البوتس.. صناعة الوهم (3) الأزمة الخليجية.. صيف التضليل الساخن

الحلقة الثالثة “البوتس. صناعة الوهم” تتناول الأزمة الخليجية (2017) ومستويات التضليل المصاحبة لها والوسوم التي انتشر البوتس فيها، إضافة إلى أبرز حسابات تويتر المغذية للحسابات الآلية

تحقيق: أحمد راوي

نسب موقع “إرم نيوز” الإماراتي، في 5 مارس 2017، لجريدة “نيويورك تايمز” ما لم تقله.

الـتقرير الذي نشرته الصحيفة الأمريكية لم يأتِ على ذكر قطر، ولم يتحدث عن علاقة الدوحة بـ “الإخوان المسلمين” وإيران، ولم يُشر إلى أي دور قطري في عرقلة منجزات “عاصفة الحزم”، بل تمحور حول تنظيم القاعدة في اليمن، وما كشفته أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة التي عثر عليها الجيش الأمريكي في غارة على أحد معاقل التنظيم، بينما كان عنوان تقرير الموقع الإخباري الإماراتي: “تسريبات أمريكية تسلط الضوء على الدور القطري في اليمن”!

حدث هذا قبل أن تقطع 4 دول عربية علاقاتها مع قطر بأكثر من 3 أشهر، ثم تفرض حصاراً يستمر إلى يومنا هذا.

تلقف متابعو حساب الموقع الإخباري على “تويتر” التقرير وأعادوا نشره تحت وسوم عدة، من بينها “#قطر_تخون_التحالف”.

لم يكن في المُعلن من التصريحات في الدول العربية الأربع، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ما يُشير إلى موقفٍ رسمي غير مرحب بمشاركة الدوحة في قوات “التحالف العربي” الذي تشكل في مارس 2015، بعد انقلاب الحوثيين على الرئيس اليمني المُنتخب عبدربه منصور هادي.

الحربُ على الأرض في اليمن رافقتها جبهات مُشتعلة على منصات التواصل الاجتماعي، كلُ طرفٍ فيها يدعي وصلاً بالشرعية، ويُظهر زاويةً أخرى من المأساة الإنسانية التي لمّا تزل مستمرةً في اليمن بعد مرور أكثر من 4 سنوات على بدء الحرب.

وبينما كانت معظم الأقلام الخليجية تدعم خطوات “التحالف العربي” المُتخذة لاستعادة الشرعية في صنعاء، لاحظ الباحث مارك أوين جونز، الأستاذ في جامعة إكستر البريطانية، أن “شبكة من حسابات روبوتات الإنترنت، “البوتس”، أُنشئت قبل شهرين من إعلان قطع علاقات العواصم الأربع مع الدوحة، أظهرت في التعريف بها مشاعر مُعادية لقطر ونظامها الحاكم.

هذه الحسابات، حينها، لم تكن نشطة. وحين فُرض الحصار أُعطيت إليها شارة البدء، وصبت مزيداً من الزيت على نار الأزمة.

والملاحظ أن بعضها كان يُلصق بالدوحة ما يُشابه التصريحات المُفبركة التي نُسبت إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ليلة اختراق وكالة الأنباء القطرية، في 24 مايو 2017.

… ثم اشتعل “تويتر”!

الحسابات المؤيدة لقرار قطع العلاقات مع قطر، يرفدها جيشٌ من حسابات “البوتس” التي أُنشئت قبل ليلة الاختراق، استثمرت الأزمة، ومضت تُغرد تحت وسومٍ دارت في فلك التصريحات المفبركة المنسوبة لأمير قطر، متهمةً الدوحة بالتحالف مع إيران، ودعم الإرهاب، وإيواء الجماعات المُتطرفة.

هذه الوسوم ردد كثيرٌ منها مُخرجات القمة الإسلامية العربية الأمريكية التي عُقدت في الرياض، في 22 مايو 2017، واتهم فيها الرئيس الأمريكي ترمب إيران بـ “نشر الفوضى والدمار في المنطقة”.

ومن المُفارقات التي استرعت انتباه جونز، خلال متابعته لدور “تويتر” في توجيه الرأي العام في الخليج، أن حسابات البوتس التي رحبت بزيارة ترمب لحضور “قمة الرياض” هي ذاتها التي اُستخدمت في الهجوم على قطر بعد يومين من نشر بيان القمة الختامي!.

 

فريق “الجزيرة” أجرى دراسة شملت مليوني “تغريدة” بين يونيو/حزيران 2017 وأكتوبر/تشرين أول 2018، جُمعت مما يزيد عن 150 ألف حساب على “تويتر”، وخُلص إلى أن الأزمة الخليجية كانت أرضاً خصبة لشبكات “البوتس” التي غذّت حسابات شخصيات عامة، من سياسيين وإعلاميين ودُعاة، ومؤسسات إعلامية.

هذه الشبكات برزت في وسوم بعينها، وأرادت أن يبدو النقاش الدائر فيها تعبيراً حقيقياً عما يدور على أرض الواقع، إذ التلاعب بالوسوم (الهاشتاقات)، والإيهام بأن أحدها يحظى باهتمام عدد كبير من المغردين، هو أحد أهداف “البوتس”.

يقول إليكسي إبراهامز، الباحث في الصراعات المدنية في الشرق الأوسط بجامعة تورنتو، لـ”الجزيرة”: “يمكننا وصف وسمٍ ما بالفشل إذا كانت أغلبية المغردين فيه من “البوتس”؛ وهذا ما رأيته في وسم #نطالب_باغلاق_قناة_الخنزيرة [الجزيرة]، الذي أُطلق بداية الأزمة الخليجية، وتجاوزت فيه حسابات “البوتس” 70% من إجمالي عدد المغردين؛ في حين نحكم على وسم ما بالنجاح، إذا كانت نسبة الحسابات الحقيقية المُغردِة فيه أعلى من الحسابات الآلية”.

الوسوم التي حلّل “فريق الجزيرة” انتشار”البوتس” فيها، استثمرت كافة المناسبات، وبدا أن بعضها يحوي حسابات آلية مهمتها إما تعكير صفو المناسبة التي اُطلق الوسم من أجلها، أو دعم الوسم بطريقة توحي بأن شعبيته مُستحقة ولا تلاعب فيها.

من بين هذه الوسوم: #الازمة_الخليجية و #علم_قطر و #الملك_سلمان و#أبشروا_بالعز_والخير، و#محمد_بن_زايد.

هناك أمران لا يمكن للدراسة أن تجزم بشأنهما: الموقع الجغرافي الذي اُنشئت حسابات “البوتس” فيه، ومن يقف بالاسم والصفة خلفها. فالحسابات يُمكن أن تكتب موقعها في المعلومات “الشخصية”، لكنّ شيئاً كهذا ليس بالمقدور التأكد من دقته. الأمر ذاته ينطبق على صعوبة معرفة مديري هذه الحسابات الآلية، بينما المهم، كما قال د. كريم درويش، كبير الباحثين في معهد قطر للحوسبة، في حديثه إلى “الجزيرة” هو: “محتوى الرسالة في المقام الأول، والمستفيد من انتشارها على نطاق واسع”.

حسابات “البوتس” التي شملتها الدراسة أظهرت تنوعاً لا يضعها في قالبٍ واحد. فهي تارة تُغرد في كرة القدم، وتارة أخرى تغرد في الحضِّ على ذكر الله، وتارة ثالثة تُغرد في حبِّ مدينةٍ ما، وسترى، أيضاً، من بين هذه الحسابات من يغرد في مديح مسؤول حكومي، لينتقل بعدها إلى نشر محتوىً إباحي.

هذه الطريقة المتنوعة في التغريد ترمي إلى استقطاب مُتابعين يمكنهم لاحقاً أن يقرأوا “التغريدة السياسية” المُنتظرة حين يصدر تصريح رسمي أو يتخذ أحد المسؤولين موقفاً يُراد له الدعم والانتشار.

يُضاف إلى ذلك أن هذه الحسابات، يقول د. درويش: “أخذت في الأزمة الخليجية طابعاً تغلب عليه حدة اللغة. هناك كلمات تنم إما عن الفرح الزائد أو الحزن الشديد، التبجيل المُفرط أو التحقير المتناهي.. اللغة المتطرفة سمة من السمات المشتركة لحسابات الـ”بوتس”.

هناك أيضاً سمة تُميّز تفاعل هذه الحسابات، فهي عادة تعيد التغريد لحسابات بعينها تُسمى: الحسابات المُغذية (Feeder Accounts)”.

أبرز حسابات “تويتر” المُغذية لـ”البوتس” في الأزمة الخليجية هو حساب @fdeet_alnssr لنايف بن عويد، وفقاً لدراسة “الجزيرة”. هذا الحساب لم يكتفِ بنقل الرواية الرسمية السعودية، وكيل المدائح لها في تغريداته، بل ذهب إلى التحريض على كل ناشطٍ لا يتفق مع قرار الحصار على الدوحة.

تخوين المُغردين الذين رأوا في الحصار تقويضاً للبيت الخليجي كان الحاضر الأوضح في تغريدات بن عويد.

فلسفة هذا الحساب قامت، منذ بواكير الأزمة الخليجية، على شيطنة من تعتبرهم الرواية الرسمية أعداء وخارجين على الإجماع الخليجي والإسلامي.

فإنْ كان الخصم “دولة” يجتهد الحساب في نزع شرعيتها وإظهارها بمظهر الذي لا يُمسك بزمام أموره، بل هناك من يتحكم به، ويدفعه في هذا الاتجاه أو ذاك.

أما إذا كان أحد التنظيمات الإسلامية هو الخصم، فالتهمة الأسهل لخلق صورة نمطية سيئة عنه هي: الإرهاب، تماشياً مع النهج الذي رسمه فريق ولي العهد السعودي، الرامي إلى القضاء على مظاهر الصحوة الإسلامية، والنأي بالحكومة السعودية عن أي خطاب إسلامي يُعلي من شأن المشاركة الشعبية في صنع القرار.

ولعل اعتقال الشيخ سلمان العودة، في سبتمبر/أيلول 2017، يأتي في هذا السياق. فالداعية الذي عُرف بخطابه المُعتدل، والنابذ للعنف، والمطالِب بملكية دستورية، سعى مشروعه الفكري إلى أن يكون المواطن فاعلاً في تقرير مصيره، وحُراً في اختيار من يتولى المسؤوليات العامة، وذلك مما حرضت عليه كثير من حسابات “تويتر” المغذية للحسابات الآلية.

الحساب الإخباري@ajelnews24، على تويتر، حلّ في مقدمة الحسابات المُغذية للـ”بوتس”، بما يزيد عن 600 حساب منها. فعلى الرغم من أن الحساب لا يحمل صفة رسمية، إلا أنه يُعتبر منصة إعلامية يُمكن من خلالها معرفة توجهات الحكومة السعودية والرسائل التي تُريد إيصالها للداخل والخارج على حدٍ سواء.

لم يغب عن دراسة “الجزيرة” الأثر الكبير للحسابات الآلية في قائمة متابعي سعود القحطاني، المشرف العام السابق على مركز الدراسات والشؤون الإعلامية بالديوان الملكي السعودي، والعقل المدبر للحملات الإلكترونية التي استهدفت المُغردين المُعارضين للسياسة الإعلامية التصعيدية التي اعتمدها وعممها على وسائل الإعلام السعودية، بعد تولي بن سلمان ولاية العهد.

فمنذ الساعات الأولى للأزمة الخليجية، بدا جلياً أن قرار اختراق وكالة الأنباء القطرية لم يكن بعيداً عن بنات أفكار القحطاني، خاصة أن تحقيقاً نشره موقع “بلينغ كات”، في 26 يونيو/ حزيران 2019، أظهر للمستشار السابق لولي العهد السعودي تاريخاً من الاستعانة بالمخترقين (الهاكرز) لانتهاك خصوصيات مُعارضي الحكومة السعودية منذ 2009. قبل ذلك، نشرت شبكة سي أن أن (CNN) الأمريكية في 4 ديسمبر/كانون أول 2018، حواراً مع المعارض السعودي، المقيم في كندا، عمر بن عبد العزيز، اتهم فيه الحكومة السعودية باختراق هاتفه النقال بتقنيات إسرائيلية، والاطلاع على الرسائل التي تبادلها مع الصحفي الراحل جمال خاشقجي حول مشروع “النحل الإلكتروني”.

المعارض السعودي عمر بن عبد العزيز

المستشار الآخر لولي العهد السعودي، تركي آل الشيخ، هو أيضاً من المُغردين الذين اعتمدت عليهم “الحسابات المُغذية”، بشكل واضح، خاصة أن “تغريدات” حسابه تناولت جوانب مختلفة من الأزمة، تراوحت بين الفني والرياضي والقَبَلي (مطالبة بعض القبائل الممتدة في أنحاء الخليج بالوقوف مع الرياض ضد الدوحة)، وحاولت أن تقنع المتابعين بصواب نهج الحكومة السعودية، بشأن قرار الحصار.

التهديد والتنمر على المغردين الذين أظهروا صوتاً مُغايراً عن المجاميع المؤججة على “تويتر” كانا قاسماً مُشتركاً بين القحطاني وآل الشيخ اللذيْن يُعتقد أنهما ثاني ثلاثة يديرون دفة الحكم السعودية هذه الأيام.

صيف الأزمة الخليجية عام 2017 بدأ ساخناً، وشهد تجاوز محظورات اجتماعية لم يعهدها الخليجيون في خلافاتهم السابقة. منها عُرف “الذباب الإلكتروني”، وفيها ذاع صيت “البوتس” إلى حدِّ أن جاك دوروسي، أحد مؤسسي “تويتر”، اعترف، في حسابه بداية مارس 2018، أنهم غير فخورين بالكيفية التي يستخدم بها مغردون “تويتر” (…)، وبأنهم مازلوا يجتهدون لجعل التواصل على المنصة أكثر صحةً، بعد انتشار جيوش “الذباب الإلكتروني”، وحملات التضليل، والتلاعب باستخدام “البوتس”.

مظاهر اعتلال “تويتر” هذه يعبر عنها كثير من مغردي الخليج الذين يرون أن المنصة أصبحت ساحة لتصفية الحسابات، والاغتيالات المعنويّة، وخلق صورٍ مشوّهة عن مجتمعات لا ذنب لها سوى أن مسؤوليها ليسوا مسؤولين بما فيه الكفاية!

جاك دوروسي، أحد مؤسسي "تويتر"

 

المصدر : الجزيرة