من يجود يضمن الوجود في اليمن

حبال أي قادم إلى اليمن بغرض الاحتيال أوالاحتلال قصيرة، فمن ذا الذي يجود بالنصح للمحتال في السعودية والمحتل من الإمارات أن اليمن ليست قطعة أرض فارغة في الصحراء معروضة للبيع.

“مجبر بنات متفقعسات” جملة باللهجة والنبرة الصنعانية أخذت من وقتنا نصف ساعة شرح وتلقين ولم نتقن نطقها للأسف  فانسحبت أنا وصديقتي من التحدي -المهم فهمنا المعنى.. يكفي- بهذه الألفاظ وصفت “نُهى” من صنعاء نقاش طويل متعدد اللهجات دار بيننا في طريق السفر بعد أن لفت انتباهي أن في جواز كل منهما اسم غريب ليس عربي ولا يمني ولا هو من مشتقات اللهجة الدارجة في اليمن.

سألت الأولى وهي من عدن قالت هذا لقبي أصله هندي، أما “نُهى” فهو اسم عائلتها وأصله تركي، وكان هذا هو سبب حوارنا المثير، وانتهينا وأنا أشعر بارتياح وأمان وكأنما خُلقت من جديد، فلا خوف من أقدار الله على اليمن وقد حباها بدوام ذكرها في قصص كتابه، ولغة ألفاظه الشريفة واسم ركن بيته العتيق.

اليمن هي أصل اللسان العربي ولا خوف عليه من الفناء مهما دارت الدوائر وإن اختلفت المسميات التي عُرفت بها فِي كتب المؤرخين.

هي البلد التي مرّٓ عليها العديد من الأجناس والأديان والأعراق والألسن والألوان فتماهوا فيها وخُلد ذكرها، فمن قدم إليها أو حل فيها جادت له بخيرها إلى أن تسكن روحه.

في حديثنا الطويل تذكرنا بأن بلدنا غزاها الأحباش والفرس والروم فأخذت خير ما فيهم ومن فيهم، وأتوا لاحتلالها فاحتلتهم هوية الأرض وعاشوا فيها كباقي سكانها وسرى في دمائهم نسيمها، و لامس بشرتهم غبار ترابها، ما جاؤوا به من خير بقي عليها، ومع مرور الوقت تخرج شرورهم مع رياح فصول الخريف المتعاقبة.

ودخلها صاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لنشر الدين وتعليمه فاستوطنوها بالحق والطيب، واستوطنتهم هي بخيرها ولين أهلها وصاروا منها، وانتشر ودام فيها الإسلام كهوية ودين رسمي على عكس الديانات السابقة، وكيف لا وهي الأصل الطيب الذي لا تستقيم له الحياة إن خالطه فساد.

وجاء إليها الأتراك فما عادوا من حيث قدموا كما قال شاعرهم “الذاهب إليها لا يعود” ولم يغيروا في اليمن سوى سنحة وجوه جديدة وألقاب لا يعرف أحفادهم معانيها، ورضوا بها كموطن جديد واستبدلوا هويتهم بالهوية اليمنية واعتزوا بها وورثوها لأبنائهم.

ودخلها أفواج كثيرة من العمالة الهندية في فترة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن فإذا بجمال قدم من شبه القارة الهندية يتحول إلى هجين يمني فأضافوا لرونق تلك السواحل ما يسلب القلوب ونسوا أصولهم وغيروا دينهم ولغتهم عن طيب نفس وخاطر.

وفي نهاية “المجبر” الممتع وصلنا إلى نتيجة أثبتتها التجربة وهي: أن اليمن ذلك القلب الكبير الذي يتسع للمواطن والضيف والمقيم والزائر وابن السبيل فلا أحد يشعر بالغربة فيها، اختلفت فيها كل المعادلات الرياضية والعمليات الحسابية ففي عرفها ” الفسح في القلوب” و”ما يكفي الواحد يكفي العشرة ” .. وهي أرض لا تُحتل ولا تبقى مملوكة لفرد أو أسرة أو عرق، ورغم الملمات التي مرت وتمر بها إلا أن اليمني لا يخاف على بلده من صراع وجودي أي كان خطره، في حين أن دول الجوار في المنطقة تخشى من أي تغيرات تطرأ في المستقبل تهدد وجودها فلا القوة ولا الثروة ضمنت لها ذلك.

ولذا فإن حوارنا اللطيف خلُص إلى أن حبال أي قادم إلى اليمن بغرض الاحتيال أو الاحتلال قصيرة، فمن ذا الذي يجود بالنصح للمحتال في السعوية والمحتل من الإمارات أن اليمن لا تحكمها أسرة فهي ليست قطعة أرض فارغة في الصحراء معروضة للبيع، ولا هي مجموعات شاردة في فلاة من جاد لهم الماء والكلأ سلموه رقابهم ومستقبل أبنائهم.

اختلف أبناؤها وتنازعوا في حقبة من التاريخ وفرقتهم المسميات في الداخل إلا أنهم عُرفوا باسم اليمن في الخارج إلى أن تلاشت الخلافات فوحدتهم تسمية “اليمن” التي تتناسب مع طبيعة وجغرافيا الأرض وسجايا الإنسان الذي يقطن فيها.

هي غنية عن التعريف وبدون فخر كانت وما زالت مهد العرب الأول وأصلهم، والأصل يكبر على القومية والسلالة والعرق والقبيلة والفكر والحركة والحزب والإقليم، وهي حضارة ابتلعت من هو أقوى واعتى في الماضي وما بقى فيها إلا ما ينفع الناس وبه يستقيم أمرها.

فكيف لعصابة أبوظبي أن تمد يدها الطائشة داخل اليمن كطفل فاقد الأهليه في سنوات عمره الأولى، وهم يعلمون علم اليقين أنهم غير جديرين بها، فهم لا يحملون هم تاريخ ولا هوية وليس لهم من ذلك سوى عقال أسود أثمن وأنفع من العقول التي يمتطي رؤوس أصحابها.

وكيف للحوثي وصالح  أو أي مدعي من هنا وهناك أن يصبغ عليها معالم ويطلق عليها كنايات ليعزلها عن سمتها وتاريخها الذي عُرف بالتعدد والتعايش والشورى والتقبل للآخر.

هي الأرض التي أهلك الله فيها أقوام فسدوا وطغوا على الحق ليطهرها ويقيم فيها الخير، واحتضنت أقوام وأعراق وأديان وسلالات من مختلف أرجاء المعمورة، وشعبها هو ذلك الشعب الطيب اللين إن قدِم على الغير قدِم مسلِّماً وإن خالطهم عاشَ مُسالماً. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها