يوم قرأتني

وإذا سرقتني الرواية واضُّطررت إلى إنهائها في ليلة واحدة، يجب أن أعتزل بعدها كل شيء ساعتين في الظلام لأضع كل فكرة في مكانها الصحيح، ولأرتب آرائي في أحداث الرواية.

حدث هذا منذ أكثر من عامين، حين انتهيت من قراءة رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية إليف شفق، وبالمناسبة، كتابة العنوان “الأربعون” بالرفع صحيحة لُغويًا لأنها وصفٌ للقواعد وليس العشق.

خَلُصت منها _وقد كانت من أوائل ما قرأت في الكتابات الروائية في هذا الوقت_ وأنا على يقين من أن معركةً ما _لا أدري كنهَها_ ستقوم بيني وبين كاتب هذه الرواية الذي ظننته رجلًا في البداية.

بعد مرور العام وأكثر أدركت أن المعركة ما قامت إلا بيني وبين نفسي، ذلك لأنني لم أقاوم إيلف أبدًا ولم أقاوم ما كتبته.

فمع انتهاء كل فصل من فصول أيٍّ من الروايات أجد عقلي وقد أبحر في كل فكرةٍ فلسفيةٍ في النص، وتأمَّل كل تصرفٍ صوفيٍ من أحد أفراد الرواية كعادة إيلف لا تخلو رواية لها من أفكار صوفية.

وإذا سرقتني الرواية واضُّطررت إلى إنهائها في ليلة واحدة، يجب أن أعتزل بعدها كل شيء ساعتين في الظلام لأضع كل فكرة في مكانها الصحيح، ولأرتب آرائي في أحداث الرواية، ولأُنظر إلى أفعالي بعين الناقد.. أفعالي التي قام بها أحد شخصيات الرواية، أو في الغالب كل شخصٍ فيها يقوم بتصرف مثلي، لذا أعيد التفكير بهم جميعا.

لديّ قناعة تامة بأن الرواية إن لم تخطِفك من ذاتك في أول فصل، وإن لم تُرغمك على فقدان التركيز بكل شيء إلا بها، فهي ليست مكتوبةً لك! لذا، فقد أنهيت روايتها “لقيطة إسطنبول” في جلسة واحدة!

إيلف شفق، قرأت لها “حليب أسود” ذلك المغلف الذي يحوي سيرتها الشخصية والأفكار الخام لها مُنسقة بشكل روائي، بجانب قواعد العشق و “لقيطة إسطنبول”، كما قرأت “شرف” بجزأيها.

وكان آخر ما قرأت رواية “قصر القمل” التي قرأتها في ظروف نفسية متقلبة، فتارةً كنت أنهي فصولًا عديدة في مرة واحدة، وتارة أخرى لا أتحمل إتمام ثلاث صفحات متوالية..

لا أدري هل حدث هذا لظروفي النفسية الخاصة، أم هي حالة نفسية وضعتني بها الرواية!

إذا تتبعت كتاباتها تجدها خلف شخصية من شخصيات الروايات، فمرةً تسيطر عليها نزعة التفكير الصوفي، وأخرى عنادها وشكها وبحثها الدائم وهذا ما تلمسته في “لقيطة إسطنبول”، كما عشوائية التفكير واللامبالاة المميتة في شخصية أخرى من الرواية ذاتها.

إيلف لا تطلق على الطفل طفلًا لصِغر سنه أو لعبثية تفكيره، ولا تستخدم لفظة “مراهق” على الإطلاق، بينما تأخد كل فردٍ على محمل الجد، كيفما يرى ذاته وكيفما يفكر.

حليب أسود” هي الرواية المثلى لمن يريد التعرف عليّ، أقصِد على إيلف.. ويتعرف عليها جليًا من خلال صراعاتها المستمرة بين دواخل نفسها المسطَّرة في الرواية _وإن كنت لا أتفق معها تمامًا في الفصول الخاصة بالمرأة_ وتليها في المرتبة “لقيطة إسطنبول” في شخصية الأم وابنتها.

إيلف شفق، هي غالبًا ما تطبق ما وصفه الرافعي حين كتب: “ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه

فبمهارةٍ تثبت هذه المقوله من حين لآخر، فقد يظهر لك الشخص عنيفـا متطرفًا لكنه غارقٌ في العشق حتى ثمالته.

وقد تُميته الشيوعية غريبًا سائحًا، لكنه بداخله يبحث عن انتماءٍ حقيقي وأمان.

لكن ما اتفقتُ عليه أنا وإيلف وشخصيات الرواية، هو الصمت.

الصمت الذي يَسود رواياتها ليس الذي تستشعر فيه الأذى وتغض الطرف عنه، وليس من النوع الأخرس عن الحق، وإنما هو صمتٌ من نوع صحي.. يترك للجميع مساحةً لإعادة التفكير في كل شيء، وفي تجربة كل شيء حتى يصل لنتيجة يسير على نهجها في حياته.

ذكرت إيلف في رواية حليب أسود أنها لا تستطيع الكتابة إلا في صخب، إنها تستطيع الكتابة على متن مركبة في عرض البحر مكدسة بالبشر!

أتعجب أشد العجب من أن يكون هناك على وجه الأرض شخص أُشابه شخصيّته بهذا الشكل وله النقيض من عاداتي!

فمثلًا، أنا لا أستطيع القراءة أو الكتابة إلا في صمتٍ مُطبق، يؤرقني حتى صوت دقات الساعة، عجزت عن كتابة هذه السطور الأربعة مع وجود صوت مقطع موسيقي أتى من بعيد، لم أتمكن من الكتابة إلا بعد أن أغلقت الأبواب وانمحي الصوت.

إننا كالحياة.. سُبل متفرقة، لكن تجمعنا نهاية واحدة.

وأخيرًا، إيلف هي من دعمها زوجها أيّوب وتوجهت إليه علنًا بالشكر في صدر كل رواية.

أيّوب الذي دعمها ولبّى رغبتها في ارتداء الأسود يوم الزفاف وليس الأبيض.. إيلف التي لا يصبر عليها إلا أيّوب.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها