“نزيف العقول” أكبر خسائر مصر بعد الانقلاب

دعيت منذ أيام لحضور حفل افتتاح أحدث المستشفيات الخاصة في المدينة التي أعيش فيها حاليا. بمراجعة قائمة الأطباء العاملين بالمستشفى لاحظت أنهم جميعا مصريون، وبالرجوع إلى تخصصاتهم، لاحظت أنهم جميعا من حملة الدكتوراه في الطب، وفي نظرة على السيرة الذاتية لكل منهم وجدت أن المدير الطبي كان عميدا لإحدى كليات الطب في مصر وأحد أبرز الأطباء المصريين في تخصصه، مسؤول العمليات كان أيضا أستاذا بكلية الطب، وباقي التخصصات جميعهم أساتذة جامعيون بارزون بارعون في تخصصاتهم.

عدت بالذاكرة سريعا فإذا بي أكتشف أن كل الأطباء الذين أتعامل معهم، أو يتعامل معهم أصدقائي وزملائي في مختلف المستشفيات الحكومية أو الخاصة، وفي جميع التخصصات مصريون حاصلون على أعلى الشهادات العلمية، ومعظمهم من أبرز وأفضل أطباء مصر في تخصصاتهم، ويجمع بينهم أن غالبيتهم العظمى خرجوا من مصر بعد الانقلاب العسكري.

تعد هجرة العقول واحدة من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام في كافة المجتمعات، حيث إن أفضل العناصر البشرية هي التي تهاجر، فهي التي تستطيع المنافسة في سوق العمل في الخارج.

وتسعى كثير من الدول المتقدمة لجذب العقول العلمية بإمكاناتها البشرية المتفردة، وتفتح أبوابها وحدودها لقبول أعداد كبيرة من المهاجرين من ذوي الكفاءات والمهارات العالية لتستفيد من النبوغ الذهني المتطور لهذه العقول.

 وتساءلت كم خسرت مصر اجتماعيا، وعلميا، واقتصاديا، وسياسيا، وعسكريا، وأمنيا، بخروج هؤلاء العلماء وأمثالهم في مختلف التخصصات؟

تذكرت حوارا دار بيني وبين أحد مواطني الدول التي خرج إليها المصريون بعد الانقلاب حين شكرته على حسن الوفادة وكرم المعاملة التي يلقاها المصريون في هذا البلد، فقال “بل الشكر لكم ولمصر التي أهدتنا خيرة أبنائها في مختلف المجالات والتخصصات ليساهموا في بناء بلدنا والارتقاء بها“.

في دراسة أعدها الخبير الاقتصادي عبدالحافظ الصاوي نشرها المعهد المصري للدراسات السياسية الشهر الماضي بعنوان “المهاجرون المصريون بعد الانقلاب: الخريطة والأبعاد” جاء فيها: “تبين نتائج التعداد السكاني لعام 2017، أن عدد سكان مصر بلغ 104.3 مليون نسمة، منهم 9.5 مليون نسمه يقيمون في الخارج، أي ما يعادل 9.1% من إجمالي سكان مصر، وهي بلا شك نسبة غير قليلة، باعتبار أن عددا كبيرا من هؤلاء المهاجرين من ذوي التعليم، أو اليد الماهرة، وهو ما يجعل الهجرة خصمًا من أداء التنمية في مصر”.

وبالاطلاع على أعداد المهاجرين يظهر أن ثورة 25 يناير/كانون ثاني 2011 كان لها أثر واضح على تراجع أعداد المهاجرين، كما أن الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013 أدى إلى عودة ارتفاع أعداد المهاجرين مرة أخرى، بل وبأعداد أكثر مما كانت عليه من قبل.

وصلت أعداد المصريين المقيمين بالخارج إلى ذروتها في عام 2010 وقدر عدد المصريين المقيمين بالخارج بنحو 9.1 مليون نسمة، وهو ما يعادل نسبة 10.3% من إجمالي عدد السكان في ذلك العام والبالغ 87.8 مليون.

ولكن مع انطلاق ثورة 25 يناير ونجاحها في الإطاحة برأس النظام، أعطى الأمل للكثير من المصريين المهاجرين بالخارج للعودة إلى مصر، سواء كانوا من أصحاب الأعمال الذين أردوا أن يعودوا لمصر بمدخراتهم في ظل أجواء تتسم بالديمقراطية وسيادة القانون، كثمرة من ثمرات ثورة 25 ينار، أو أولئك الذين عادوا ليكونوا في عداد العاملين بمختلف الأنشطة الاقتصادية بمصر في أجواء عمل تتسم بالكرامة والعمل اللائق والأجر العادل.

ولذلك وجدنا أعداد المهاجرين المصريين تشهد تراجعًا ملحوظًا في عام 2011 و2012 على وجه التحديد لتصل إلى 7.3 مليون مهاجر و5.3 مليون مهاجر على التوالي.

 بدءًا من عام 2013، الذي شهد في منتصفه انقلابًا عسكريًا على التجربة الديمقراطية الوليدة، وعلى أول نظام مدني تشهده مصر، منذ عام 1952، إذ صودرت الحريات، وعادت الأحكام العرفية، وتجاوزات الشرطة بلا حدود، بل ووصل الأمر لانتشار التصفيات الجسدية للمعارضين السياسيين، وسيطرة الجيش على مقدرات الحياة الاقتصادية المدنية، وتدهور العديد من المشكلات الاقتصادية الكلية.

كان من الطبيعي أن تعود الرغبة لدى شريحة ليست بالقليلة من المجتمع المصري للهجرة للخارج، وهو ما عكسته البيانات الخاصة بنتائج تعداد 2017 للسكان، إذ تبين أن عدد المصريين المهاجرين بالخارج قفز من 6 ملايين مهاجر في 2006 إلى 9.5 مليون مهاجر في 2017.

لقد زاد عدد المهاجرين خلال الفترة من 2013 – 2017 بنحو 3.5 مليون مهاجر، أي بما يزيد عن 50% عما كان عليه الوضع في 2006. وبذلك فقد تجاوز عدد المهاجرين في عهد الانقلاب العسكري في عام 2017 عدد المهاجرين في عام 2010، والذي كان يعتبر أعلى معدل للهجرة في تاريخ مصر.

ماذا لو رُفعت القيود التي وضعتها سلطة الانقلاب أمام الراغبين في السفر مثل ضرورة الحصول على موافقة أمنية قبل السفر للعديد من الدول؟ وكم سيبلغ عدد المهاجرين المصريين؟

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها