ممدوح المنير يكتب: شاهد على فض اعتصام رابعة (1)

رأينا الرصاصات القاتلة تمطرنا، و تنصب علينا من كل جانب, حتى من البنايات العسكرية المحيطة بكل جنبات الميدان، و من فوق أسطح العمارات. يتبع

اسمحوا لي بداية قبل الحديث عن ذكرياتي و شهادتي عن اعتصام رابعة و يوم الفض، أن أوجه التحية لشهدائنا الأبرار، و إلى كل الثوّار الذين يخرجون كل يوم بلا يأس أو ملل للمطالبة بالحرية و القصاص لدماء الشهداء، هؤلاء هم مربط الأمل.

هذا الجيل نبت في رحم رابعة الصمود و أرتوى فيها من قيام الليل و صيام النهار، جيل استعذب النوم على الأرض ليبني لأمته طريقا إلى السماء، فسلام ثم ألف سلام على أهل رابعة وشهداء رابعة، سلام لكل رجل و امرأة ، لكل طفل أو شيخ، الذين يتحملون ألم فراق الأحباب وغياهب السجون وزمهرير البرد و جفاء الصاحب و القريب ، في سبيل الله و في سبيل أمتهم .

أقول لكم، أشد على أياديكم و أقبل الأرض تحت نعالكم و أقول أفتديكم.

عرفت بموعد الفضّ الثانية عشرة ليلا, كنت وقتها قادم من مكان آخر في القاهرة، ودخلت الميدان ليلة الفض نحو منتصف الليل، وتوجهت إلى خيمتي التي أعتصم بها، وكنت وقتها أستعد للراحة قليلا من المشوار، ومن إصابتي بنوبة برد شديدة.

وعندما وضعت رأسي على الأرض ونمت بجوار إخواني وأحبتي، جاءني مسئول ميداني في رابعة، وهمس في أذني قائلا “احتمال كبير أن يتمّ الفض اليوم”، فلم اندهش من المعلومة لأننا تعودنا عليها، فقلت له زي (مثل) كل مرة والا بجد المرة دي، فقال لي “رصدنا تحرك قوّات كبيرة وضخمة باتجاه الميدان، لكن لا نعلم سيناريو الفض حتى الآن.

قلت له و ما العمل؟ قال لي “سيقف نصف المعتصمين على البوابات للتأمين، لمواجهة أي طارئ، و ينام النصف الآخر حتى الصباح (صلاة الفجر طبعا) لأن هناك مظاهرات أمام الوزارات التي استلمت عملها في حكومة الانقلاب.

فقلت له متعجبا مندهشا: إذا كان الفض الآن أو بعد ساعات هل تتوقع أن ينام أحد ؟!، فقال: لا نعرف ماذا سيفعلون؟ قد يحاصرون فقط ويمنعون الخروج أو الدخول .. قد يشتبكون مع الأطراف كالمنصة أو الحرس الجمهوري، و بالتالي دعنا نتعامل مع الأمور وفق تطورها.

فسالته هل معهم جرّافات؟ فقال: نعم .. قلت: أتوقع أن تخلى هذه القوات الميدان اليوم، وسوف تتسبب في مذبحة مروعة .. قال -وقد اقتضب وجهه-: لماذا ؟ ، قلت: هزيمته في فض الميدان يعنى انكسار الانقلاب وانتهائه، وما دام قد قرر الفضّ فسيفض مهما كانت الخسائر في الأرواح، و أتمنى أن تبنوا إجراءات التصدي على ذلك.

فقال: أعدك أن أنقل وجهة نظرك .. و قتها جمعت أشيائي، وأخرجت متعلقاتي الشخصية الهامة، ووضعتها في جيبي، وغيرت ملابسي بشكل يسمح بسهولة الحركة.

لم أرد أن أسبب قلقا لمن حولي بوجهة نظري عن الفض، فأخذت أتأمل في وجوههم وهم نائمون، فلم أكن أعرف هل سيقدر الله لي رؤيتهم ثانية؟ أم ماذا سيفعل الله بنا؟  وأخذت أستغفر الله ليطمئن قلبي المتوجس خيفة، ثم انشغل الميدان بقيام الليل و التضرع إلى الله وارتفع البكاء والنحيب في الصلاة من الأيادي المرفوعة في السماء تستمد من الله العون.

تناولنا جميعا طعام السحور حيث كان المعتصمون يصومون باقي الأيام الستة عقب رمضان، ثم صلينا الفجر جماعة، لكني لاحظت أن الحركة في الميدان لم تهدأ، وانشغلت مجموعات التأمين بتقوية السواتر الترابية المنصوبة على مشارف الميدان، وبدا أن الجميع في انتظار العاصفة، فالبعض أمسك بمصحفه يبحث فيه عن طمأنينة القلب، والآخر يلملم أشياءه المهمة، وهذا يجهز الإسعافات الأولية ضد الغاز، وذاك يصف براميل الماء في جوانب الطريق بعضها للشرب والبعض الآخر حتى يتم وضع قنابل الغاز بها للتقليل من تأثيرها .

و لم ينم بطبيعة الحال أحد، حتى أوشكت شمس الصباح الأخيرة على الميدان على الظهور، و بدا صوت الآليات والجرافات يقترب، و صوتها يعلو، و كأنها تعزف لحن الموت المنتظر فى كل جنبات الميدان، وأخذت هتافات المنصة تعلوا بالصمود والمقاومة، وعدم السماح لهم بالاقتراب من الميدان .

لكن هيهات هيهات لم تعلم المنصة أو القائمون على الاعتصام أنهم يتعاملون مع وحوش ضاريه في صورة بشر، بل وحوش انتزعت منها قلوبها حتى لا تعرف للعطش من الدماء سبيل !! .

ثم فجأة و دون سابق إنذار رأينا الرصاصات القاتلة تمطرنا و تنصب علينا من كل جانب، حتى من البنايات العسكرية المحيطة بكل جنبات الميدان، ومن فوق أسطح العمارات،

البقية في الحلقة القادمة.

د. ممدوح المنير
كاتب صحفي مصري

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها