جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية.. المخابرات في بيتنا (4)

أحد موظفي جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية أثناء تنصته شخصيات مستهدفة

لم يكن جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية (شتازي) على عجلة من أمره للتخلص من معارضيه.

فقد كان الجهاز يملك من الصبر وطول النفس، ما يجعله يخصص لعملية مراقبة الهدف شهورا مطولة، ريثما يتم وضع السيناريو الأنسب لعملية “التحليل” الخاصة به، أما العملية نفسها فقد كانت تستمر لسنوات.

وكانت “الفردانية” هي كلمة السر في عملية “التحليل”، حيث لم يكن ثمة إجراءات موحدة تطبق على جميع الأهداف، بل اعتُبر كل فرد حالة مستقلة بذاتها، يجب دراستها باستفاضة، لاكتشاف نقاط ضعفه، ويُترك بعد ذلك اختيارُ الطريقة المناسبة “لتحليله” لتقديرِ موظف المخابرات المسؤول، والتي لا يصح تطبيقها على أي فرد آخر، فكلما كانت عملية “التحليل” أكثر فردانية كانت أكثر نجاحا وأقل إثارة للشبهات.

أهمية تقسيم المهام

يبدأ الأمر بأشهر من المراقبة المتأنية، التي تتطلب تدخل الكثير من موظفي الشتازي الرسميين بمهاراتهم الاحترافية، بينما يتم السعي بالتوازي لتجنيد الأشخاص المحيطين بالهدف، ليصبحوا موظفين غير رسميين لدى الجهاز، وكل ذلك يترافق مع تقارير ترفع باستمرار للمسؤولين، لمراقبة سير الخطة.

وكانت أعداد قليلة فقط من المسؤولين، هي التي تملك الوصول إلى جميع المعلومات المتعلقة بخطط “التحليل”، أما الموظفون الرسميون الصغار، الذين يتولون المراقبة والتنصت، واقتحام المنازل، وتخريب الممتلكات، ودس الرسائل، وغير ذلك من الإجراءات، فقد كانت توكل إليهم المهام بشكل جزئي، وغالبا دون أن يكونوا على علم بهوية الشخص الذي يقومون بالتدخل في حياته. وكان للشتازي من هذا التقسيم الدقيق والمحكم للمهام غايتان رئيسيتان:

  • أولهما: ألا يشكل توقف أي من الموظفين عن العمل، لأي سبب كان، خطرا على سير الخطة، لأن مقدار ما يعرفه من المعلومات سيكون ضئيلا للغاية، كما أن استبداله بشخص آخر يقوم بعمله الجزئي سيكون أيضا سهلا جدا.
  • وثانيهما: وهي الأهم، ألا يسمح الشتازي بحصول أي نوع من أنواع التعاطف الإنساني بين موظف الأمن والضحية الهدف، بل يجب أن تبقى نظرة الموظف للضحية، على أنه مجرد “مهمة عمل” فقط، ولذا لم يكن أي موظف يعرف عن الشخص الهدف إلا القليل، الذي لا يعرفه غيره وهذا ينطبق على الجميع، بينما تكتمل الصورة عند المسؤولين الكبار متحجري القلوب فقط، الذين لم يكن لديهم أي مانع، من مشاهدة حياة إنسان تتعرض للتدمير البطيء، بأمر منهم وأمام أعينهم، حتى لو انتهى الأمر إلى دفع الضحية للانتحار.
صورة لأجهزة المراقبة التي كان يستخدمها جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية
جمع المعلومات

كانت عمليات الاقتحام السري للمنازل، وتصوير كل التفاصيل بداخلها، والتركيب الاحترافي لأجهزة التنصت في مقابس الكهرباء، ووضع الكاميرات المخفية، والتجسس على الهواتف وصندوق البريد، والاطلاع على الملفات المالية والطبية للضحية، ومراقبته بلا انقطاع من قبل الموظفين الرسميين، وجمع المعلومات عنه من معارفه بشكل غير لافت للنظر، كل ذلك كان يكفل التعرف على الضحية بأدق صورة ممكنة.

ولم يكن ثمة أي  معلومة غير مهمة بالنسبة للشتازي، فأي معلومة مهما بدت سخيفة قد تخدم في عملية “التحليل” أو تكون مفتاحا لها، كمواعيد طعام الهدف، وذوقه في النساء، وعادات نومه، وجدول مواعيده، ونقشة ملابسه الداخلية، وعناوين الكتب التي يملكها، ولون الحبر الذي يستخدمه في آلته الكاتبة.

كما كانت تتم الاستعانة أيضا بمخابرات دول الكتلة الشرقية، وعناصر الشتازي في ألمانيا الغربية، لمتابعة عمليات التجسس و”التحليل” خارج البلاد.

وترفع كل هذه المعلومات على شكل تقارير مفصلة، مرفقة بالتسجيلات والصور، وذلك لدراسة الهدف، والبحث عن نقاط الضعف فيه، وعند اكتشاف أي منها، كالإصابة باضطرابات نفسية معينة، أو الإدمان على الكحول، أو الميول الجنسية الشاذة، أو الاهتمامات الإباحية، أو الشروخ في العلاقات الزوجية، أو الإدمان الدوائي وغيرها، يتم استغلال هذه النقاط في مهاجمة الضحية والبدء بعملية “تحليلها”.

وكان التخطيط لعمليات “التحليل” وإدارتها، يتم في أقسام وزارة أمن الدولة، وبشكل خاص في القسم الرئيسي في برلين، المسمى إذ ذاك XX، بينما التدريب على اقتحام المنازل السري، وتصنيف وتصوير الأدلة، والمراقبة الاحترافية الصبورة، فقد كان يتم في كلية وزارة أمن الدولة في مدينة بوتسدام، بمساعدة فيديوهات تعليمية تم نشرها للعلن لاحقا بعد انهيار جدار برلين، وهي موجودة الآن على منصة يوتيوب، حيث تترك مشاهدتُها إلى جانب الشعور بالذهول، انطباعاً راسخاً بمدى جدية جهاز شتازي ودقته في عملية مراقبة أهدافه.

شهادات الضحايا

يروي العديد من الضحايا السابقين، الإجراءات التي تعرضوا لها من قبل الشتازي، في الفيلم الوثائقي الألماني “عملية التحليل- إرهاب الشتازي” حيث تتحدث الناشطة السياسية أولريكا بوبِّه عن عدم تورع الشتازي حتى عن القيام بتحرشات يومية صغيرة، بهدف زيادة الضغط عليها، حيث كان عناصره يقومون بتفريغ عجلات دراجتها الهوائية، في كل مرة كانت تخرج بها من السوبر ماركت محملة بالأكياس الثقيلة برفقة أطفالها، الأمر الذي بدا من الصعب جدا التنبؤ بأن يكون للشتازي دور به، فضلا عن التصريح بذلك للآخرين.

كما روى أصدقاء الطبيبة والناشطة السلمية كارين ريتر، التي كانت تكتب لصالح إحدى الصحف، تفاصيل ما فعلته الشتازي معها، والذي انتهى بها إلى الانتحار، حيث تم إعاقة انضمامها لأي من دورات التدريب على الآلة الكاتبة التي تقدمت لها، بشكل أصابها بالحيرة، كما كانت تُرفض دوما في مقابلات العمل، دون إبداء أي سبب، حتى بدأت الشك بنفسها وقدراتها، إلى أن وجدت عملا في إحدى المشافي التابعة للكنيسة، حيث تم ممارسة التنمر عليها، والتشكيك بكفاءتها المهنية، وتغيير مواعيد مناوباتها دون علم منها، لضمان تغيبها عن عملها، وذلك بتدبير من إحدى زميلاتها في المشفى، والتي كانت تعمل كموظفة غير رسمية لدى الشتازي.

كما تم استغلال تعرض الطبيبة السابقة لنوبات من الاكتئاب، في تصعيد حالتها المرضية، للدرجة التي جعلتها تنعزل تماما عن كل أصدقائها، الأمر الذي ترافق مع اقتحامات متكررة لموظفي الشتازي لمنزلها لتغيير أماكن الأثاث، وإنزال اللوحات عن الجدران، وتبديل عبوات السكر والشاي في المطبخ، وغير ذلك من الأفعال الصغيرة، التي أفقدتها ثقتها بالعالم من حولها، وقادتها في النهاية إلى الانتحار.

ولكن إحدى أكثر الطرق المفضلة لدى الشتازي، والتي أثبتت جدارتها دوما، هي تشويه سمعة الهدف، والنيل من مكانته في المجتمع، والتي وصفت في كتيب التعليمات 1/76 على النحو التالي “تشويه السمعة المنظم، وسلب الفرد احترامه ومكانته في المجتمع بناء على أرضية متينة من الوقائع المزيفة المسببة للفضيحة، لكنها قابلة للتصديق بشدة، بحيث تكون مترابطة يمكن إثباتها ولا يمكن تفنيدها”.

 وفي الفيلم الوثائقي المذكور نفسه، يروي القس ماركوس ميكيل، أحد الناشطين ضد نظام الحكم آنذاك، كيف تم التقاط صور فاضحة له، أثناء سباحته في بحيرة معزولة، ونشرها في كل مكان، بهدف النيل من سمعته، وهز احترامه أمام الناس، بالإضافة إلى إرسال رسائل غرامية فاضحة له، لتخريب علاقته بزوجته، حيث إن تدمير الزيجات والصداقات، والتلاعب بالروابط الأسرية، كان وسيلة ذات شأن، تساهم في عزل الهدف عن محيطه أثناء عملية “تحليله”، وكانت تستخدم لأجل ذلك رسائل مغفلة الاسم، أو برقيات واتصالات هاتفية مزيفة، أو صور متلاعب بها، وأحيانا كان يُوظف لهذا الغرض من يعرفون بالعملاء “روميو” والعميلات “فينوس”.

وقد ساعد وقوع كل منشآت ومؤسسات الدولة العامة والخاصة، تحت عين وسيطرة الشتازي، في تنفيذ عمليات “التحليل”، فمن الكنائس والمؤسسات الثقافية والإعلامية، إلى الكتل الحزبية، إلى التنظيمات المجتمعية، والمؤسسات العلمية، والنوادي الرياضية، وشركات الإسكان، وصولا إلى البنوك، والمؤسسات الصحية، كانت جميعها واقعة تحت سيطرة جهاز الشتازي، حيث يوجد في كل مؤسسة ومنشأة، عملاء وموظفون غير رسميين، تستطيع الشتازي من خلالهم، التلاعب بحياة الأفراد بشكل سري، كفصلهم من النوادي، أو تدبير مكائد لهم في العمل، أو تطبيق عقوبات جماعية عليهم، أو اعتقالهم من قبل أجهزة الشرطة بتهم مدبرة، أو عدم منحهم أذونات السفر، أو تحديد حركة الشخص، واستنزاف وقته من خلال نقله إلى مكان عمل بعيد، وصولا حتى إلى تشخيص أمراض غير موجودة، ووصف العلاج الخاطئ بهدف التسبب بمشاكل صحية للهدف.

وسيتناول التقرير التالي تطبيق عملية “التحليل” على الجماعات وعلى الأفراد أثناء الاعتقال.

الحلقة الأولى

مخابرات ألمانيا الشرقية: حقبة سوداء ودهاء شيطاني

الحلقة الثانية

مخابرات ألمانيا الشرقية.. تحويل العمل “القذر” إلى علم أكاديمي

الحلقة الثالثة

في دولة المخابرات.. الكل عدو الكل (3)

قامت بإعداد المادة: ديما مصطفى سكران
المصدر : الجزيرة مباشر