“البوتس” صناعة الوهم (4) خاشقجي.. الكلمات المخنوقة

اختنق جمال خاشقجي قبل اغتياله مراتٍ عدة؛ كان يستيقظ، في منفاه الاختياري بواشنطن، كل صباح، ليقرأ تغريدات رفاق الأمس، وقد شحذوا سكاكينهم، وحفروا قبره قبل رحيله.

تحقيق: أحمد راوي

رأوا فيه “الإخواني” الذي كان “قاعدياً”، صديقاً حميماً لابن لادن، وجاء من يذكرهم بأن الراحل كان، أيضاً، ليبرالياً شجّعَ صحفيين وكتاباً على نقد السلفية ورموزها، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين رأس تحرير جريدة الوطن السعودية، لفترتين، أولاهما كانت عام 2004 واستمرت زهاء 50 يوماً، والأخرى بدأت في ربيع 2007 ومضت تثير الجدل، وتُبشر بصحافة مختلفة، حتى يومها الأخير في منتصف مايو 2010. اختلاف خاشقجي كان عنواناً لمقاله الأخير في صحيفة الحياة اللندنية، قبل أن يغادر جدة، باتجاه العاصمة الأمريكية.

نُشر المقال في 7 سبتمبر 2017،وحمل عنوان: “أنا سعودي ولكن مختلف”؛ روى خاشقجي فيه ذكرياته عن ملحقٍ نشرته الوطن عام 2009، إبان رئاسته تحرير الصحيفة، أظهر تعدد هويات كُتّاب الرأي، وأراد أن يؤسس لحالة من التصالح مع الهويات الصغرى في السعودية، بعيداً عن لغة الإقصاء، التي كانت سبباً رئيساً في خروجه من البلاد، واختياره صحيفة “واشنطن بوست” وجهة عالمية لكلماته التي ملّت مقصات الرقيب، وضاق بها العهد الجديد الذي منعه من كتابة مقاله الأسبوعي، وأمره بالابتعاد عن “تويتر” لتسعة أشهر بين عامي 2016 – 2017.

عاد خاشقجي إلى التغريد من العاصمة الأمريكية، في 13 أغسطس 2017، وظنّ متابعون كُثر أن عودته نتاج صفقة تخلى الكاتب فيها عن حريته، فجاء مقال “الحياة” الأخير، ثم منعه ثانية من الكتابة في الصحافة المحلية، ليؤكد أن هامش الحرية الذي أُتيح للكُتاب في سنوات خلَت، يضيق بخاشقجي ورفاقه يوماً إثر آخر، وأن إطلالة الكاتب الجديدة، عبر صفحات “واشنطن بوست”، في 18 سبتمبر 2017، ستأذن بهجومٍ شرسٍ عليه، جمع التخوين والسخرية والمطالبة بسحب جنسيته، بطريقةٍ ممنهجة، شهدها حسابه على “تويتر”.

خاشقجي بعد التحاقه بـ”واشنطن بوست” ليس هو قبلها. دخل في دائرة أعداء ولي العهد السعودي، وأضحى هدفاً يومياً لتغريدات جيش ابن سلمان الإلكتروني، الذي لا يتورع عن استخدام أقذع الألفاظ في سبيل إخلاء “تويتر” من أي صوت ناقد لمشروع ابن سلمان، ورؤيته، التي أيدها خاشقجي في البداية، ثم سرعان ما تبيّن له عدم واقعيتها، وأن الواقع على الأرض، لا يُبنى بالرؤى وحدها، وبزج المعارضين في السجون.

لم يكن السجن أحبّ إلى خاشقجي من المنفى، ولم يغفر له فريق ابن سلمان أنه يكتب في صحيفة أمريكية، أشاعت عن العهد السعودي الجديد صورةً قمعية، كانت شركات العلاقات العامة الغربية المتعاقدة مع الحكومة السعودية تجتهد لنشر سواها.

“تويتر” كان مسرح المواجهة بين مؤيدي ابن سلمان وخاشقجي. فمنذ أن أدركت بعض الأنظمة العربية أن السيطرة على “تويتر”هو البوابة الرئيسة للإمساك بخيوط “الضبط الاجتماعي”، بدا أن الجيوش الإلكترونية الحكومية لا يُمكن أن تسمح بنقاشٍ حقيقي للموضوعات التي تشغل الرأي العام في بلدانها؛ ومن هنا جاء القرار بتشويه صورة النشاط الحقوقي وربطه إما بمنظمات أجنبية، أو دولٍ مُعادية.

مُعارضة خاشقجي لقبضة العهد السعودي الجديد الأمنية تزامنت مع الحصار على قطر، وهو ما أعطى مُنتقديه فرصة لوضعه في موقفٍ لم يرضَ عنه. ولأن خاشقجي كان يعرف، منذ خطوته المُعارِضة الأولى، أنه قد يكون مادة للاستقطابات الحادة في المنطقة، سعى جاهداً للنأي بنفسه عنها، وأراد أن يكون وجهاً للمطالبة بالحقوق المشروعة في العالم العربي. ولتحقيق ذلك، عَمِل على مشروعين رأى فيهما ضوءاً يمكن أن يخرج بلاده والعالم العربي من نفق الاستبداد.

اتصل الأول بالمنصة التي لطالما تلقى تهديدات عليها، وبذل مغردون جهوداً حثيثة لتقزيم قامته عليها: تويتر. دعْمُ مشروع “النحل الإلكتروني” جرّ عليه غضب المغردين الدائرين في فلك ابن سلمان.

فمنذ أن غرّد في وسم #وش[ماذا]_تعرف_عن_النحل ، في 21 سبتمبر 2018، ممتدحاً وطنية “النحل”، ومُقدماً دعمه لهذا المشروع الذي يقوم عليه المُعارض السعودي عمر بن عبدالعزيز، تبيّن للحكومة السعودية أن خاشقجي انتقل من حيّزه الصحفي، إلى دائرة المواجهة عبر مشاريع إلكترونية من شأنها الرد على الرسائل الحكومية “المُتنمرة” بخطاب عقلاني وعلى صلة يومية بتحديات العيش في السعودية.

قبل هذه التغريدة بشهر، حذرت مجموعة بحثية بجامعة تورنتو الكندية المُعارض عمر بن عبدالعزيز من أن هاتفه النقال قد يكون مُخترقاً؛ ثم عادت بعد هذا التحذير بأسبوعين لتؤكد له أن الحكومة السعودية، بالفعل، وراء هذا الاختراق.

ما صلة هذا بازدياد نقمة الحكومة السعودية على خاشقجي؟

هاتف ابن عبدالعزيز النقال المُخترق احتوى على رسائل متبادلة مع خاشقجي بشأن مشروع “النحل الإلكتروني”، إذ انتقل خاشقجي من دعمه المعنوي لهذا المشروع على “تويتر”، إلى المساهمة المادية فيه بـ 5 آلاف دولار أمرييكي، بحسب ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 2 ديسمبر 2018.

المشروع الثاني هَدفَ إلى جمع ناشطي الربيع العربي، ومناصري الدعوات الديموقراطية في المنطقة، تحت مظلة مؤسسية واحدة أسماها خاشقجي ” الديموقراطية للعالم العربي الآن”. اسم المنظمة، لوحده، شكل خطراً على مسار “الثورات المُضادة” المدعوم من الحكومتين السعودية والإماراتية.

أُريد لهذين المشروعيْن أن ينتهيا، واختار فريق ابن سلمان أن يكون “تويتر” إحدى هذه الجبهات.

فريق “الجزيرة” أجرى دراسة شملت أكثر من 800 ألف تغريدة، نُشرت بين 1 أكتوبر 2018 و 3 مارس 2019. الدراسة أظهرت تكراراً مُنظماً من الحسابات المؤيدة لفريق ابن سلمان الحاكم لنزع النزاهة عن جهود خاشقجي الإصلاحية، ونمواً كبيراً في حسابات “روبوتات الإنترنت”، البوتس، التي أُنشئت في أكتوبر 2018؛ الشهر الذي اُغتيل في اليوم الثاني منه خاشقجي على إيدي فريق الاغتيالات المُرسل من الرياض لتنفيذ مهمته في القنصلية السعودية بإسطنبول التركيّة.

المُلاحظ، في التغريدات التي شاركت في الوسوم التي تناولت أنباء اختفاء خاشقجي، أنها أرادت إبعاد أي مصلحة للحكومة السعودية في اختفائه، واتهام أطراف أخرى، تناصبها الحكومة السعودية العداء، مثل قطر وتركيا وجماعة “الإخوان المسلمين”.أضف إلى ذلك أن “الشكوك” التي تعمدت حسابات مؤيدة لابن سلمان إشاعتها، حول مصير خاشقجي قبل إعلان نبأ اغتياله، ذكَّرت إليكسي إبراهامز، الباحث في الصراعات المدنية في الشرق الأوسط بجامعة تورنتو، في حديثه إلى “الجزيرة” بـكتابٍ عن الدعاية الروسيّة عنوانه: “لا شيء حقيقياً، كل شيء ممكن”. يقول إبراهامز: ” من أهداف الدعاية ((Propaganda بحسب الكتاب، في مراحلٍ ما، ليس أن تقنعك، بل أن تثير فيك حالة من الشك”.

حالة الشك هذه، مع قدر من العنف تجاه من اتهم السلطات السعودية بإخفاء جمال خاشقجي أو اغتياله، تركزت، بحسب دراسة “الجزيرة” في حسابات مُغذية (( Feeder Accounts للــ”بوتس”، أبرزها حساب @monther72، للسعودي منذر آل الشيخ مبارك.

هذا الحساب تخصصت تغريداته في نقل الرواية الرسمية السعودية لأي حدث، والدفاع عنها. إعادة تغريد ما صدر عن هذا الحساب من قِبل “البوتس”، حول قضية خاشقجي، في أيامها الأولى، بدا ضرورةً لمديري حسابات “البوتس”، المستفيدين من إيصال الرسالة إلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي “تويتر”، خاصة أن هذه التغريدات قصدت إلقاء كرة الاتهام في ملاعب أخرى، وصرف الأنظار عن تورط فريق ابن سلمان الحاكم. الحساب ذاته، أنشأ وسماً في عزّ أزمة خاشقجي، يُدافع فيه عن ابن سلمان قبل تأكيد الاغتيال رسمياً، أسماه #رسالة_حب_لمحمد_بن_سلمان.

حساب @amjad25، لأمجد طه،الرئيس الإقليمي للـ”مركز البريطاني لدراسات الشرق الأوسط” في المملكة المتحدة، كان من بين الحسابات المتصدرة التي غذت “البوتس” قبل اغتيال خاشقجي وبعده؛ طه وصف، في إحدى تغريداته بداية 2019، سعود القحطاني، المتهم الرئيس بالتخطيط لاغتيال جمال خاشقجي، بالبطل، وبرّأ متهماً آخر، وهو نائب رئيس الاستخبارات السعودية، من المشاركة في عملية الاغتيال، وقال بأن المسؤول الاستخباراتي المُقال، “خُدع من القائد الميداني” للعملية.

د. علي النعيمي، رئيس تحرير موقع بوابة العين الإخبارية الإماراتي، ورئيس مجلس إدارة مركز “هداية” لمكافحة التطرف، و الرئيس الأعلى لـ”جامعة الإمارات”. جاء حسابه @Dralnoaimi ضمن الحسابات الأكثر تغذية للـ”بوتس”. لم تكتفِ تغريداته، حول مصير خاشقجي، بتبرئة فريق بن سلمان الحاكم من دم الصحفي الراحل، بل ذهب الموقع الذي يرأس تحريره، في 13 أكتوبر 2018، إلى اتهام قطر وتنظيم القاعدة، واعتبار قضية اختفاء خاشقجي، حينها، “قصة مُختلقة”، بحسب عنوان التقرير المنشور على الموقع، و”حملة مشبوهة” تستهدف الرياض كما جاء في متن التقرير.

هذه الحسابات المُغذية، وغيرها من الحسابات، التي تبنت الرواية الرسمية منذ اليوم الأول في قضية خاشقجي، لم يختلف حالها كثيراً بعد صدور البيان الرسمي السعودي، في 20 أكتوبر 2018، الذي حمّل مجموعة من العسكريين والمسؤولين الرسميين المسؤولية عن قتل جمال خاشقجي. كُل ما في الأمر، أن التغريد انصب على إيجاد مخارج لهذه الأزمة، وادعاء جهل المسؤول بمخططات المُنفذين، والتحذير من تصديق أي وسيلة إعلامية “مُعادية”. وللأسف، فإن هذا المنطق هو ما أجبر جمال خاشقجي على الرحيل إلى منفاه، وأعان المجرمين على اغتياله، وظل الصحفي الراحل يدعو إلى نقيضه، حتى آخر مقالاته بصحيفة “واشنطن بوست”، في 17 أكتوبر 2018، حين قال:” أمسّ ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير”.

المصدر : الجزيرة