعوةَ حالاً، وربما عُرضت عليهم وتمَّ قَبولها قبل توجيهِها علانيةً، فليس هناك وقتٌ للاجتماعِ والنقاشِ، والاجتماعُ في الرابعةِ من عصرِ اليوم التالي.

محمد البرادعي (يمين) وحمدين صباحي (يسار)

ولم يكن صحيحاً أيضاً أن الرئيسَ كان على علمٍ بالدعوةِ قبل توجيهِها، وقد استدعى السيسي وعنّفَه بشدةٍ، ولم يخففْ من شدتِه إلا تأثرُ المعنفِ بأنه يعملُ كل هذا من أجلِه، ولثقة الرئيسِ القويةِ فيه، فقد تجاوزَ الأمرَ بإلغاءِ الدعوةِ، ولم يؤثرْ في الأمرِ قولُ أحدِ قادةِ الأحزابِ له، إن إقدامَ وزيرِ الدفاع على هذه الخطوةِ ينبغي التعاملُ معه بجديةٍ وحزمٍ.

قال الرئيسُ: أنا لغيتها. يقصدُ الدعوةَ!

وقال السياسي المحنك: ولو، فالقصةُ ليست دعوةً أُلغيت، ولكن مجرد تفكيرِه في التعاملِ المباشرِ مع المشهدِ السياسي وأقطابِه بدون إذنِ الرئاسة كان أمراً ينبغي الوقوفُ عندَه.

ورأى الرئيسُ أنه قلقٌ لا مبررَ له!

لقد ألغى الرئيسُ اللقاءَ، ومثّلَ إلغاؤُه صدمةً للبرادعي، على النحو الذي ذكره الكاتبُ الصحفيُّ محمد حسنين هيكل، في لقاءٍ تلفزيونيٍ مع الإعلاميةِ “لميس الحديدي”، حيث ذكرَ نصّاً: “البرادعي كان في مكتبي وقتَ إلغاء الحوارِ وأصيب بصدمة”. وكان من رأي “هيكل”: “أحسن شيء عملوه أنهم ألغَوا الحوار”.

ولم تكن دعوةُ وزيرِ الدفاعِ الفريقِ أول عبد الفتاح السيسي “الملغاة” هي التصرفَ الوحيدَ، في هذا الشهرِ (ديسمبر 2012)، الذي كشفَ عن أن القيادةَ العسكريةَ، تأخذ خطوةً خارجَ السياقِ العام، منذ عزلِ طنطاوي وعنان، وإن كانت تصرفاتُها محسوبةً، وغيرَ ممسوكة.

ومما أذيع في هذه الفترةِ، أن الدعوةَ كانت بتنسيقٍ مع الرئاسةِ، وربما نيابةً عنها، وأن الإلغاءَ تمّ لأنّ هناك من اعتقد أنه استدعاءٌ من قبل الرئاسةِ للمؤسسةِ العسكريةِ للتدخلِ في السياسةِ واللعبِ لصالحِ الرئاسةِ، وهو ما اعتقده كاتبٌ بحجمِ محمد حسنين هيكل: “الناس كانت تقول قبل قليل بسقوط حكم العسكر”، إلا أنَّ الإخوانَ يدركون أنها دعوةٌ دون علمِ الرئيسِ، مع خلافٍ في التقديراتِ بينهم وبينه، فهم لم يكونوا واثقين في السيسي ثقةَ الرئيسِ فيه، ربما لأنهم لم يتعاملوا معه من قربٍ على عكسِ رئيسِ الدولةِ، الذي طلبَ من الإخوانِ تركَ التعاملِ مع الجيشِ له، ولا يتدخلون في هذه المساحةِ، لما يسببُه هذا من حساسيةٍ لدى الجيشِ، وقد صورَ له ذلك عبد الفتاح السيسي نفسُه.

محمد حسنين هيكل

لقد أذيعَ مقطعُ فيديو للمرشدِ العامِ للجماعة، يتهمُ “قياداتِ الجيشِ السابقةَ” بالفسادِ، وأن هناك من يعبثُ ليخرجَ الجيشُ عن حيادِه ويشغلَه عن دورِه الأساسيِ في حمايةِ الوطنِ، بتوظيفِه في صراعٍ سياسيٍ ترفضُه المؤسسةُ العسكريةُ بشكلٍ كاملٍ.

لم يكن المرشدُ أولَ مَن تحدث عن فسادِ قياداتِ المجلسِ العسكريِ، لقد سبقَه إلى ذلك الكاتبُ عبد الحليم قنديل في مقالٍ شهيرٍ، لكن من الواضحِ أن قيادةَ الجيشِ الآنَ، أرادت أن تضعَ حداً لمثلِ هذا الكلامِ، وتعود للتمسكِ بأن الجيشَ مؤسسةٌ منغلقةٌ، لا تقبلُ المساسَ بأيِ فردٍ ولو من قياداتِها السابقةِ، ونشرت صحيفةُ المجلسِ العسكريِّ خبراً عمّن وصفتْه بـ “المصدر العسكري المسؤول”، الذي أكدَ أن رجالَ الجيشِ غاضبون من اتهاماتِ مرشدِ الإخوان، حيث أشادَ المصدرُ بالقيادةِ العسكريةِ “التي حمت البلدَ من الانقسامِ والتشرذمِ”، و “أن المؤسسةَ العسكريةَ لن تقبلَ بأيِ تدخلٍ في شؤونِها” من أناسٍ ليس لهم أيُّ صفةٍ في الدولةِ للحديثِ عن تلك المؤسسةِ العريقةِ، وسنقفُ بكل حسمٍ لمن يلقي الاتهاماتِ الباطلةَ على قياداتِها السابقين والحاليين”، مؤكداً أن “ولاءَ الجيشِ المصري للشعبِ والوطنِ فقط”.

وهو كلامٌ واضحٌ، فالمصدرُ العسكريُ المسؤولُ، وليس المطّلع، يعلنُها صريحةً أن الإخوانَ ليست لهم صفةٌ في الدولةِ، ولن يُقبلَ بالتالي تدخّلُهم في شؤونِ المؤسسةِ العسكريةِ، مع ما حملَه من تهديدٍ واضحٍ للمرشدِ، ولغيرِه ممن يتهمون قياداتِها السابقةَ أو الحاليةَ، بالفسادِ. ويكونُ العزفُ هو عبارةً مطاطةً: “ولاءُ الجيشِ المصريِ للشعبِ والوطنِ فقط”، ليكونَ السؤالُ: مَن يمثلُ هذا الشعبَ ومن يعبرُ عنه، وعلى أيِ أساسٍ يمكنُ أن تحددَ المؤسسةُ العسكريةُ موقفَ الشعبِ تجاهَ أيِ موقف؟

إنها عبارةٌ عندما ترِدُ على لسانِ وزيرِ الداخليةِ، وقد ضُبطَ متلبساً بخيانةِ الرئيسِ، فلابد من الوقوفِ إلى ما هو أبعدُ من ظاهرِها.

بلاغٌ للردع

بَيدَ أن ما خفّفَ من حدةِ هذا التهديدِ، هو أنه منسوبٌ لمصدرٍ عسكريٍ، وإن كان “مسؤولاً”، إلا أنه رفضَ ذكرَ اسمِه.

ولخبرتي الطويلةِ في العملِ بالصحافةِ، وفي المطبخِ الصحفيِ، فإن أيَ صحيفةٍ لا يمكنُها أن تنشرَ هذا الكلامَ، من بابِ الفبركةِ، أو الادعاءِ، ولكن لابدَ أن يكونَ هذا تم بتوجيهٍ، من وزيرِ الدفاعِ، أو مَن يمثلُه.

لقد تحركَ المحامي سمير صبري فتقدمَ ببلاغٍ للنيابةِ العسكريةِ ضد المرشدِ العامِ للإخوان لسماعِ أقوالِه في اتهامِه القيادةَ العسكريةَ السابقةَ بالفساد. والمذكورُ هو مَن اتهمَها بذلك في بلاغٍ تقدمَ به للنائبِ العام ضد المشيرِ طنطاوي والفريقِ سامي عنان، عقب الإطاحةِ بهما، وتقدم ببلاغٍ يطلبُ من النيابةِ العامة إصدارَ قرارٍ بمنعِهما من السفرِ، وهي البلاغاتُ التي أحالتها النيابةُ العامةُ لجهةِ الاختصاصِ وهي النيابةُ العسكرية.

ولم تقتصر بلاغاتُ صبري على اتهامِ القيادةِ السابقةِ للمجلسِ العسكريِ بالفساد فقط، ولكنه وجّهَ لها الاتهامَ بقتلِ الثوارِ، في أحداثِ مجلسِ الوزراء، ومحمد محمود، وماسبيرو.

وعندما يتحركُ ضد المرشدِ العامِ للجماعة لأنه اتهمَ القيادةَ السابقةَ بالفساد، فلابد من السؤالِ عمن يقفُ خلفَه في البلاغاتِ الأولى، وماذا كان يهدفُ لذلك؟ وقد تبين أن الرجلُ تزعجُه الإساءةُ لهذه القياداتِ العسكرية.

عموماً، لقد كان بلاغاً للردعِ فقط، تماماً مثل تصريحاتِ “المصدر العسكري المسؤول”، وقد أدّت الغرضَ منها، وأصدر المرشدُ العام تكذيباً، وقال إن كلامَه تعرضَ للتحريفِ، وأن كلمتَه كانت عن مصرَ وأهلِها وقياداتِها السياسيةِ عبرَ التاريخ، ولم يتطرق الحديثُ إلى القيادةِ العسكريةِ بأي صورةٍ من الصورِ، وأنه ذكر في كلامِه وصيةَ النبي صلى الله عليه وسلم بالجيشِ المصريِّ باعتباره “خير أجناد الأرض”.

وبعد ذلك بثلاثةِ أيامٍ كان السيسي في لقاءٍ مع عددٍ من قادةِ وضباطِ وسلاحِ الحربِ الكيميائيةِ، وإن تحدثَ في كلمتِه عن حيادِ الجيشِ وعملِه بعيداً عن الصراعِ السياسيِ، فقد أكّد على أن “القادة السابقون للمؤسسةِ العسكريةِ خيرُ من حمل الأمانةَ وضربوا أروعَ الأمثلةِ في التضحيةِ والفداء من أجل الوطن، ووضعوا المصلحةَ العُليا للبلاد فوق كل اعتبارٍ”.

ومن هنا، فلم تكن تصريحاتُ وزيرِ التنميةِ المحلية اللواءِ زكي عابدين بعد ذلك بأيامٍ- عن أن تعيينَ السيسي وزيراً للدفاعِ تم بطلبٍ من طنطاوي، بعد استقالتِه وعنان برغبتِهما الأكيدةِ- من فراغٍ، فقد كانت في سياقِ تجريدِ مرسي من قرارِه المهمِ الذي قدمَه للرأي العام على أنه رجلٌ قوي.

اللواء المتقاعد أحمد زكي عابدين

ولستُ بحاجةٍ إلى إعادةِ كتابةِ ما سُقْتُه من أدلةٍ على أنه قرارُ إطاحةٍ وعزلٍ، وليس استقالةً قُدمت عن طيبِ خاطرٍ، غير أنني سأتطرقُ لقرينةٍ أخرى لم يسبق طرحُها في الحلْقةِ التي تعرضتُ فيها لقرارِ العزلِ.

إن الانتقالَ الطبيعيَ لمنصبِ وزير الدفاعِ من طنطاوي إلى السيسي، كان يستدعي انتقالَ كاملِ الصلاحياتِ التي كانت مقررةً للمجلسِ العسكري، بحسبِ الإعلانِ الدستوري الذي أصدره المجلسُ قبل جولةِ الإعادةِ على الانتخاباتِ الرئاسيةِ، والذي بمقتضاه انتقلت سلطةُ التشريعِ إلى المجلسِ العسكريِ، فالشاهدُ أن العزلَ تمّ بإعلانٍ دستوريٍ جديدٍ (لم يكن يحدث بدونه) انتزعَ الحصانةَ المقررةَ للمجلس في الإعلانِ السابقِ، وسحبَ منه أيَ دورٍ سياسيٍ بما في ذلك سلطةُ التشريعِ، وأعاد المجلسَ الأعلى للقواتِ المسلحة إلى طبيعةِ الدورِ السابقِ في عهد مبارك.

حمايةُ موقعِ وزيرِ الدفاع

ولا يمكن بأيِ حالٍ، النظرُ إلى ما حدث خلالَ هذا الشهرِ (ديسمبر 2012) من تطورٍ بسيطٍ في العلاقةِ- بدأ بدعوةِ المعارضةِ للقاءِ وزيرِ الدفاع، وتطورت رسائلُ المجلسِ العسكريِ في مواجهةِ المرشدِ العام للإخوان، ودفاع السيسي عن القياداتِ السابقةِ- على أنه بدايةُ تحولٍ في العلاقةِ بين الرئيسِ ووزيرِ الدفاع، أو أنه بدايةُ فكرةِ الانقلابِ.

فالسيسي كان يطوّرُ من أدواتِ حمايتِه في موقعِه، بالاستمرارِ في سياسةِ تحويلِ الجيشِ إلى معسكرٍ مغلقٍ عليه، ويمثلُ هو فيه السلطةَ الأعلى، وقد ساعدَه على ذلك ثقةُ الرئيسِ محمد مرسي المفرطةُ في شخصِه، ومن أدواتِ حمايتِه أن يكسبَ القياداتِ السابقةَ، وأن يؤكدَ للفصيلِ السياسيِ الحاكمِ أن الجيشَ يغضبُ ويتأثرُ، فلا يستدعي جماعته للتدخلِ فيما لا يعنيها وهو أمرٌ غيرُ مقبولٍ من الجيشِ، والذي أغضبه الحديثُ عن قياداتِه السابقةِ.

 غيرَ أنه لم تكنْ هناك أيُّ إشارةٍ من داخل الجيش لهذا الغضبِ، وليس صحيحاً أن هناك أيَّ شعبية داخلَه لهذه القيادةِ السابقةِ، التي كان من مسوغاتِ استمرارِها في مواقعِها في عهد مبارك، أنها مكروهةٌ ولا تسعى لأيِ شعبيةٍ داخلَ المؤسسةِ العسكريةِ، وهو ما لم يمكن لمبارك قبولُه، بعد تجرِبةِ الوزيرِ المحبوبِ محمد عبد الحليم أبو غزالة.

وإذ أراد السيسي أن ينفتحَ على القوى السياسيةِ، بالدعوةِ التي وجهها لها، فقد كان يبحثُ عن دعمٍ إضافي لدى الرئيسِ، فالرئيسُ وحدَه هو من يملكُ عزلَه والإبقاءَ عليه، وهو وضعٌ مقلقٌ، وازداد القلقُ بعد شكوكِ بعضِ القوى السياسيةِ المحيطةِ بالرئيسِ فيه بعد هذه الدعوةِ، فكان لابد من أن ينزعَ من الرئيسِ أهمَ إنجازٍ له وهو إسقاطُه لحكمِ العسكرِ، فقد استقالت القياداتُ ولم تُقَلْ، وهي من رشحته وزيراً، ولم يخترْه الرئيسُ بإرادتِه الحرةِ، كما أن الإيحاء بأن مرسي رجلٌ ضعيفٌ سيزيدُ من الأزمةِ ضده، فلا يرى في السيسي سوى حمايةٍ له في هذه الأزماتِ المتواليةِ!

كان إضعافُ مرسي هو الضمانةَ لاستمرارِ السيسي، وليس إسقاطُه، فلم يكن هذا مطروحاً على جدولِ الأعمالِ في هذا الوقتِ المبكرِ.

فجبهةُ الإنقاذِ تلخصت كلُّ مطالبِها في “تعديل الدستور”، وعقدت اجتماعاً في يوم 26 ديسمبر لتقررَ فيه أنها لن تقبلَ دعوةَ الرئيسِ للحوارِ ما لم يكن هناك إقرارٌ مكتوبٌ منه بالاستجابةِ لمطلبِ تعديلِ الدستورِ.. وعندما نبحثُ عن المعلنِ من الموادِ التي يرادُ تعديلُها، نجدُ تغريدةً للبرادعي يقول فيها: “إن مخالفةَ الدستور في بعضِ موادِه مثل حريةِ الرأيِ والعقيدةِ للقواعدِ الآمرة في القانون الدولي تجعله باطلاً مهما استفتى عليه”. دون أيِ توضيحٍ لهذه المخالفاتِ، وإن لم تتسعْ لها السطورُ المخصصةُ لتغريدة واحدةٍ، فقد كان بإمكانِه أن يكتبَ مقالاً أو سلسلةَ تغريدات، لكنه لم يفعلْ!

وفي يوم 27 ديسمبر عقدَ البرادعي لقاءً مغلقاً مع أعضاءِ المكتبِ السياسيِ لحركة 6 أبريل، لتنظيمِ مليونيةٍ جديدةٍ ترفعُ شعارَ “الشرعية للشعب، لا للدستور”.

كانت المعارضةُ مع ذلك تستعدُّ لقرارِ فتحِ بابِ الترشيحِ للانتخاباتِ البرلمانيةِ، وقد أعدت جبهةُ الإنقاذِ مشروعَ قانونٍ لمباشرة الحقوقِ السياسيةِ، وقدمتْه لرئاسةِ الجمهوريةِ في نفسِ اليوم (27 ديسمبر)، وهو مشروعٌ يعودُ بعمليةِ حراسةِ اللجانِ لوزارةِ الداخليةِ، وإن أعطى السلطةَ في إصدارِ القراراتِ للجنة العليا للانتخاباتِ على أن يعمل رجالُ الشرطة المنتدبون تحت إشرافِها، ويتضمنُ المشروعُ أن تقتصرَ الانتخاباتُ على القوائمِ الحزبيةِ مع  مراعاةِ وضعِ اسمِ امرأةٍ واحدةٍ على الأقلِ ضمنَ أسماء أولِ أربعةِ مرشحين، وامرأتَين ضمن أول ثمانيةِ مرشحين.

وذلك بالمخالفةِ للمادةِ (231) من الدستورِ التي نصّت على أن “تكون الانتخاباتُ التشريعيةُ التاليةُ لإقرارِ الدستورِ بواقع ثلثَي المقاعدِ لنظامِ القائمةِ والثلثِ للنظامِ الفردي، ويحقُّ للأحزابِ والمستقلين الترشحُ في كلٍ منهما”.

ولأن إسقاطَ الرئيسِ محمد مرسي لم يكن مطروحاً على أجندةِ المعارضةِ، فقد أطلقت حركةُ شباب الثورة مبادرةً جديدةً تقترحُ تعيينَ عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد البرادعي، وحمدين صباحي، وعمرو موسى، وخيرت الشاطر مساعدِين للرئيس.

وإذا كان عمرو موسى قال في يوم 17 ديسمبر عبر شبكةِ “يورنيوز الأوربيةِ” لا نريدُ إسقاطَ الرئيس، إلا إن عدمَ اختيارِه في الحكومةِ الجديدةِ لم يمنعْه من تكرارِ نفسِ الكلامِ في حديثٍ له مع صحيفةِ “تركيش ويكلي” التركيةِ، بعد أن تأكد أنه ليس ممن سيشملُهم التعيين.

إعدادُ القوائم

وفي هذه الفترةِ كانت المعارضةُ قد بدأت في إعدادِ قوائمَ أوليةٍ استعداداً للانتخاباتِ البرلمانيةِ القادمةِ، وقامت أكثرُ من جبهةٍ فيها بإعدادِ القوائم، والتقيتُ بالدكتور عزازي علي عزازي، من أجلِ ترشيحي على قوائمِ المعارضة في محافظةِ سوهاج، لاكتشفَ وأنا في مكتبِه أن العملَ على قدم وساق استعداداً، لإعلانِ الرئيس بين لحظةٍ وأخرى فتحَ باب الترشيح.

عزازي علي عزازي

وكنتُ بطبيعةِ الحال، الأقربَ إلى معارضةِ الحكمِ في هذه المرحلةِ، إلا من بعضِ المواقفِ، فقد انحزتُ للرئيسِ في إسقاطِه حكمَ العسكر، ورفضتُ فكرةَ الحسابِ بالساعة، وطالبتُ بأن يكملَ دورتَه غيرَ منقوصةٍ، ولم يختلط عليَّ الأمرُ في مرحلةِ الفتنةِ، فلا أميزُ بين معارضةٍ له على قواعدِ الثورةِ، وأخرى تدفعُ بها الثورةُ المضادةُ.

بَيدَ أنه لم يكن مطروحاً أن أكونَ مرشحاً على قوائمِ الإخوانِ، فقد كنتُ ضمنَ الخمسةِ مرشحين عن حزبِ الأحرار في أولِ انتخاباتٍ بعد الثورةِ، ورغم الوعودِ الطيبةِ بأن ترشيحي أمرٌ مفروغٌ منه على قوائمِ التحالفِ الوطني، ليس فقط لأني ضمن “كوتة الأحرار”، أو لكوني رئيساً لتحريرِ أول صحيفةٍ معارضةٍ، ولكن لأني شخصيةٌ عامةٌ، والقوائمُ سوف تُزينُ بأسماءِ الشخصياتِ العامة، قيل لي هذا عندما سألتُ عن ترتيبي في القائمةِ الأولى بمحافظة سوهاج، ثم قيلَ لي عندما نما إلى علمي أن المرشحين الخمسةَ الأُولَ في كل قائمةٍ هم من سيدفعون ثمنَ الدعايةِ لها، إن الشخصياتِ العامةَ ليست معنيةً بهذا القرار.

ليأتي الخبرُ الأليمُ قبل إغلاقِ بابِ الترشيح بساعاتٍ: إنهم يعتذرون عن ترشيحِ أيٍ من المرشحين من قبل حزبِ الأحرار، كان هذا في مكالمةٍ هاتفيةٍ يعتذرُ فيها الدكتور محمد البلتاجي لرئيسِ الحزبِ، ويعرضُ عليه أن يترشحَ هو، وأنه بعد التقديمِ يمكنُه استكمالُ ما ينقصُه من أوراقٍ، وعندما سأله: “وسليم عزوز”؟ كان جوابه: ولا سليم عزوز!

وكان مطروحاً على حزبِ الأحرارِ في البدايةِ قائمتان: “التحالف الوطني” التي خاضت الانتخاباتِ تحت اسم حزب “الحرية والعدالة”، أو قائمةُ “الكتلة” التي يرعاها رجلُ الأعمالِ نجيب ساويرس وحزبه “المصريين الأحرار” بجانب عددٍ من الأحزابِ التي يمولُها مثل حزب “الجبهة الوطنية”، إلى جانبِ أحزابٍ يساريةٍ مثل “التجمع”، وكان عند الأحرارِ ما يقدمُه لهم ممثلاً في مقارِه المنتشرةِ في كل المحافظاتِ باعتبارِه من ورثةِ الاتحادِ الاشتراكي.

وقد قدتُ الاتجاهَ في الاجتماعِ المقررِ لحسمِ هذا الأمرِ بالانخراطِ في قائمةِ التحالف الوطني، باعتبارها الأكثرَ التصاقاً بالثورةِ، والأكثر تعبيراً عنها، ثم إن بيننا تاريخاً مشتركاً مع الإخوانِ في تحالفِ سنة 1987. وفي الحقيقةِ لم أكن أحمل تقديراً كبيراً لهذا التحالفِ، لكنه كان دفعاً لدغدغةِ مشاعرِ الحاضرين، فيكون القرارُ لصالحِ الاتجاهِ الذي دافعتُ عنه، وقد كنت بذلك سبباً في عمليةِ التلاعبِ التي تمت معنا، والذي قلل من حدِّتها، أنني أيضاً تم التلاعبُ بي، ولم تكن مسؤوليتي عما جرى على مستوى الحزبِ، لكن امتدت الآثارُ إلى العائلة، وإذ أخبرت بعضَ رموزِها بنيتي الترشحَ، وأن  ترشيحي سيكون على قائمةِ التحالفِ، فقد دخلوا في حوارٍ مع نائبِ العائلةِ بأن يتركَها لي هذه المرّةَ، فالبلدُ شهدت ثورةً وتغييراً، لكنه لم يكن يعترفُ بكل هذا، فهو وإن كان نائباً عن الحزبِ الوطني، وقد حُلّ الحزبُ، لكنه لم يكملْ دورتَه فقد قامت الثورةُ وحُلّ البرلمانُ، وأنه سيخوضُ الانتخاباتِ الجديدةَ على قوائمِ “حزب الوفد” من أجلِ إكمالِ هذه الدورةِ التي لم تكتمل، وإذ فشلوا في إقناعِه بعدمِ الترشحِ، فقد أخذوا بأخفِّ الضررَين، وطالبوه بأن يترشحَ على المقعدِ الفردي، فلا يجوزُ لمرشحَينِ من عائلةٍ واحدةٍ الترشحُ على قائمتَين متنافستَين، ووافق على مضضٍ، مع صعوبةِ المقعدِ الفردي والذي يشمل ثلاثَ دوائرَ، وهي مغامرةٌ صعبة!

وإذ تجاوزنا أزمةَ الترشيحِ لعضويةِ مجلسِ الشعبِ، فقد حدثَ أمرانِ في هذه الفترةِ ينهيان على أي أملٍ في التقارب مع الإخوان!

لقد تمَّ اختياري عضواً بالمجلسِ الأعلى للصحافة بحكمِ منصبي، كرئيسٍ لأقدمِ صحيفةٍ حزبيةٍ، وأقرَّ مجلسُ الشورى قائمةَ الأعضاءِ واعتمدها الرئيسُ لتنشرَ في الجريدةِ الرسميةِ، بعد تعيينه عدداً من الشخصياتِ العامةِ كما ينصُّ القانونُ، وكان منهم إبراهيم حجازي، وصلاح منتصر، وخالد صلاح، ونادر بكار، ولم أمكّن حتى من حضورِ الجلسة الأولى، فقد أُبلغتُ من طرفِ ممدوح الولي نقيبِ الصحفيين، أنه تم استبعادُ اسمي لأسبابٍ لا يعرفُها، ولم أعرفْها أنا حتى الآن، ولم يتمكن السكرتيرُ العامُ للمجلس محمد نجم من معرفتِها بعد حوارِه مع أحمد فهمي رئيسِ مجلسِ الشورى، رئيسِ المجلسِ الأعلى للصحافة، وأخبرني أن المستشارَ مجدي أبو النعاس، المستشارَ القانونيَ لمجلس الشورى كان معه في الحوارِ، وسألا أحمد فهمي عن السببِ والذي لم يكن عنده من ردٍّ سوى: “بعدين.. بعدين”، عند كل محاولةٍ للاستيضاح.

وفي هذه الفترةِ أيضاً كان الرئيسُ قد بدأ بعد الاستفتاءِ على الدستور، استكمالَ تشكيلِ مجلسِ الشورى، حيث ينصُّ القانونُ على أن الرئيسَ يعينُ ثلثَ الأعضاءِ وهم 90 عضواً، وقد طلبَ من الأحزابِ ترشيحَ من يرونه جديراً بذلك ليختارَ الرئيسُ منهم من يراه مناسباً، فأرسلَ حزبُ الأحرار اسمي، فتم استبعادي أيضاً، ولم تكن قائمةُ المعينين تعبيراً عن الثورة، فقد تمت إعادةُ تعيين منى مكرم عبيد، لاستكمالِ دورتها، فقد عيّنها مبارك في البرلمان الذي قامت عليه الثورةُ، كما تم تمثيلُ الحزب الوطني فيها، بتعيين محمد بدوي دسوقي القياديِ بالحزبِ بمحافظةِ الجيزة، وعُين عبد الهادي القصبي، شيخُ مشايخِ الطرقِ الصوفيةِ، الذي عينه مبارك في برلمانٍ سابقٍ، ثم كان مرشحَ الحزبِ الوطني في الانتخاباتِ السابقةِ على الثورة.

وقبل هذا وبعده، فإن حزبَ الحرية والعدالة أعلن هذه المرةَ أنه لن يتحالفَ مرةً أخرى مع “الليبراليين”، وإن كان مستعداً للتنازلِ عن 40 في المئةِ من قوائمِه للإسلاميين. فكان ترشحي على قوائمِ المعارضةِ هو الطبيعيَ بالنسبة لي، وشخصي الضعيفُ ليس هو الموضوعَ هنا!

فما هدفتُ إليه أن الاستعدادَ كان على قدمٍ وساقٍ لخوضِ الانتخاباتِ البرلمانيةِ، وفي وقتٍ لاحقٍ وفي يوم 4 يناير، وضعت جبهةُ الإنقاذ عدداً من الشروطِ لخوضِ الانتخاباتِ، من بينها إعادةُ تقسيمِ الدوائرِ بحيث تكونُ لكل محافظة قائمةٌ واحدةٌ، ما عدا المحافظاتِ الكبرى في عددِ السكان، ووضعُ تنظيمٍ لتمويل العمليةِ الانتخابيةِ، إلى غير هذا من شروطٍ إجرائية!

والتقى محمد البرادعي مؤسسُ حزب الدستور، وعبد المنعم أبو الفتوح رئيسُ حزب مصر القوية، وعمرو خالد رئيسُ حزب مصر المستقبل، لبحث خوضِ الانتخاباتِ بقائمةٍ موحدة. وقال البرادعي إن التحالفَ الجديدَ هو نواةٌ لدخول أطرافٍ جديدةٍ.

وقال حزبُ الوفد عضو جبهةِ الإنقاذ، إن الشروطَ المنشورةَ باسم الجبهةِ لخوضِ الانتخاباتِ لم تُناقشْ معه ولم تقرّها جبهةُ الإنقاذ، ليتبينَ أنها صادرةٌ عن حزبِ مصر الديمقراطي، على نحو كاشفٍ بأن غيرَه من أحزابِ المعارضةِ لن تتمسك بهذه الشروطِ لخوضِ الانتخاباتِ.

فلم يكن الانقلابُ مطروحاً على جدولِ الأعمالِ.

 

المصدر : الجزيرة مباشر