العسكر والدستور في تركيا (1)

مصطفى كمال أتاتورك

*سامي كمال الدين
عرف التاريخ الإسلامي الأتراك غزاة ومجاهدين في سبيل نشر الإسلام بداية من الدولة العباسية وانتهاء بالدولة العثمانية.

فقد أبلى الأتراك بلاءً حسنًا في الحروب وفتحوا البلاد والأمصار ورفعوا راية الإسلام فوق مساحة شاسعة من أراضي أوربا وآسيا.

هكذا ينظر الدكتور طارق عبد الجليل للأتراك من خلال مؤلفه “العسكر والدستور في تركيا من القبضة الحديدية إلى دستور بلا عسكر”، الصادر عن دار نهضة مصر، والذي تناول فيه التجارب المريرة التي عاشتها الدولة التركية الحديثة حتى وصلت إلى اتفاق ” العسكر يحمي الدستور.. والدستور يحمي العسكر، فقد حدث الانقلاب العسكري الأول عام ١٩٠٨، وهو الانقلاب الذي أعلن الدستور العثماني في نفس العام، وقضى على السلطان عبد الحميد الثاني، ليتولى الحكم ضباط جمعية الاتحاد والترقي، الذين دفعوا الدولة العثمانية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى لتنتهي بعدها.

وعلى الرغم من ذلك فإن الجيش التركي امتاز بصفات رئيسية ثلاث “أنه لم يكن جيشًا أجيرًا؛ بل كان القوة الدفاعية الطبيعية عن الوطن. وكان يتشكل في معظمه من الفرسان، أما المشاة فكانوا قليلي العدد. كما أن الجيوش التركية كانت جيوشًا دائمة، فقد كان كل من يمكنه حمل السلاح من رجل أو امرأة، شابا أو شيخا، في حال تأهب للحرب، وذلك هو نمط الحياة في السهوب. حتى إن ممارسة الترك للرياضة، ولهوهم، وصيدهم كان يحمل في مضمونه صيغة التدريب العسكري”.

مع مجيء حركة الضباط ومصطفى كمال أتاتورك لخص السلطة العسكرية في ثلاثة مقولات رئيسية ربطتها بشكل كبير بالحياة السياسية، وأثرت عليها وهي:

  • الوظيفة الأساسية لرئيس قيادة الأركان ليست بحث الوضع العسكري فحسب، بل هي في الوقت ذاته وضع الاستراتيجيات.
  • التشكيلات العسكرية ينبغي أن تكون على علاقة جيدة بشؤون السياسة الداخلية والخارجية قدر علاقتها بالشؤون العسكرية، وينبغي أن يطلع رئيس الأركان على هذه الشؤون السياسية.
  • وظيفة رئيس الأركان التفكير بشكل فني في تشكيل الجيش ونظامه. ورئيس الأركان يفكر في كيفية الحرب وكيفية الدفاع عن الوطن وما يلزم عمله للإعداد لها.

وهذه المقولات ربطت العسكر بالسياسة، والسياسة بالعسكر بشكل مباشر ومتداخل، وهو ما حدث فعليا في حرب الاستقلال، وسمي نموذج إدارة الحرب، ليتشكل منه بعد ذلك مفهوم الإدارة السياسية، وعلاقات الدولة والسياسة، والجيش والسياسة، ليوضع بعد ذلك في الدستور. ليجيء خطاب أتاتورك في مجلس النواب تاريخ ١ مايو ١٩٢٠ جاعلًا من الأركان العامة مركز القرار السياسي الداخلي والخارجي بشكل مباشر، وجعل دستور ١٩٢١ من أتاتورك القائد العسكري العام، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء أو ما سمي هيئة الوكلاء التنفيذيين، ليجمع أتاتورك بين السلطتين العسكرية والسياسية في قبضة واحدة.

“يمكن تقسيم الجيش في العملية السياسية في عهد أتاتورك (١٩٢٣-١٩٣٨) إلى مرحلتين، المرحلة الأولى (١٩٢٣-١٩٢٧) وهي المرحلة التي مارس فيها أتاتورك ورفاقه العسكريون بالمشاركة مع النخبة السياسية الكمالية مؤامرات سياسية، وممارسات ديكتاتورية كان المقصد منها احتواء النخب السياسية المعارضة في صفوفهم أو بإقصائهم بشكل تام عن العملية السياسية، ومن ثم اضطلع الجيش خلال تلك المرحلة بمهمة القوة الداعمة للثورة الكمالية. وأما المرحلة الثانية (١٩٢٧-١٩٣٨) لقد أولى فيها الجيش اهتمامه لتنظيم الداخل العسكري، وترسيخ وضعيته القانونية، وبات يمثل القوة الحارسة للنظام الكمالي”.

رغم أن أتاتورك هو القائد العسكري العام، فإنه سعى لتأسيس “حزب الشعب” ليحصل منه على إرادة سياسية قوية تدعمه داخل المجلس، بعد ضمانه ولاء الجيش بصفته القائد العام للقوات المسلحة، ومن ثم أصبح رئيسًا للحزب الوحيد في الدولة، صاحب الأغلبية في البرلمان، وحظي العسكريون فيه بنسبة 20٪ من مجموع نوابه الأغلبية، ليصبح قادة الجيوش والفرق العسكرية جميعهم نوابًا في المجلس.

في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 1923 أعلن أتاتورك أمام مجلس النواب أن المجلس يعاني أزمة دستورية بسبب الخلط القائم بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، وأن الحل يستوجب إعلان الجمهورية. مما أدى إلى أن يصادق المجلس على إعلان الجمهورية، وفي نفس اليوم تم انتخاب أتاتورك رئيسًا للجمهورية.

في العام 1924 عقدت جلسات داخل البرلمان لمناقشة المادة رقم 40 التي تنص على تنظيم القيادة العامة للجيش “إن القيادة العامة لكافة القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية في عهدة رئيس الجمهورية”.

حدث خلاف كبير بين أتاتورك والنواب الذين استقالوا من الخدمة العسكرية، وقالوا إن أتاتورك يسعى إلى الهيمنة على الجيش بقوة الدستور إلى جانب هيمنته على السياسة. لكن الخلاف لم يؤدِ إلى شيء، فقد تم التصديق على المادة 40 على النحو التالي “القيادة العامة مندمجة في الشخصية المعنوية لمجلس الأمة التركي الكبير(النواب)، ويمثلها رئيس الجمهورية. وسلطة القيادة العسكرية في زمن السلم موكلة إلى رئاسة الأركان، وفي فترة الحرب موكلة إلى رئيس الجمهورية”.

لعب المشير فوزي جاقمق رئيس الأركان ورئيس الوزراء عصمت إينونو إلى جانب رئيس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك أهم الأدوار الخاصة بإدارة الجمهورية التركية خلال أعوامها الأولى، فقد “حظي أتاتورك بكافة السلطات السياسية، وتحكم رئيس الوزراء عصمت إينونو في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، واستأثر رئيس الأركان المشير فوزي جاقمق بالسلطة المطلقة على الجيش”.

في الفترة ما بين 1926 و1938 بلغ متوسط نسبة الإنفاق العسكري 30% من ميزانية الدولة، وكان مجلس النواب يوافق على الميزانية دون نقاش، بل إن ميزانية القوات المسلحة كانت بعيدة تماما عن رقابة البرلمان أو إشرافه عليها. ولم ينته الأمر عند ذلك، فقد تأسس مجلس الدفاع الأعلى بموجب القانون رقم 1443 لسنة 1933 وتألف من رئيس الوزراء ورئيس الأركان، وأعضاء مجلس الوزراء، ولرئيس الجمهورية أن يتولى رئاسته عند رغبته في ذلك، وكان هدف المجلس خلق شراكة في السلطة بين العسكريين والمدنيين، والذي تشكل منه بعد ذلك مجلس الدفاع الأعلى.

وفي 18 من يونيو/حزيران 1935 صدر القانون رقم 2771 بشأن المهمات الداخلية للجيش، وجاءت المادة 34 منه محددة لوظيفة ودور ومهمة الجيش “إن وظيفة الجيش هي حماية وصون الوطن التركي والجمهورية التركية المعينة في الدستور”.

وبهذه المادة أصبح الجيش هو الضمانة الأساسية لبقاء النظام الجمهوري ومبادئ الفكر الأتاتوركي، وفي العام 1961 تحول هذا النص إلى مادة دستورية في دستور 1961 بعد الانقلاب العسكري في 27 مايو 1960.

توفي أتاتورك في 10 من نوفمبر/تشرين الثاني 1938 ليعقد البرلمان ليلة وفاة أتاتورك اجتماعًا طارئًا لانتخاب رئيس للجمهورية، حسب الدستور، وفاز عصمت إينوتو عن طريق الاقتراع السري الحر بمجموع 322 صوتًا من 323 صوتًا، وذهب الصوت الأخير لجلال بايار رئيس الوزراء “ولعل ما منح عصمت إينونو وضعية المرشح الأوحد لرئاسة الجمهورية عام 1938 نفوذه داخل المؤسسة العسكرية والبيروقراطية المدنية وليس البرلمان”.

لقد فرض الجيش عصمت إينونو على البرلمان لترشيحه لرئاسة الجمهورية، من خلال الفريق فخر الدين ألطاي قائد الجيش الأول، بل صبيحة يوم إجراء انتخاب عصمت إينونو جاء الفريق ألطاي وعدد من فيالق الجيش ، والتفوا حول مبنى البرلمان.

نواصل..

——
* كاتب صحفي مصري
المصدر : الجزيرة مباشر