عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة 11]

عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي

بإسقاط حكم العسكر، بدت السلطة وقد دانت للرئيسِ محمد مرسي، وجاء فشل الدعوة لمظاهرات 24 أغسطس، كاشفا وليس منشئا، عن وضع قائم قوامه أن الحكم استتب للرئيس المنتخب، فتحرك على هذا الأساس

تقرير| سليم عزوز

وبدأَ خصومُه ينتقلونَ من معسكرِ الدعوةِ لإسقاطِه إلى القَبولِ بالخيارِ الديمقراطيِّ، وإنْ بقِيَ حمدين صباحي تراودُهُ أحلامُ الرئاسةِ، فيدعُو إلى إجراءِ الانتخاباتِ الرئاسيةِ بعدَ تعديلِ الدستورِ، ويعلنُ أنَّ مَنْ يحكمُ مصرَ هُم “أقليةٌ منظَّمةٌ”، ومن حقِّنا إسقاطُ مرسي. لكنّهُ يعودُ ويستدركُ: “سننتصرُ على الإخوانِ بالصناديقِ”!

وقد شغلَ صباحي نفسَهُ بالاستعدادِ لخوضِ الانتخاباتِ البرلمانيةِ آنذاك من خلالِ حركةِ التيارِ الشعبيِّ، ودعا لتكتّلٍ يضمُّ الأحزابَ الناصريةَ واليساريةَ، لمُواجهةِ الإخوانِ، وهو ما شغلَ الدكتورَ محمد البرادعي، الذي فقدَ الأملَ في أنْ يفيضَ عليه الإخوانُ ممّا رزقَهم اللهُ، فاهتمَّ بتقويةِ حزبِهِ الوليدِ “الدستور” لخوضِ الانتخاباتِ البرلمانيةِ، وأطلقَ معَ حمدين صباحي، وعددٍ من الأحزابِ المدنيةِ ما سُمِّي بتحالفِ “الجبهةِ الوطنيةِ المصريةِ”، التي تستهدفُ مواجهةَ الإخوانِ في الانتخاباتِ البرلمانيةِ المزمعِ إجراؤُها خلالَ بضعةِ شهورٍ!

فقد كانتِ الانتخاباتُ البرلمانيةُ هي ما تشغلُ الخصومَ، وأُطلقتْ تحالفاتٌ أخرى لمْ تكتملْ مثلَ التحالفِ الصوفيِّ القِبطيِّ، للتنسيقِ لذاتِ الهدفِ، وهو التحالفُ الذي دعَا إليهِ الشيخُ علاء أبو العزايم شيخُ الطريقةِ العزميةِ، ومؤسسُ حزبِ التحريرِ المصريِّ الصوفيِّ، وجاءَ الهدفُ في تصريحٍ لهُ بأنَّ هذا التحالفَ يستهدفُ خوضَ الانتخاباتِ البرلمانيةِ تحتَ عنوانِ “مدنِيّة الدولة” لمواجهةِ الإخوانِ وقوى الإسلامِ السياسيِّ بشكلٍ عامٍّ!

محمد البرادعي (يمين) وحمدين صباحي (يسار)

وإذ فشلتِ الدعوةُ لمظاهراتِ 24 أغسطس، ولم يشاركْ فيها سِوى عشراتٍ، فقد كانَ اللافتُ هو طردَ مُحمد أبو حامد منْها، وهو مَن بقِيَ من الداعينَ إليها، وقد تحوّلَ اسمُها من الدعوةِ لإسقاطِ محمد مرسي قبلَ الإطاحةِ بطنطاوي، إلى الطلبِ بعدمِ أخونةِ الدولةِ بعد الإطاحةِ بهِ!

وكانَ ما سُمّي بالجبهةِ المصريةِ للدفاعِ عن القواتِ المسلحةِ (لاحظِ الاسمَ)، وحزبُ النصر الصوفيُّ – وهما من القوَى المُعتصمةِ في محيطِ قصرِ الاتحاديةِ- قد أصدرا بياناً قالَا فيه إنَّ المعتصمينَ اكتشفُوا اتفاقاً بينَ أبو حامد وبينَ الأمنِ لفضِّ الاعتصامِ بقرارٍ فرديٍّ ودونَ العودةِ لباقِي التياراتِ والقوَى السياسيةِ الأخرَى المُشاركةِ، وأنَّه “بعدَ أنِ انكشفَ غادرَ الاعتصامَ وعادَ في صباحِ اليومِ التالِي وهو يربطُ ذراعَه، وادّعى أنّ الإخوانَ اعتدَوا عليهِ، فواجهنَاهُ بالاتفاقِ الذي بينَه وبينَ الأمنِ فلمْ يستطعْ الإنكارَ، فقمْنا بطردِهِ”.

والمعنَى أنَّ ثالثَ ثلاثةٍ دعَوا لهذا الاعتصامِ، هو مَن كانَ يتّفقُ مع الأمنِ على فَضِّهِ، فقد توقّفَ مصطفى بكري وتوفيق عكاشة عن الدعوةِ للتظاهرِ ضدَّ الرئيسِ، منذُ عزلِ طنطاوي ومَن معَهُ، وإنهاءِ مرحلةِ ازدواجيةِ الحكمِ. لكنّ أبو حامد وبعدَ اكتشافِ تنسيقِهِ معَ الأمنِ أطلقَ دعوةً لمليونيةٍ جديدةٍ في 6 أكتوبر بميدانِ التحريرِ لمُواجهةِ ما أسمَاه بـ “هيمنةِ الإخوانِ”، وكانتْ مجردَ دعوةٍ أطلقَها ولمْ يصرَّ عليهَا، للتغطيةِ على ما فعلَ، وأدّى إلى طردِهِ منِ اعتصامٍ لم يشاركْ فيهِ سِوى العشراتِ، وانتهَى إلى لا شيءٍ، فالمشاركونَ استجابُوا لطلبِ الأمنِ أيضاً بفضِّ الاعتصامِ، وأكَّدَ المعتصمونَ وهم يُغادرونَ مكانَ اعتصامِهم مرةً أخرَى أنَّ أبو حامد هُو مَنْ أفشلَ مليونيَّتَهم.. فأينَ هذِه المليونيةُ؟!

محمد أبو حامد (يمين) ومصطفى بكري (وسط) وتوفيق عكاشة
وخطبَ مظهر شاهين:

وتغيّرتْ لهجةُ توفيق عكاشة، الذي أُغلقتْ محطتُه التلفزيونيةُ “الفراعِين”، وقُدِّمَ لمحكمةِ الجناياتِ بتهمةِ إهانةِ الرئيسِ، وقالَ إنّهُ يؤيدُ إقالةَ “طنطاوي” و”عنان”، وتبرّأَ من الدعوةِ لمظاهراتِ 24 أغسطس، وقالَ إنّه لمْ يحشدْ أنصارَه للمشاركةِ فيهَا، رغمَ تأييدِهِ لهَا، وإنَّهُ، فقطْ، قالَ في قناتِهِ إنَّ الثورةَ مستمرّةٌ، فتبنّى محمّد أبو حامد الدعوةِ للتظاهرِ، “وبصفتِي الإعلامية قلْت للناسِ إِشْمِعْنَى يوم 24 أغسطس؟”.

وفي يومِ 31 أغسطس شهِدَ ميدانُ التحريرِ احتجاجاتٍ وصفتْها “المصري اليوم” بـ “المحدودةِ”، بينَما كانتْ خُطبةُ الشيخِ مظهر شاهين، على مرمَى حَجرٍ منْهم وعلى مِنبرِ مسجدِ عُمر مكرم، تواجهُهُم بقوةٍ، وهو يوجّهُ الشكرَ للشعبِ المصريِّ العظيمِ “الذي اختارَ الشرعيةَ ووقفَ أمامَ مَن يريدُ أنْ ينقلبَ على الحكمِ بمقاطعتِهِ مليونيةَ 24 أغسطس”، وقالَ: “إنَّ ما حدثَ يومَ جُمعة 24 أغسطس يحتاجُ إلى دراسةٍ متأنّيةٍ لأنَّ أصحابَ الدعوةِ للتظاهرِ استخدمُوا كلَّ أساليبِ الدعايةِ لتلكَ المظاهراتِ على مدَى شهرٍ كاملٍ عبرَ وسائلِ الإعلامِ، وأنَّ النتيجةَ أنَّ الشعبَ المصريَّ الذي يقدرُ خطورةَ الفترةِ الحاليةِ اختارَ الشرعيةَ والاستقرارَ ومساعدةَ الرئيسِ… وأنَّ القراراتِ الأخيرةَ التي أصدرَها الرئيسُ (يقصدُ عزلَ طنطاوي وعنان) أرعبتْ هؤلاءِ وحوّلتْهم من أسودٍ إلى أرانبَ”.

مظهر شاهين

واستطردَ في اتجاهِهِ للتقرّبِ من الحكمِ القويِّ بالنوافلِ: “أنا لَو من الجماعةِ أصدرُ قراراً بتعيينِ الشخصِ الذي دعا إلى التظاهرِ عضواً شرفيّاً بمكتبِ الإرشادِ بجماعةِ الإخوانِ المُسلمينَ لأنَّهُ خدمَهم وأظهرَ قوةَ الإخوانِ المسلمينَ، وأنَّهم فصيلٌ سياسيٌّ منظمٌ قادرٌ في جميعِ الأوقاتِ على مواجهةِ جميعِ التحدياتِ التي تواجهُهُ”.

ولمْ يكتفِ بهذا فقدْ قالَ: “إنَّ خطابَ الرئيسِ في قمةِ عدمِ الانحيازِ كانَ واضحاً ومُتوازناً، وحوّلَ مصرَ من دولةٍ تابعةٍ إلى دولةٍ قائدةٍ خلالَ المرحلةِ القادمةِ”.

ثمّ ذهبَ الشيخُ مظهر شاهين في خُطبتِهِ بعيداً وهو ينتقدُ مَنْ يهاجمونَ أسلمةَ الدولةِ فـ “المعترضونَ على أسلمةِ الدولةِ تناسَوا أنَّ مصرَ منذُ أنْ فتحَها عمرو بن العاص، وهي دولةٌ إسلاميةٌ بمفهومِ الإسلامِ الصحيحِ الوسطيِّ المتمثّلِ في الأزهرِ الشريفِ”.

وتقدّمَ المحامي المعروفُ بأنّهُ أداةٌ في يدِ الأجهزةِ الأمنيةِ “سمير صبري” الذي اعترفَ بعدَ ذلكَ بصداقتِهِ لعبد الفتاح السيسي، ببلاغٍ للنائبِ العامِّ ضدَّ المشيرِ محمد حسين طنطاوي والفريقِ سامي عنان، بالاتّهامِ بقتلِ المتظاهرينَ في أحداثِ شارعِ محمد محمود ومجلسِ الوزراءِ ومذبحةِ بُور سعيد وأحداثِ العباسيةِ الأولى والثانيةِ (هكذا)، كَما اتّهمَ عنان بالكسبِ غيرِ المشروعِ. وقد أحالَ النائبُ العامُّ البلاغَ للنيابةِ العسكريّةِ، كونُهما عسكريَّينِ!

ولمْ يسلمِ الأمرُ من وجودِ أصواتٍ معارضةٍ هُنا وهُناكَ، مثلَ موقفِ الدكتورِ عمرو حمزاوي مِن الاعتراضِ على ما أسْماه “هيمنةَ الإخوانِ” في تشكيلِ المجلسِ الأعلى للصِحافةِ والمجلسِ القوميِّ لحقوقِ الإنسانِ، لكنْ هذا كانَ يتمُّ في إطارِ المعارضةِ التي لا تنكرُ وجودَ الرئيسِ في القصرِ، ولا تدعُو لإسقاطِهِ، فلمْ يعدْ هناكَ مجلسٌ عسكريٌّ يشاركُهُ في الحكمِ يمكنُ الاستقواءُ بِهِ!

شرعيةٌ جديدةٌ:

ومن جانبه، سافرَ الرئيسُ إلى الصينِ، وأبرمَ هناكَ عدداً من الاتفاقياتِ، ومن هناك أعلنَ أنَّ مصرَ ستعاودُ فتحَ ملفِّ الطاقةِ النوويةِ مرّةً أخرَى، بعدَ أنْ ظلَّ مُغلقاً سنواتٍ طويلةً، مُؤكّداً أنَّ الحكومةَ تقومُ بدراسةِ هذا الملّفِ حالياً.

وأمامَ الجاليةِ المصريةِ في بكين، قالَ مُحمد مرسي: “هناك عددٌ قليلٌ ممّن لا يضمرونَ سوءاً لمصرَ لكن لا يقدّرونَ المسؤوليةَ لعمومِ الشعبِ، فأنا أصبرُ عليهم وأتجاوزُ عن أخطائِهم، لكنِّي لا أقبلُ أنْ يتعدَّى ذلك إلى النَيلِ من مصلحةِ الوطنِ”.

كانتْ شرعيةٌ جديدةٌ تتأسّسُ، وكانَ الخطابُ على مستوَى هذه اللحظةِ، وكانَ التحرّكُ في عمومِهِ على مستواهَا، فلمْ يعدْ هو الرئيسَ الضعيفَ، أو المرشحَ الاحتياطيَّ لخيرت الشاطر.

وفي هذه الفترةِ طارَ إلى طهرانَ لحضورِ مؤتمرِ عدمِ الانحيازِ، وهو الحضورُ المثيرُ للجدلِ منذُ بدايةِ تلقِّي الرئيسِ الدعوةَ، وكانَ السؤالُ المثارُ هل يفعلُها ويسافرُ، لاسيّما أنَّه يبدُو بهذا السفرِ، قد خرجَ عنْ السياسةِ المصريةِ الخارجيةِ بمقاطعةِ طهرانَ، تماهياً معَ السياسةِ الأمريكيةِ، كَما وُلدَ تحدٍّ جديدٌ، وهو حضورُ السلفيينَ للمشهدِ السياسيِّ بعدَ الثورةِ، ومن سياستِهم القطيعةُ مع طهرانَ، لأسبابٍ تتعلّقُ بالموقفِ من الشيعةِ والتشيّعِ، فضلاً عن وقوفِ الممولِ السعوديِّ ضدَّ إقامةِ علاقاتٍ بينَ القاهرةِ وإيرانَ!

لقد سافرَ الرئيسُ مُحمد مرسي إلى هناكَ، والتقى نظيرَهُ الإيرانيَّ أحمدي نجاد، وإنْ لمْ يتطرقِ الحديثُ إلى إعادةِ العلاقاتِ، فلم تكنْ للرئيسِ نفسِهِ رغبةٌ في ذلكَ، وهذه واحدةٌ من الأخطاءِ، التي مكّنتْ منه الخَصمَ السعوديَّ في وقتٍ لاحقٍ، والذي ساعدَ في عمليةِ الإطاحةِ بِهِ.

ومعَ هذا فلمْ يُرْضِ هذا بعضَ السلفيينَ، الذين قالُوا إنّه في مثلِ هذه القضايا ينبغِي أنْ يستشيرَهم الرئيسُ، وجاءَ الردُّ الإخوانيُّ حاسماً: تحرُّكُ الرئيسِ يخصُّهُ ومن أعمالِ السيادةِ التي لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يفرضَ وصايةً عليهَا.

وكانَ البعضُ يعتقدُ أنَّ واشنطن يمكنُها أنْ تفرضَ فيتو على سفرِ الرئيسِ لطهرانَ، لكنّ الخارجيةَ الأمريكيةَ، قالتْ إنَّ هذا شأنٌ مصريٌّ خالصٌ وليسَ لها أنْ تتدخلَ فيهِ.

كانَ عزلُ طنطاوي وعنان مفاجأةً للإدارةِ الأمريكيةِ على النحوِ الذي أوضحْنَاهُ في الحلْقةِ التاسعةِ من هذا الملفِّ، وكانَ البيتُ الأبيضُ قد استوعبَ فكرةَ الشراكةِ في الحكمِ، وإصرارَ المجلسِ الأعلى للقواتِ المسلحةِ على تقاسمِ السلطةِ، لكنّ قرارَ العزلِ أدهشَهم فلمْ يكنْ لديهم مانعٌ من التعاملِ معَ المعطياتِ الجديدةِ، فمصرُ لم تعدْ كَما كانتْ، والمهمُّ أنْ تستمرَّ علاقاتُها قائمةً مع القاهرةِ، حتى لا تذهبَ بعيداً.

وجاءَ وفدٌ من رجالِ الأعمالِ الأمريكيينَ للقاهرةِ يضمُّ 80 فرداً يمثلونَ 50 شركةً أمريكيةً والتقَى الرئيسَ بهدفِ بحْثِ حوافزِ الاستثمارِ في مصرَ، بما مِنْ شأنِهِ توفيرُ 7000 فرصةِ عملٍ للمصريينَ وتحقيقُ نموٍّ سنويٍّ قيمتُه 6 في المئة، لكنْ كانَ ما يشغلُ المستثمرينَ هُو الاستقرارُ الداخليُّ، الذي تركتْه الرئاسةُ في يدِ وزارةِ الداخليةِ، فعملتْ على استمرارِ الفوضَى وكانَ بيدِها أنْ تفرضَ سياستَها في هذه المرحلةِ ومن خلالِ اختيارِ القيادةِ الرشيدةِ، لكنَّ الحكمَ أخفقَ إخفاقاً بلا حدودٍ في إدارةِ هذا المرفقِ.

وفي أثناءِ هذه الزيارةِ، قالَ توماس ناي نائبُ وزيرِ الخارجيةِ الأمريكيةِ إنّ مصرَ تستطيعُ أنْ تكونَ واحدةً من أقوَى الاقتصاداتِ في العالمِ خلالِ جيلٍ واحدٍ، وعليها أنْ تنجحَ في تحقيقِ الاستقرارِ السياسيِّ والاقتصاديِّ، مُؤكداً أنّ أمريكا ستدعمُ مصرَ.

وقالَ ما يكل فرومان مساعدُ الرئيسِ الأمريكيِ للأمنِ القوميِّ ومستشارُهُ للاقتصادِ الدوليِّ إنّ “الوقتَ قدَ حانَ لكي يتكرّرَ في مصرَ ما حدثَ في كوريا وماليزيا وتركيا”.

شخصياتٌ باهتةٌ:

كانتْ مرحلةٌ جديدةٌ تبدأُ، وقد توقفتِ المعارضةُ عن سياسةِ محاسبةِ الرئيسِ بالساعةِ، فلمْ يعُدْ أحدٌ يتحدثُ عن الفشلِ في تطبيقِ بَرنامجِ المئةِ يومٍ، وكتبْتُ أنَا وقتئِذٍ بهذه المناسبةِ مقالاً بجريدةِ “الأحرار” التي أتولَّى رئاسةَ تحريرِها: “نصف نجاح.. ونصف فشل.. ولو لم يكنْ له سِوى إسقاطِ حكم العسكر لكفاه”.

ولمْ تمر الأيامُ دونَ وجودِ ما يعكرُ الصفوَ، فقد انطلقَ الرئيسُ من قاعدةِ الحاكمِ الفعليِّ للبلادِ، فاختارَ هيئةَ مستشارِيهِ، وعيّنَ عشرةَ مُحافظينَ، وشكّلَ المجلسَ الأعلى للصِحافةِ، والمجلسَ القوميَّ لحقوقِ الإنسانِ، ومن المؤسفِ أنّها كانتْ تشكيلاتٍ باهتةً، إلا من وجودِ بعضِ الشخصياتِ المهمةِ، والتي تُختارُ وَفْقَ القواعدِ القديمةِ، التي تعبّرُ عنها العبارةُ المصريةُ الدارجةُ “تَحْلِيَة البِضَاعَة”!

لقد ضمَّ المجلسُ القوميُّ لحقوقِ الإنسانِ شخصياتٍ معارضةً، لكنّنا شاهدْنَا فيه شخصياتٍ لا نعرفُ مبررَ اختيارِها، فلمْ يكنْ في سجّلِها ما ينتصرُ لحركةِ حقوقِ الإنسانِ ولو بشطرِ كلمةٍ!

وإذا كانَ المجلسُ الأعلى للصِحافةِ يتشكّلُ من شخصياتٍ بحكمِ مواقعِها وهم رؤساءُ تحريرِ الصحفِ القوميةِ، وخمسةٌ من رؤساءِ تحريرِ الصحفِ الحزبيةِ، فإنَّ الأولينَ تمَّ اختيارُهم وَفْقَ قواعدَ شديدةِ البؤسِ، فإذا كانتْ هذه القواعدُ لم تأتِ بالإخوانِ، فإنَّها جاءتْ في مجملِها بشخصياتٍ لا تعبّرُ عن الثورةِ، وليستْ خيرَ مَن يمثّلُ المهنةَ، وقبيلَ الانقلابِ لم يحفظْ قياداتُ الصحفِ الجميلَ وباعُوا الحكمَ عندَ أوّلِ منعطفٍ، أما رؤساءُ تحريرِ الصحفِ الحزبيةِ، فعندَ التطبيقِ صارُوا أربعةً بدلَ خمسةٍ، وعندَ التنفيذِ استُبعدَ ثلاثةٌ لتبريرِ استبعادِ واحدٍ، والثلاثةُ الذين تمّ استبعادُهم هم: رئيسُ تحريرِ الأحرارِ، ورئيسُ تحريرِ الوفدِ، ورئيسُ تحريرِ النورِ، والمستهدفُ من ذلكَ هو رئيسُ تحريرِ الجريدةِ الحزبيةِ الأقدمِ “الأحرار”، ولم يتبقَّ في عضويةِ المجلسِ سِوى رئيسِ تحريرِ جريدةِ “الحرية والعدالة”!

وإذا كانَ للرئيسِ أن يختارَ عدداً من الشخصياتِ العامةِ، فمِن المؤسفِ أنّه غلّبَ على عمليةِ الاختيارِ الانتماءَ للنظامِ البائدِ ولأجهزتِهِ الأمنيةِ، فلمْ يتمَّ الاختيارُ بمقتضَى أنّ هناكَ ثورةً شهدتْها البلادُ، هي التي جاءتْ بصاحبِ القرارِ رئيساً للدولةِ. ومن إبراهيم حجازي إلى خالد صلاح، ومن صلاح منتصر إلى مجدي أبو النعاس، والأخيرُ هو المستشارُ القانونيُّ لصفوت الشريف بمجلسِ الشورَى، واستمرَّ مُستشاراً قانونياً لرئيسِ مجلسِ الشورَى الإخوانيِّ بعدَ الثورةِ، بل وتمَّ اختيارُه عضواً بالمجلسِ الأعلى للصِحافةِ بقرارٍ رئاسيٍّ!

والغريبُ أنْ يتمَّ اختيارُ مُحرِّرةٍ غيرِ معروفةٍ بجريدةِ “المساء” مَهمتُها تغطيةُ أخبارِ النِقابةِ، التي كانَ يتولّى منصبَ النقيبِ فيها ممدوح الولي، ولا يختارُ مَن هُم في قامةِ رئيسِ تحريرِها “مؤمن الهباء” معَ ما عُرفَ عنه من الكفاءةِ المهنيةِ، والاستقامةِ الأخلاقيةِ، ومع أنَّه من الذينَ كانَ لهم قدَمُ صدقٍ في تأسيسِ الصِحافة الإسلاميةِ، وقد تولّى عدّةَ سنواتٍ رئاسةَ تحريرِ جريدةِ “النور”، التي كانَ يصدرُها حزبُ الأحرارِ. لكن الولي الذي اختارَ صديقَه “محمد خراجة رئيساً لتحريرِ جريدةِ “الأهرام المسائي”، أكملَ جميلَه واختارَه عضواً كذلكَ بالأعلى للصِحافةِ رغمَ إعلانِه قبلَ الثورةِ أنّهُ عضوٌ بالحزبِ الوطنيِّ الحاكمِ بإحدَى شياخاتِ مُحافظةِ الجيزةِ.

والمثيرُ هو اختيارُ “نادر بكار” عضواً في المجلسَينِ: الأعلى للصِحافةِ، والقوميِّ لحقوقِ الإنسانِ، ولمْ يكنْ يُعرفُ عنه اهتمامٌ بالصِحافةِ أو بحقوقِ الإنسانِ، ولمْ يضبطْ يوماً مُتلبساً بالانغماسِ في شأنٍ من شؤونِهما، وهو ما أثارَ سخريةً واسعةً من هذا الاختيارِ البائسِ، دفعَ “نادر” نفسَه للتنازلِ عن عضويةِ الأعلى للصِحافةِ، وإنْ تمسّكَ بمجلسِ حقوقِ الإنسانِ، الذي استُبعدَ من تشكيلِهِ محمد عبد القدوس، الذي عُرِفَ عنه انشغالُهُ بهذه القضيةِ، وكانَ يرأسُ لجنةَ الحرياتِ بنقابةِ الصحفيينَ لدوراتٍ عدّةٍ، وكانَ اللافتُ أنَّ الرئيسَ المؤقتَ عدلي منصور اختارَه بعد الانقلابِ العسكريِّ عضواً في القوميِّ لحقوقِ الإنسانِ، وقبلَ الرجلُ مع كونِهِ مُنتمياً لجماعة الإخوانِ، ربما ليداوِيَ جُرحاً أصابَهُ ” وظُلم ذوِي القُربى أشدُّ مضاضةً/ على المرء من وقْع الحسامِ المهندِ”.

خالد صلاح (يمين) وإبراهيم حجازي (وسط) ونادر باكر
الأخونةُ:

وبجانبِ هؤلاءِ فرُبَّما لم يكنِ النظامُ الإخوانيُّ وقتَها وفيّاً لأحدٍ أكثرَ من حمدين صباحي، ومنذُ فترةٍ طويلةٍ، استمرّتْ إلى ما بعدَ الثورةِ في قَبولِ مرشّحِي حزبِهِ وأصدقائِهِ على قوائمِ حزبِ الحريةِ والعدالةِ في انتخاباتِ مجلسِ الشعبِ، وفي هذا التشكيلِ اختارُوا من حزبِهِ في الأعلى لحقوقِ الإنسانِ عبد الخالق فاروق، وفي الأعلى للصِحافةِ عيّنوا مجدي المعصراوي!

ومَهما يكنْ فقد كانَ المجلسُ القوميُّ لحقوقِ الإنسانِ، أفضلَ حالاً بالمقارنةِ بالمجلسِ الأعلى للصِحافةِ، من حيثُ ثقلُ الشخصياتِ المختارةِ وتنوّعُها، فمع وجودِ نكراتٍ في المجالِ الحقوقيِّ تمّ اختيارُهم فقد كانَ تشكيلُهُ برئاسةِ المستشارِ حسام الغرياني، وتولِّي اليساريِّ عبد الغفار شكر موقعَ النائبِ لهُ، كما ضمَّ شخصياتٍ يساريةً معروفةً مثلَ “أحمد سيف الإسلام حمد” والدِ “علاء عبد الفتاح”، وإيهاب الخراط، وأحمد حرارة. وكانَ هو الأقلَّ في عددِ الفلولِ، فلم نتعرفْ سِوى على واحدةٍ منهم تمَّ اختيارُها بدونِ سابقةِ أعمالٍ في المجالِ هي منى مكرم عبيد!

المستشار حسام الغرياني (يمين) والأستاذ عبد الغفار شكر(وسط) والأستاذ أحمد سيف الإسلام حمد

وفي إطارِ الشعورِ باستقرارِ الحكمِ اختارَ الرئيسُ هيئتَهُ الاستشاريةَ وتضمُّ 21 عضواً، كان أبرزُهم الدكتورَ سيف الدين عبد الفتاح، وسكينة فؤاد، وفاروق جويدة من الشخصياتِ المستقلةِ، وجاء تصنيفُهم على هذا النحو: (11 عضواً ينتمون للتيارات الإسلاميةِ، من بينِهم 5 فقط من جماعةِ الإخوانِ، و2 من حزبِ النورِ، وعضوٌ من الجماعةِ الإسلاميةِ)، كما ضمّ التشكيلُ ثلاثَ سيداتٍ، وإعلاميَّينِ، وعضوَينِ مسيحيَّينِ)، هما سمير مرقص، ورفيق حبيب، وهو الاختيارُ المسيحيُّ الأفضلُ، ربما لأنّه تمَّ بعيداً عن الكنيسةِ، التي اختارتْ في القوميِّ لحقوقِ الإنسانِ واحدةً من الفلولِ، وفي الأعلى للصِحافةِ اثنينِ من الصحفيينَ غيرِ المعروفينَ في الوسطِ الصحفيِّ: “مينا عبد الملاك” و”سامح محروس”، مع وجودِ شخصياتٍ صحفيةٍ مسيحيةٍ فاعلةٍ سواءٍ على مستوَى المهنةِ أو على مستوَى العملِ النِقابيِّ.

وجاءتْ حركةُ المحافظينَ فلم تخرجْ عن سياقِ اختيارِ شخصياتٍ تفتقدُ للقيمةِ السياسيةِ والمهنيةِ، فالحركةُ تمّتْ بتعيينِ عشرةِ محافظينَ جددٍ من بينِهم خمسةٌ ينتمونَ لجماعةِ الإخوانِ، وواحدٌ من الجماعةِ الإسلاميةِ!

وتكمنُ المشكلةُ هنا أنَّ المعارضةَ بدت غيرَ قادرةٍ على توصيفِ المشهدِ، فذهبتْ تتحدثُ عن الأخونةِ، وهيمنةِ الإخوانِ على المؤسساتِ. ولم يكنْ هذا صحيحاً.

وقد استقالَ أسامة الغزالي حرب من عضويةِ المجلسِ الأعلى للصِحافةِ وأرجعَ سببَ استقالتِهِ إلى هيمنةِ الإخوانِ..فهل كانَ يتحرّجُ أنْ يقولَ إنَّ استقالتَه لاختيارِ أصحابِ القاماتِ المنخفضةِ فيضعَ نفسَه في مواجهةٍ معَهم؟.. أمْ كانَ يجدُ حرجاً في أنْ يُبدي اعتراضَه على الفلولِ، لأنّه لم يكن بعيداً عنْهم أو في خصومةٍ معَهم، وهو الذي ظلَّ مبارك يختارُه عضواً بمجلسِ الشورى طوالَ فترةِ حكمِه، وكانَ مقرباً من تجرِبةِ مبارك، قبلَ أن يستقيلَ من عضويةِ الحزبِ الوطنيِّ ويؤسسَ حزبَ الجبهةِ، برئاسةِ سياسيٍّ مستأنسٍ ومتقاعدٍ هو يحيى الجمل، وهو الحزبُ الذي وافقتْ عليه لجنةُ شؤونِ الأحزابِ بتشكيلِها الحكوميِّ برئاسة صفوت الشريف!

ورغمَ أنَّه بدا غاضباً في هذه الفترةِ من النظامِ، وتردّدَ أنّ السببَ في هذا يرجعُ إلى أنَّهم تأخّرُوا في تعيينِهِ رئيساً لمجلسِ إدارةِ مؤسسةِ “الأهرام” الصحفيةِ، لكنّ الموافقةَ له بتأسيسِ حزبٍ، ومن لجنةٍ اشتُهرتْ باسمِ لجنةِ رفضِ الأحزابِ، يجعلُ هناك حلقةً مفقودةً تمّ تجاوزُها بتقديمِ أسامة الغزالي حرب قبلَ الثورةِ باعتبارِه أحدَ المعارضينَ، وتقديمِهِ بعدَ الثورةِ كمَا لو كانَ من شهدائِها!

كانَ حديثُ الأخونةِ، هو حديثاً يفتقدُ للحيثياتِ، لكنّها كانتْ دعايةً لم تجدْ من يتصدَّى لها ويردُّ عليها!

لقد عادَ الرئيسُ من الخارجِ وزارَ قصرَ عابدين لأوّلِ مرةٍ، وصلّى الجمعةَ في مسجدِ السيدةِ زينبَ لمَا لهُ من دلالةٍ!

فالفكرُ السلفيُّ يحرّمُ الصلاةَ في المساجدِ التي بها أضرحةٌ، لكنّه أرادَ بذلكَ أنْ يقولَ إنّه مختلفٌ، وربّما أرادَ التقرّبَ من الطرقِ الصوفيةِ، وآخرُ علاقةِ النظامِ البائدِ بهذا المكانِ هو منعُهُ الموالدَ بحُجةِ الخوفِ من أنفلونزا الخنازيرِ، وكانَ أوّلُ مولدٍ ينطبقُ عليه المنعُ هو مولدَ السيدةِ زينبَ، وجاءَ القومُ من المحافظاتِ المختلفةِ لتطاردَهم الشرطةُ لأوّلِ مرةٍ.

والدلالةُ الثانيةُ هي التأكيدُ على استقرارِ الحكمِ، فمسجدُ السيدةِ لا يصلحُ أمنياً لصلاةِ الرئيسِ، حيثُ تحيطُ به المنازلُ بما يحتاجُ إلى سيطرةٍ أمنيةٍ كبيرةٍ!

وكانتْ مشكلةُ الرئيسِ في أنّه يرسلُ الرسائلَ ولا يوجدُ بجانبِهِ إعلاميونَ يقومونَ بتوضيحِها للرأيِ العامِّ، فليسَ بجوارِهِ هيكل كما عبد الناصر، أو موسى صبري وأنيس منصور كما السادات، ولم يكن مبارك صاحبَ فلسفةٍ تحتاجُ لشرحٍ، لهذا فقد كانَ يقرّبُ سمير رجب ليقومَ بمَهمةِ “التطبيلِ” لهُ، فلا تحتاجُ قراراتُهُ إلى شرحٍ أو توضيحٍ إنما تحتاجُ إلى تأييدٍ في حلقةِ ذِكْرٍ!

رسائلُ مهمةٌ، ضاعتْ، ولم تصلْ فلسفتُها للناسِ، لافتقادِ النظامِ إلى كاتبٍ أو أكثرَ يتولّونَ مَهمةَ التوضيحِ في مِنبرٍ صحفيٍّ كبيرٍ، فقد هبطتِ المنابرُ الصحفيةُ باختياراتِ القومِ الباهتةِ، والرئيسُ لا يعرفُ كُتّاباً ولم يحتكَّ بصحفيينَ، ومن أوكلَ لهم الإخوانُ هذا الملفَ لم يكونُوا على مستوَى المَهمةِ المُلقاةِ على عاتقِهم، فضاعتِ الرسائلُ ولم يلتقطْها الناسُ!

من بينِ هذه الرسائلِ حرصُ الرئيسِ على حضورِ ثلاثةٍ للقصرِ في وقتٍ واحدٍ: عبود الزمر أحدِ المُتهمينَ في قضيةِ اغتيالِ الرئيسِ السادات، والسيدةِ جيهان السادات، وحرمِ الفريقِ سعد الدين الشاذلي رئيسِ أركانِ الجيشِ وابنتِهِ!

إنّه لقاءٌ يعنِي في فلسفتِهِ أنّه رجلٌ يسعَى للمصالحةِ بينَ خصومِ التاريخِ، لتبدأَ مصرُ صفحةً جديدةً، بينَ أسرةِ السادات وقاتلِيهِ، وقد أعلنتِ الجماعةُ الإسلاميةُ خطأَها في عمليةِ الاغتيالِ، ويمثلُ الزمرَ الرمزَ الأكثرَ وجاهةً والأقلَّ خصومةً باعتبارِهِ كان رافضاً منذُ البدايةِ لعمليةِ الاغتيالِ، ثم مصالحةً جديدةً بينَ أسرةِ الشاذلي التي طاردَها السادات في المنافِي وطاردَ عائلَها دونَ احترامٍ لدورِهِ في نصر أكتوبر، وأيضاً بينَ هذه الأسرةِ التي كان كبيرُها يحرضُ على اغتيالِ السادات ويقومُ بتخوينِهِ دونَ اعتبارٍ لكونِهِ قائدَه الأعلى!

لم تجدِ الرسالةُ مَن يلتقطُها، ولم يتحمسْ أحدٌ لشرحِها متطوعاً، فانتهتْ إلى عملٍ تمّ من بابِ المكايدةِ، بحسبِ جيهان السادات بعدَ الانقلابِ، عندَما قالتْ إنّه اليومُ الأسوأُ في حياتِها، ولم تكنْ مُنصفةً، لكنَّ الرسالةَ ضاعتْ في الهواءِ، فكانَ من السهلِ تشويهُ مضمونِها.

وفي هذِه الأجواءِ، حيثُ استتبَّ الأمرُ للرئيسِ مُحمد مرسي، كانَ طبيعياً أنْ تعودَ صلاحياتُ رئيسِ الجمهوريةِ إلى أصلِها، فلم يكنْ هناكَ ما يمنعُ – بالتالي – لجنةَ “نظامِ الحكمِ” باللجنةِ التأسيسيةِ للدستورِ، أن تحسمَ الأمرَ بأنَّ إعلانَ الحربِ هو قرارُ رئيسِ الجمهوريةِ بعدَ أخذِ موافقةِ البرلمانِ، ليكونَ رأيُ المجلسِ الأعلى للقواتِ المسلحةِ استشاريّاً، وأخذِ رأيِ مجلسِ الدفاعِ الوطنيِ دونَ اشتراطِ الموافقةِ!ِ

ولكنَّ حالةَ الاسترخاءِ هذه كانَ لها سلبياتُها، سواءٌ بالشعورِ أنَّه لم يعدْ هناكَ ما يخيفُ، ومن هُنا، فلم يشعرْ النظامُ بحاجتِهِ لبسطِ نفوذِهِ على مؤسساتِ القوةِ، فتركَ الأمورَ تجرِي في أعنَّتِها، في تواضعِ المنتصرِ، وفي المقابلِ جرَى خوضُ معاركَ لا لزومَ لها، عندَما تمَّ التعاملُ معَ الفريقِ أحمد شفيق على أنَّه هدفٌ ينبغِي التخلّصُ منْه، في حدودِ القانونِ، وليسَ بوسائلَ أخرَى!

إنَّ أزمةَ الرئيسِ، التي رُبما كانَ يستشعرُها، تتمثّلُ في هذا الفوزِ المتواضعِ في الانتخاباتِ الرئاسيةِ، وهو ما جعلَهُ لا يدخلُ في عداءٍ مع الدولةِ القديمةِ، وإنَّما عمِلَ على احتوائِها، ولم يجدْ غضاضةً في أن يكرِّمَ كمال الجنزوري بعدَ أنِ اعتذرَ عن الاستمرارِ رئيساً للحكومةِ في عهدِهِ، وهو العرضُ الذي أثارَ دهشةَ الرأيِ العامِّ، ذلك وأنَّه بعيداً عن أنَّ الجنزوري هو رئيسُ الحكومةِ في عهدِ مبارك، وأنَّه تمَّ استدعاؤُهُ من قبلِ المجلسِ العسكريِّ لرئاسةِ الحكومةِ خلفاً للدكتورِ عصام شرف، لكنْ بالإضافةِ إلى هذا فإنَّ له مشكلةً مباشرةً مع البرلمانِ بأغلبيتِهِ الإخوانيةِ، برئاسةِ الدكتورِ سعد الكتاتني، وقد نقلُوا عنه تهديدَهُ لهُم بأنَّ حكمَ المحكمةِ الدستوريةِ بحلِّهِ في درجِ مكتبِهِ، قبلَ أنْ يَصدرَ!

وقد عبّرَ الدكتور عصام العريان عن فلسفةِ هذا التكريمِ على صفحتِهِ على “الفيس بوك” بقولِهِ: “تكريمُ الجنزوري والاستعانةُ بخبرتِهِ كمستشارٍ رسالةٌ إلى كلِ رجالِ العهودِ السابقةِ أنَّ مصرَ في حاجةٍ إلى خبراتِهم وأنَّه لا تهميشَ ولا إقصاءَ لكفاءةٍ ولا انتقامَ”.

فيعلّقَ عليهِ الدكتورُ محمد علي يوسف القيادي بحزبِ النورِ: وكيفَ نجمعُ بينَ هذا الكلامِ وكلامِكَ السابقِ عن الجنزوري. وبهذا المنطقِ يكون شفيق كفاءة ولا إيه؟.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون”.

ومن هُنا لم يجدِ الرئيسُ ما يحولُ دونَ اختيارِ زميلِهِ أستاذِ هندسةِ الإلكترونياتِ بكليةِ الهندسةِ جامعة القاهرةِ، ورئيسِ الجامعةِ، مُحافظاً للجيزةِ، وهو الرجلُ الذي فتحَ الجامعةَ لجمعيةِ المستقبلِ التي أنشأَهَا جمال مبارك، كمَا فتحَها لعقدِ مؤتمراتٍ حزبيةٍ لصالحِ الحزبِ الوطنيِّ. فتلكَ أُمةٌ قد خلَتْ، ولم تكنْ هذه السماحةُ ومحاولةُ الاحتواءِ معَ فصائلِ الثورةِ، كمَا لم تكنْ من نصيبِ خيارِ الدولةِ العميقةِ، في الانتخاباتِ الرئاسيةِ، الفريقِ أحمد شفق.

لقد تقبّلَ أحمد شفيق الصدمةَ بروحٍ رياضيةٍ، فقد تمَّ إبلاغُهُ بالفوزِ في الانتخاباتِ الرئاسيِة، وذهبَ الحرسُ الجمهوريُّ لمنزلِهِ في اليومِ السابقِ لإعلانِ النتيجةِ، وتمَّ إبلاغُ الصحفيينَ الذينَ ذهبُوا لتغطيةِ المؤتمرِ الصحفيِّ باللجنةِ العليا للانتخاباتِ لإعلانِ النتيجةِ، بأنّه سيعقدُ مؤتمراً صحفياً بمناسبةِ فوزِهِ بعدَ إعلانِ النتيجةِ، لتنزلَ عليه النتيجةُ بفوزِ الرئيسِ مُحمد مرسي كالصاعقةِ، فلم يتصرّفْ كحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي، الذين ذهبُوا للاحتفالِ بهزيمتِهِم في ميدانِ التحريرِ في رغبةٍ حقيقيةٍ لإفسادِ انتخاباتٍ لم تمكّنْهم من الفوزِ أو من جولةِ الإعادةِ!

وبعدَ أن استوعبَ الفريقُ شفيق الصدمةَ، اعترفَ بنتيجةِ الانتخاباتِ، وهنَّأ الرئيسَ بالفوزِ، وطوَى صفحتَها، لكنَّ حالةَ الاسترخاءِ بدافعِ الشعورِ بالانتصارِ دفعتْ للتحرّشِ بهِ، والدفعِ بِه في معركةٍ لا مبرّرَ لها، وفي قضيةٍ قامتْ بِناءً على بلاغاتٍ من مُحامينَ على رأسِهِم عصام سلطان، وبدا أنَّ الرئاسةَ موافقةٌ على ما يجرِي، وإذا كانَ سلطان من حزبِ الوسطِ، فإنَّ الحزبَ كانَ في هذه الفترةِ من المكوِّناتِ التي أيّدتِ الرئيسَ مُحمد مرسي.

البلاغاتُ كانت ضدَّ أحمد شفيق باعتبارِه سهّلَ لجمال وعلاء مبارك، الحصولَ على أكثرَ من حقِّهما من أرضِ الطيارينَ، وهي أرضٌ خُصصتْ لجمعيةِ الطيارينَ، وإذا كانَ نجلا الرئيسِ المخلوعِ قد حصلَا على 40 ألفَ فدانٍ، فإنَّ الاتهامَ قامَ على سندَينِ:

السندِ الأوّلِ؛ أنَّهما حصلَا على مساحةٍ أكثرَ مما ينبغِي للعضوِ.

والسندِ الثانِي أنَّهما حصلَا على الأرضِ بأقلَّ من قيمتِها الحقيقيةِ.

وقد اتهمتِ البلاغاتُ الفريقَ أحمد شفيق بأنَّه مَنْ مكّنَهما من ذلكَ، وذلكَ بمقتضَى تحرياتِ مباحثِ الأموالِ العامةِ، وهذا فيما يختصُّ بالسندِ الأوّلِ، وإذا صحَّ الاتهامُ الثانِي فلماذا لم يتمَّ تقديمُ كلِّ الذينَ حصلُوا على هذه الأراضِي للمحاكمةِ، وهم يسرِي عليهم ما يسرِي على نجلَي الرئيسِ المخلوعِ من الحصولِ على الأرضِ بأقلَّ من قيمتِها الحقيقيةِ؛ وكذلك جميعِ الأراضِي الصحراويةِ الممنوحةِ لجمعياتٍ أو أشخاصٍ في عمومِ القُطرِ المصريِّ!

ودخلَ وزيرُ الزراعةِ على الخطِّ، وهو ينتمِي رسمياً للسلطةِ التنفيذيةِ، وطالبَ بسحبِ الأرضِ لصالحِ الوزارةِ!

وأمامَ قاضِي التحقيقِ، قالَ رئيسُ جمعيةِ الطيارينَ اللواءُ طيار نبيل شكري إنّه خصصَ الأرضَ لعلاء وجمال؛ لأنَّ والدَهما طيارٌ، وإنَّ التخصيصَ لهما تمَّ في عهدِ رئاستِهِ لجمعيةِ الطيارينَ وليسَ في عهدِ رئاسةِ الفريقِ شفيق لَها. ونفَى ما نُشِرَ على لسانِهِ قبلَ حبسِهِ أنَّه قالَ إنَّ الفريقَ شفيق قد أجبرَه على التزويرِ!

لقد صدرَ قرارٌ من قاضِي التحقيقِ بوضعِ الفريقِ أحمد شفيق على قوائمِ ترقُّبِ الوصولِ، وكانَ قد استشعرَ الخوفَ من القبضِ عليه وسجنِهِ فغادرَ إلى دبي، ومن هناكَ تحدّثَ لقناةِ “العربية” ونفَى أنْ يكونَ الرئيسُ وراءَ ما يحدثُ معَه، أو أنَّه يرغبُ في سَجنِهِ “فليسَ بينَنا ما يدعُو لذلكَ”، وإنْ كانَ قد وضعَ الأمورَ في نصابِها: “فالرئيسُ يجب أنْ يعاقب أحمد شفيق واللي أكبر منه بالحبس إذا أخطأَ أو ارتكبَ ما يستوجبُ ذلك، زي أيّ حدّ”!

كلامٌ يؤكّدُ أنَّ الرجلَ ليسَ ساعياً للخصومةِ، فهو يعترفُ بشرعيةِ الرئيسِ، وهو يعطيهِ الحقَّ في معاقبتِهِ ومعاقبةِ مَنْ هو أكبرُ منْه إنْ كانَ هناكَ ما يستوجبُ ذلكَ! ومع ذلكَ أخذتِ الدعوةُ مساراً آخرَ.

في المقابلةِ، قالَ إنَّ محاكمتَهُ سياسيةٌ، فماذا يمكنُه أنْ يقولَ؟ إنّها قائمةٌ على اتهاماتٍ جنائيةٍ حقيقيةٍ؟، ثمَّ إنَّ القولَ بأنَّها سياسيةٌ لا يعنِي بالضرورةِ أنَّه يتهمُ السلطةَ بأنَّها وراءَ ذلكَ، فلابدَّ من الإقرارِ بالبُعدِ السياسيِّ في الموضوعِ ولو في حدِّهِ الأدنَى، فهناكَ نجلا الرئيسِ السابقِ، وهما يحاكمانِ لأنَّ ثورةً قامتْ في البلدِ، وبدونِها لم يكنْ لأيِّ جهةٍ أنْ تفتحَ هذا الملفَّ أصلاً!

ولأنَّ التربُّصَ كانَ واضحاً فقد تقدّمَ عصام سلطان و16 محامياً آخرون من أعضاءِ ما تُسمَّى جبهةُ الدفاعِ عن السلطةِ القضائيةِ (!) ببلاغٍ للمستشارِ عبد المجيدِ محمود النائبِ العامِّ ضدَّ الفريقِ أحمد شفيق يتهمُه بإهانةِ السلطةِ القضائيةِ. وقالَ مقدِّمُو البلاغِ: “فُوجِئْنا بالفريقِ شفيق يصفُ قرارَ المحكمةِ بأنّه سياسيٌّ ومندفعٌ ولا أساسَ له من القانونِ أو المنطقِ”!

وإذا كانتْ قضيةُ أرضِ الطيارينَ توشكُ أن تنتهِي، بعدَ إعلانِ رئيسِ الجمعيةِ مسؤوليتَهُ عن التخصيصِ، وبتنازلِ الأخوَينِ مبارك عن الأرضِ، فإنَّه وجدَ نفسَهُ مُتهماً في جريمةٍ أخرَى هي إهانةُ السلطةِ القضائيةِ. وبعدَ ذلكَ طلبَ النائبُ العامُّ المستشارُ عبد المجيد محمود من الإنتربولِ الدوليِّ القبضَ على أحمد شفيق وتسليمَهُ لمصرَ، ليستمرَّ الفريقُ شفيق في الخارجِ، ويدفعَهُ هذا إلى الدخولِ في المعركةِ التي فُرضتْ عليه، دونَ رغبةٍ منه، ليكونَ الطعنُ في وقتٍ لاحقٍ بتزويرِ الانتخاباتِ الرئاسيةِ، وادّعاءُ فوزِهِ!

وقد تبدُو القضيةُ خاصةً بمواجهةِ الفسادِ، فمن يمكنُ أنْ يتواطأَ ضدَّ كشفِهِ؟ لكنْ هل أرضُ الطيارينَ هي وحدَها التي تمَّ اغتصابُها على مدى الثلاثينَ سنةً الأخيرةِ وبِيعتْ لأصحابِ القسمةِ والنصيبِ بترابِ الفلوسِ؟

ثم أليسَ من العبثِ أنْ يكونَ كلُّ الاتهامِ الذي وُجِّهَ لشفيق هو أنَّه سهّلَ لآخرينَ ولم يسهّلْ لنفسِهِ؟ وهذانِ الآخرانِ ليسا من عوامِ الناسِ، فمنْ يمكنُهُ أنْ يقفَ أمامَهما وقتَ التخصيصِ؟.

وهذه القضيةُ، لا تقلُّ عن الفسادِ السياسيِّ بتمكينِ جمال مبارك والحزبِ الوطنيِّ من قاعاتِ جامعةِ القاهرةِ، فلماذا يُعينُ من فعلَ هذا مُحافظاً، فكيفَ لهُ أنْ يرفضَ طلباً للحزبِ أو لنجلِ الرئيسِ، فتمَّ التماسُ العذرِ لهُ، وهو العذرُ الذي لمْ يُلتمَسْ لشفيق في حالِ أنْ صحَّ الاتهامُ بأنَّه مكّنَ نجلَي مبارك من مساحةٍ فوقَ المخصصةِ لهما!

لقد صدرَ الحكمُ بالبراءةِ في ديسمبر 2013، وجاءَ في حيثياتِهِ أنَّه لمْ يُخصَصْ للعضوِ بجمعيةِ الطيارينَ مساحةٌ محددةٌ، وأنَّ المساحةَ المقررةَ لعلاء وجمال مبارك كانتْ 30 ألفَ مترٍ، في حينِ أنَّه بقياسِها تبيّنَ أنّها 40 ألفَ مترٍ، ومما ينفِي القصدَ الجنائيَّ أنَّه تمَّ تسجيلُ الأرضِ بالمساحةِ الفعليةِ، ما يجعلُ القضيةَ تقعُ في دائرةِ المخالفةِ الماليةِ.

فهلْ كانَ لابدَّ من هذه المعركةِ، التي دفعتْ بأحمد شفيق لمغادرةِ مصرَ، لتحتويَهُ الدوائرُ المضادةُ في الإقليمِ بعدَ ذلكَ وتستغلَّهُ في معركةٍ لم يكنْ هناكَ ما يبررُّها.

وماهو الخطرُ الذي كانَ يمثلُهُ أحمد شفيق، وهو لم يدعُ للتظاهرِ يومَ 24 أغسطس، وقَبلَ بنتيجةِ الانتخاباتِ؟!

إنَّها حالةُ الاسترخاءِ التي كانتْ سبباً في تجاهلِ تحدياتٍ كُبرى، والدخولِ في معاركَ لا معنَى لهَا.

كانت نتيجةُ الإطاحةِ بطنطاوي، وإنهاءِ ازدواجيةِ الحكمِ، أنَّ دوائرَ في الدولةِ العميقةِ بدتْ مستعدةً لفعلِ أيِ شيءٍ للحصولِ على رضا السلطةِ!

فالنائبُ العامُّ، أحالَ البلاغاتِ إلى قاضِي تحقيقٍ ولم يقصّرْ في إعلانِ إدانةِ شفيق، ووضعِهِ على قوائمِ ترقُّبِ الوصولِ!

والنائبُ العامُّ أيضاً هو مَن طلبَ من الإنتربولِ الدوليِّ القبضَ على أحمد شفيق، رغمَ أنَّ هذا النائبَ العامَّ محسوبٌ على مبارك، ومع هذا استُهدفَ بالعزلِ، ليتحوّلَ إلى بطلٍ!

فتأتِي الرياحُ بما لا تشتهِي السفنُ، كما سنوضّحُ في الحلْقةِ التاليةِ.

لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثانية يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثالثة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الرابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الخامسة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السادسة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثامنة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة التاسعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة العاشرة يرجى الضغط هنا
المصدر : الجزيرة مباشر