ما لا تعرفه عن الجنائيين في السجون المصرية (2)

في أحد أركان غرفة الاحتجاز، كان يجلس (عطية) رامقا الجميع بنظرة تفقدية، وفي عرف السجون والجنائيين يطلق على ركن الغرفة (مَصلَب) ويعد من يجلس فيه هو الأقوى أو هو صاحب الأقدمية.

في أحد أركان غرفة الاحتجاز، كان يجلس (عطية) رامقا الجميع بنظرة تفقدية، وفي عرف السجون والجنائيين يطلق على ركن الغرفة (مَصلَب) ويعد من يجلس فيه هو الأقوى أو هو صاحب الأقدمية أو حتى صاحب النفوذ المادي، تماما كمن يستطيع أن يسكن في شقة مطلة على نيل القاهرة أو في شارع جامعة الدول العربية.

أما (عطية) فكان يمارس دوره وسلطته كنوبتجي للحجز بهدوء وثقة يتابع دخول كل ضيف جديد قاده قدره لهذه الغرفة وهو يتقدم بصعوبة باحثا عن موضع قدم له داخل هذا المكعب المليء بالأجساد، ويقرر بناء على هيئة الضيف وطريقة كلامه تصنيف الوافد الجديد وكيف ستكون (الدَخلة) للتعامل معه، يترك عطية لبعض مساعديه شرف التعامل الأول مع الضيوف ثم يتدخل هو في الوقت المناسب.

تصنيف الضيوف يتم طبقا لأنواع ومستويات عدة وبناء على التصنيف يتم رسم سياسة التعامل وتحديد الحقوق والواجبات أيضا، كانت لحظاتي الأولى في هذا الحجز صعبة فكنت بالكاد أستطيع أن اتحرك منذ أن دخلت من الباب لا أستطيع أن أرى ما بالدخل بسبب ضعف الإضاءة الشديد القادم من مصباح صغير معلق في منتصف سقف الغرفة، وما زاد صعوبة الرؤية هي كميات الدخان الأبيض التي تعبئ المكان، وبرغم أن أبعد نقطة عن الباب لا تزيد مسافتها عن 4 أمتار لكنني شعرت وأنا أخوض طريقي إلى منتصف الغرفة أنه كان دهرا كل العيون معلقة بي وأنا أدور بعينيّ بين الوجوه الشاحبة التي تملأ المكان، ثم قام أحد مساعدي عطية من مكانه بمجرد رؤيتي لاستقبالي الاستقبال المعهود.

هو: جاي في إيه يا أسطى؟

أنا: جاي في إيه ازاي يعني؟!

هو: احنا هنبدأها من أولها ولا ايه؟! .. ايه اللي جابك هنا؟ .. مخدرات؟ شيك بدون رصيد؟ خناقة؟! شكلك كده شيخ.

أنا: لأ شيخ إيه .. أنا مهندس .. والتهمة تظاهر.

هو: يعني شيخ، ماشي.. معاك إيه بقى؟!

كان مصطلح شيخ يطلق على أي متهم سياسي تقريبا.. يكفى فقط أن يتم مشاهدتك تصلي ولو لمرة واحدة، حتى تلقب بهذا اللقب .. ولهذا اللقب معانٍ كثيرة بالإضافة لمعاني الالتزام الديني، أهمها أنك خام، ولست من هؤلاء الحبسجية المخضرمين، أو معتادي الاحتجاز، وبالطبع لا تفهم كثيرا من أعراف عالم الجنائيين بالداخل، هذا هو التصنيف الرئيسي الأول، وبداخله بعض التصنيفات الفرعية منها ما هو مرتبط بقدراتك المادية على الدفع مقابل راحتك، أو مقابل حصولك على إمكانية استخدام الموبايل لتحادث أهلك بالخارج، أو أنك ممن سيكونون من الممولين لهذه الغرفة البائسة وأهلها، من زيارات يومية ووجبات وخلافه، ناهيك عن شخصيتك ومدى قوتها وقدرتك على التأقلم مع الوضع الجديد.

أما التصنيف المقابل للشيخ أو السياسي فهو الجنائي، وهذا تصنيف مفتوح ويندرج داخله العديد من التصنيفات، فليس معنى أنك متهم جنائي أنك مسجل خطر أو معتاد الإجرام، فهذا النوع لا تخطئه عينك بمجرد دخوله، ولكن هناك من هم من أبناء الطبقة المتوسطة أو حتى العليا الذين ساقهم حظهم العاثر للاحتجاز سواء بسبب مشاجرة، أو تعاطي المخدرات، أو الاختلاس، وغيرها من التهم التي من الممكن أن تطال أي شخص بغض النظر عن مستواه الاجتماعي، وهؤلاء أيضا يحتفظون بحقوق متوازنة أحيانا، حسب قبولهم لسياسات منظومة الحكم الموجودة داخل الحجز، ومدى احتياج مجتمع الحجز لخدماتهم مثل الأطباء أو الصيادلة مثلا.

وما يحدث داخل هذه الغرفة الصغيرة حجما الكبيرة سكانا وشعبا يحدث مثله تقريبا في كل نظيراتها في جميع الأقسام والسجون، وهو مصغر حقيقي للنظم السياسية الحاكمة، فهناك نظام حكم يتزعمه (النوبتجي) ومعه حكومته المكونة من اتباعه وحاشيته التي تنفذ تعليماته وسياساته التي يقررها، سواء كانت سياسات اجتماعية مثل توزيع مواقع النوم والتي تعتبر أحد أهم مؤشرات التميز أو الضعف داخل هذا المجتمع، فالبسطاء من المحتجزين ينامون في ما يسمى الصف أو الممر، وهذا المكان هو أكثر الأماكن عرضة للانتهاك وشعبه هم خدم للنظام لا حقوق لهم إلا أقل القليل، أما الأقوياء والسلطويين فينعمون بالنوم في (المصلب) يجاورون أحد حوائط الحجز أو حتى قريبا منه، ولا ينتظرون واقفين دورهم في النوم مثل شعب الصف أو الممر، وهناك الطبقة المتوسطة، الذين ينامون في ما يسمى (المراية) وهي المسافة بين أبعد ركنين عن الباب، ويصل لهذا المكان إما هؤلاء القدامى تقديرا لأقدميتهم، أو من يدفع (أرضية) أو إتاوة أو هؤلاء المقربين من النوبتجي والذي قد ينعم على أحد منهم بموقع في هذه (المراية).

وحتى يتسنى لنظام الحكم أن يمارس سلطته مكتملة داخل الحجز لابد أن ينعم بموافقة ومباركة المباحث أو على الأقل عدم الممانعة  وتكون هناك علاقات مباشرة بين (النوبتجي) وسلطات الاحتجاز وعلى رأسها ضباط المباحث ترتبط هذه المباركة بمجموعة من الالتزامات مقابل مجموعة من المميزات تماما كما يحدث في العلاقات بين المجتمع الدولي والدول النافذة فيه، وأحد حكومات الدول النامية يتم عقد اتفاقيات والتزامات ضمنية يفهمها جيدا أي مشارك في السلطة حتى يصل للسلطة أو يحافظ عليها.

(فالنوبتجي) مطالب بحفظ النظام داخل الحجز حتى ولو اضطُر في بعض الأوقات لتأديب بعض المحتجزين الخارجين عن النظام كما أنه يقوم بدور الوسيط بين شعب الحجز والمباحث حتى لا يضطر ضباط المباحث للتعامل مع كل فرد على حده داخل غرفة الاحتجاز وهذه المسئوليات والالتزامات يقابلها بالطبع موافقة ضمنية أو تغافل عن كثير من الميزات منها قيام النوبتجي بجمع الإتاوات من عامة الشعب وتجارة بعض الممنوعات التي يسمح بها حصرا لهذا النوبتجي وحكومته مثل المخدرات أو حتى الهاتف المحمول الذي قد تصل تعريفة الدقيقة من خلاله إلى 10 أو 20 جنيها .. وتحصيل إتاوات عن النوم داخل المراية أو حتى الحصول على أرضية مقابل دخول زيارة لأحد المحتجزين، وتمثل كل هذه الأوجه مصادر دخل للحكومة التي تقود هذا الحجز أو للحاكم الفرد المسيطر.. مما يجعل القيام بدور النوبتجي داخل الحجز وظيفة ومصدر دخل مغر يدفع الكثير منهم لدفع رشاوي للمباحث حتى لا يصدر أي قرار بإخلاء سبيل المتهم القائم بدور النوبتجي أو حتى ترحيله، فخروجه من هذا المكان يعني خروجه من النعيم الذي قد لا يستطيع تحقيق مثله في العالم الحر واستمراره قد يمتد لأشهر وربما سنوات بهدف تكوين نفسه ومستقبله المادي وكأنه في إعارة لأحدى دول الخليج.

وبسبب ذلك كله لا تخلو غرفة الاحتجاز من صراعات على السلطة أو كما يسمونها هم (محاولات فرض السيطرة).  

(يُتبع في التدوينة القادمة إن شاء الله)

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها