معية الله .. زاد وغاية

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) … (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)
بك أستجير فمن يجير سواك … فأجر ضعيفاً يحتمي بحماك

هذه خواطر كتبتها من أربع سنوات بالضبط في خضم أحداث عظام جلل، محاولا التذكير فيها بمدى الافتقار والحاجة إلى الإيواء والركون واللجوء لمن بيده الأمر كله سبحانه وتعالى، وأجدني اليوم أعود إليها لإعادة نشرها لذات الهدف ودوام الحال على ما كان بل أشد وذلك بعد إجراء بعض التصرفات عليها، عسى أن نلوذ ونلجأ بحمى الله وحده، فيطلع سبحانه على إخلاص المخلصين منا فنفوز فوزا عظيما.

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) … (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)

بك أستجير فمن يجير سواك … فأجر ضعيفاً يحتمي بحماك

( 1 )

كلما عظمت الخطوب وتزايدت الكروب وألمت بنا الفتن وحلت علينا النقم، فلا ملجأ إلا الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)، فما أحوجنا اليوم إلى اللجوء إليه سبحانه، التماسا لمدده وعونه، وتعلقا به، وتوكلاً عليه، ويقيناً في نصره، ورضاء بقضائه، وطمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، ولن يتحصل ذلك إلا بالتقوى والاستشعار الدائم لمعية المولى سبحانه وتعالى لنا، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). 

وتقوى الله واستشعار أو إستصحاب معيته سبحانه هي في الأساس عمل قلبي روحاني ينبع من الوجدان، ولكنه كأي جانب وجداني يلزمه في بدايته جانب معرفي ، لذا يستلزم أن نعرف أولا أن معية الله لعبادة صنفان ، صنف عام وآخر خاص ، صنف لا دخل للإنسان فيه بل مجبول عليه والآخر يكتسبه ويتحصله بفعله وتصرفاته .

( 2 )

أما الصنف الأول، وهو المقصود في قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ، (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) ، أي أن الله شهيد علينا محيط بنا بعلمه ومهيمن علينا ، ومطلع على كل تصرفاتنا ، وهذه معية فطرية مجبول عليها الإنسان ـ كما قال العلماء ـ ولا يستطيع أحد أي من كان الفكاك منها ، وهى عامة لكل البشر من لدن سيدنا آدم الي قيام الساعة ، أي كان نوعه أو جنسه أو ديانته فلا يستثنى منها أحد مسلم كان أم كافراً ، طائع كان أم عاصياً .

أما الصنف الثاني، وهي معية النصرة والتأييد، معية الرعاية والقرب من العباد الطائعين ودفع الضرر عنهم، وهي المعية التى نصبو لتحقيقها، وفي كتابنا الكريم العديد والعديد من الأمثلة التي يضربها لنا المولى تبارك وتعالى عن تلك المعية :

  • نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) استشعرها وهو (ص) في رحلة الهجرة (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فجاءه الفرج من الله في التو واللحظة (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا).
  • نبي الله موسى وأخوه هارون أرسلهما الله إلى طاغية جبار (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) فخشيا أن ينكل بهما فأزال الله هذا الخوف بالتأكيد على معيته لهما (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) .
  • وايضا نبي الله موسى عليه السلام استشعرها وهو يفر ومعه بني إسرائيل من بطش وجبروت فرعون (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) فكانت الاستجابة الفورية من الله سبحانه وتعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) .

( 3 )

وكما قص الله لنا في القرآن عن نماذج استصحبت معنى المعية الخاصة لله تبارك وتعالى، فرزقها المولى نصرته وتأييده ومعونته وحمايته سبحانه لهم، كذلك حدد لنا سبحانه في القرآن شروط وطرق ووسائل الفوز بمعيته الخاصة، وما هي الصفات التي يجب أن يتصف بها من أراد اكتساب تلك المعية الربانية .

أول تلك الأسباب الربانية للفوز بالمعية الخاصة ، يقصها ربنا القدير في القرآن الكريم عن بني إسرائيل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) ، أخذ الله من بنى اسرائيل العهود والمواثيق ، ووعدهم سبحانه معيته ونصره وتأييده (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) ، ولكن علقها سبحانه على شرط (لَئِنْ) ، إن تحقق الشرط تحققت لهم معية النصر والتأييد ، وإن نكثوا العهد والميثاق ، فلا نصر ولا تأييد.

وقد لخص المولى بنود العهد والميثاق والشروط في أربع، (أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ)، (وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ)، (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)، (وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) .

فمعية الله سبحانه وتعالى أعظم معية، فهناك من يتفاخر بمعية العظماء والكبراء والمشاهير، يحتمي بهم ويلوذ بهم، هؤلاء هم من أعمتهم دنياهم عن آخرتهم وغرهم سلطان البشر عن رب الأرباب وتغافلوا بمعية الناس عن معية رب الناس .

أما معشر المؤمنين فعزهم وفخارهم معية الله لهم، فمن كان الله معه فهل يضره العالم بأسره ولو اجتمع عليه، قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم معلما بها الأمة (وان اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك)، الكون بأسره خلق من خلق الله يسيّره كيف يشاء ، يأخذ بناصيته حيث شاء (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .

( 4 )

ما أحوجنا في ظل هذا العالم متلاطم الأمواج أن نسير في هدى من الله تعالى، شعارنا (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)، نفر منه إليه، نفر من الدنيا إلى الآخرة ، نفر من الشهوات إلى الطاعات ، نفر من الفتن والنقم إلى مَن وحده بيديه أن ينجينا منها ، نقدم له القليل فينعم علينا بالكثير ، نطمع في معيته ، فينعم علينا بنصره وتأييده ورعايته وحفظه لنا ، الله ينادينا ليل نهار هلموا إلي ، تقربوا إلي بالطاعات أتقرب إليكم بالإحسان ، كن مع الله يكن الله معك ويهيأ لك سبل الخير والهدى.

إن أردت معية الله فالأمر من بدايته في يديك أنت،  تقرب إلى الله بما يحبه .. الإيمان، التقوى، الإحسان، الصبر، الدعاء … الخ ، ستجد الله جواداً كريماً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة (قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني) رواه أحمد  ، الدعاء سبب من أسباب المعية ، تعلق برب الأرباب يكيفك خلقه أجمعين ، ابحث عن الله تجده ، اسأله يجبك ، ادعوه يعطك (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .

احرص على معية الله ، بالعمل الصالح ، باللجوء إليه ، بالتقرب إليه ، بملازمة أهل التقوى والصلاح ، فبقدر ما تطيع الله بما أمر بقدر ما يكون معك (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ) .

وفي الختام ، نتواصى بتحقيق أسباب معية الله للعبد ، نتواصى بتقوى الله ، نتواصى بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، نتواصى بلزوم ذكر الله ، نتواصى بالثقة في موعود الله ، ولنتذكر الحديث القدسي (أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني) ، وربنا يحذِّرنا فلننتبه (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها