ميزان الفوز والخسران بعد رمضان

يتهم البعض أنفسهم بعدم التوفيق أثناء شهر رمضان بناءً على انخفاض الهمة الروحانية بعد رحيل الشهر الكريم، فقد كانوا يتوقعون أن يبقى مستوى الأداء الروحاني في أعلى مستوياته التي كانوا عليه أثناء شهر رمضان. وأعتقد أن هذا الشعور الحريص الوَجِل يعتبر من منح شهر رمضان؛ إذ أنه يُظهر رباطًا عاطفيًا مع الشهر المبارك ونفحاته، كما أنه يدل على يقظة القلب، وتأثره برحمات الله. فلوم النفس لصاحبها ومحاسبته لها يُعد دليلًا على تجذر بذرة الخير في النفس واستعدادها لتُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

وأما الشعور بالقلق والإحباط فهو حريٌ بالذين أتى عليهم شهر رمضان ثم انصرف عنهم دون أن يحرك فيهم قلبًا، أو يُزود فيهم روحًا، أو يغير فيهم سلوكًا، فهؤلاء هم المحرومون الخاسرون حقًا.

ولكن الأكثر منهم بؤسًا وخسرانًا منْ غَرّته طاعته في رمضان، فأُعجب بطول قيامه وكثرة صدقته، وظنّ أنه قد قام بما لم يقم به الأولون والآخرون، فأَوْعَزت له نفسه أن يستريح من تعب ما قام به، أو أن يفعل ما يشاء فقد غُفر له، فهؤلاء وإن كان ظاهر أمرهم فعلٌ كثير وعملٌ عظيم إلا أنهم قد وقعوا في محبطات الأعمال ومهلكات النفوس. يقول ابن عطاء: “ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سببًا في الوصول. معصية أورثت ذلًا وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا.” وحتى تهدأ النفوس القلقة بعد شهر رمضان، وتستأنف مسيرها نحو الله بوعي وطمأنينة، يجب أن نستحضر الحقائق الآتية، لعلها تحدث توازنًا يضبط الفهم، ويوضح معالم السير إلى الله في مناسبات الطاعة العامة والخاصة:

خصّ الله شهر رمضان بنفحات إيمانية، ومحفزات ربانية لم تتوفر في غيره من الأشهر، مثل: تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وزيادة أرزاق العباد فيه، ونزول الملائكة، وعتق الله للرقاب في كل ليلة… ولاشك أن ذلك مما يشحذ الهمم، ويولد الطاقات، ويدفع إلى التنافس في البر والتقوى، ولو أراد الله لعباده أن يكونوا على نفس مستوى الأداء الروحاني في غير رمضان لخصّ أيام العام بمثل ما في الشهر الكريم من البركات والعطاءات، ولكن كان من حكمته سبحانه أنه فضّل بعض الأشهر على بعض كشهر رمضان، وفضّل بعض الأيام على بعض كيوم عرفة، والعشر الأُول من ذي الحجة …وغيرها لتكون محطات من الإيمان والتقوى، وربَطَها بزيادة العمل الصالح والتنافس في الخيرات؛ وذلك حتى يتحرك نحوها أصحاب القلوب الحية رغبةً في القرب من الله ونيل مزيد من رضاه.

الصيام، والقيام، والصدقة، والذكر…وغيرها من الطاعات مشروعةٌ في شهر رمضان على هذا النحو المكثف من الأداء لتحقيق هدف التقوى، فالتقوى هي المقصد الذي يجب تحققه، والزاد الذي يجب الإكثار منه، وعلامة الإنجاز في تحقيق هدف الطاعات في رمضان أن يظل أثرها باقيًا بعد الشهر الكريم، ضابطًا لجميع الحركات والأفعال والأقوال، يقول تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب” البقرة، 197. فلا قيمة لصيام يطول نهاره، وقيام يطول ليله، وطاعات بالليل والنهار دون تحقق مقاصدها في تقوى القلوب، وإحياء الأرواح، واستقامة السلوك. يقول تعالى: “لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم” الحج37 .

الجد والاجتهاد في العبادات والطاعات كان من هَدْيه (صلى الله عليه وسلم) في شهر رمضان، ولقد سمح (صلى الله عليه وسلم) للأمة أن تنال شرف الاتباع له في ذلك؛ ولهذا أدّاها (صلى الله عليه وسلم) على نحوٍ ظاهرٍ ليُنقل عنه، وأكّدت الروايات أن فعله هذا لم يتكرر في غير رمضان، مثال ذلك: اجتهاده في العشر الأخيرة منه. جاء في الحديث: “كان (صلى الله عليه وسلم) يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها”. رواه مسلم. ومثاله أيضًا: مزيد كرمه وكثرة إنفاقه في رمضان. جاء في الحديث: “كان (صلى الله عليه وسلم) أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان”. رواه مسلم. وفي هذا توجيه للأمة أن شرف بعض الأيام والشهور يقتضي فيها من العبادات وفعل الخيرات ما لا يكون في غيرها، والعابد حقًا هو من يُلزم نفسه بما اختُصت به الأيام المباركة اتباعًا للشارع ورغبة في نيل رضاه.

العبادة في الإسلام أكبر وأشمل من أن تحصر في شهر معين أو أن تكون في شكل محدد؛ ذلك أن منها ما هو فرض محدد في الزمان والمكان والهيئة، كالصلاة والصوم والحج… ومنها ما يشمل شؤون الحياة جميعاً بشرط موافقة أحكام الشريعة، وإخلاص النية لله، وحسن الاتباع للنبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى هذا فالعابدون المفلحون لا ينقطعون عن معبودهم في جميع الأزمنة والأوقات والأحوال، ولكن تتنوع صور العبادة في حياتهم لتشمل الحركات والسكنات حتى النبضات إلى أن يلقوا ربهم. ودور شهر رمضان في كل عام أن يحيي هذا المعنى في قلوب المؤمنين، ويعينهم على مواصلة سيرهم عليه طوال العام بما يؤهلهم لبلوغ فرصة أخرى من فرص الارتقاء والزيادة في العبادة والطاعة.

إن من علامات القبول التي يجب أن يحرص عليها المفلحون في طريق العبادة: التأكد من صحة البداية في العلاقة مع الله، بإخلاص النية في التقرب إليه، وبتحرير التوجه من كل غاية أو دافع إلا ابتغاء وجه الله، ومجاهدة النفس في التزام الأمر والبعد عن النهي. وليعلم كل مريدٍ ثواب الله والقرب منه أن حسن الفهم لمقاصد العبادة منحة على طريق الفلاح في الطاعة، ودليل على اختصاص الله للعبد، جاء في الحديث “من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين” البخاري. وأن الله إذا أراد للعبد مواصلة الطريق في مناداته ومناجاته، أذاقه حلاوة الإيمان، وزوده بالخوف والرجاء، ويسر له سبل الصلاح وجهد المصلحين. يقول تعالى: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”. العنكبوت 69.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها