لم يكن الهدف أبدًا أن نبقى معهم!

لم يكن الهدف أبدًا أن تتعلّق بالمعلّم وأن تبقى معه إلى الأبد، الهدف كان أن تحصل على ذلك العلم منه والذي يمثّل قطعة من قطع لعبة تجميع الصور.

لا يكاد يخلو بيتٌ من مسافر، لا تكاد تخلو بلدٌ من مغترب يشعر بالوحدة، وتنفطر قلوب الأحبة كل يوم لموت عزيز، أو هجرته أو تخليه طواعيةً ورحيله من حياتهم، أو لاستحالة القرب والوصل.

وبين جنبات السجون تقبع أرواحٌ يمزقها البعد ويتناوب عليها بسياطه -متحالفًا عليه-مع ألم الشعور بالظلم.

وفي بقعةٍ ما من الأرض، مغتربٌ يبحث عن ذلك المطعم الصغير الذي يقدّم أطباقًا من ذاكرة وطنه؛ فيجده ويجلس فيه، يطلب من قائمته عطرَ أمه ومداعبةَ رفاقه ونكهةَ الوطن، وقد تدمع عيناه عندما يتذوق لسانه ما لا تستطيع عيناه رؤيته ولا يستطيع جسده حضوره! وأيًا كان سبب الفراق، لا تُحسن قلوبنا التعامل معه، ومن أجل هذا، أكتب اليوم.

دائمًا ما أفكّر في أساتذتي الذين علّموني في مراحل حياتي المختلفة. فالمعلّم يمكث في مكانه، تتابع عليه الأجيال يعلّم الواحد منهم الجيل أو الصف تلو الآخر نفس الدروس، ويبقى هو ثم يمرون ويمضون هم في طريقهم كلٌ يحمل جزءًا مما تعلّم إلى مجالاتٍ عدة لم يكن لهذا المعلم أن يتقنها يومًا، وإلى بقاعٍ عدة، لم يكن لهذا المعلم أن يطأها يومًا!

لم يكن الهدف أبدًا أن تتعلّق بالمعلّم وأن تبقى معه إلى الأبد، الهدف كان أن تحصل على ذلك العلم منه والذي يمثّل قطعة من قطع لعبة تجميع الصور؛ فتمضي من معلّمٍ لمعلّم تجمع قطع لعبتك أملاً في أن تتجمع تلك القطع يومًا ما وتتراص أمامك وتكوّن صورة حياتك الكلية؛ فتفهم نفسك من خلال مراقبة كيف تتعامل مع الآخرين، وتفهم الحياة.

فلا تتمسّك بكل قطعة وحدها وتحصر نفسك في شرنقةٍ إنما جُعلت لتتحرر منها عندما تكون مستعدًا، وتفرد أجنحتك الملونة القوية وتحلّق بعيدًا في اتجاه صورتك الكلية.

كذلك الأوطان والأماكن ما هي إلا كالرحم الذي احتضنك وكان عليه يومًا ما أن يلفظك بقسوة لتبدأ حياةً هي أجمل بكثير من دفئه وأمنه واستقراره، فلا تكن كجنينٍ يتحسّر على فراق الرحم الآمن ويعيقه ذلك عن ملاحظة حياة كاملة أمامه بطولها وعرضها تنتظره أن يحياها، وكذلك كل من يمرون بك في الحياة وحتى من تكون علاقتك بهم مُفترض أنها دائمة، لا تنسى أبدًا أن لك دورٌ في حياتهم وأن لهم دورٌ في حياتك تتبادلون قطع اللعبة ليجد كلٌ منكم القطع المناسبة لاستكمال اللوحة الكلية الخاصة به هو.

حتى قصص الهوى التي تنتهي نهايات مأسوية والزيجات التي تنتهي بعد أن ظن طرفا كلٍ منها أنه رباطٌ بلا فراق، تعامل معها بنفس المنطق.

أذكر مقطعًا مرئيًا شاهدته للكاتبة “إليزابيث غيلبرت” وكانت تحاورها “أوبرا وينفري”. أشارت “إليزابيث” فيه إلى وهم “توأم الروح”، تقول إنك ليس بالضرورة أن ترتبط إلى الأبد بالشخص الذي تعتبره “توأم روحك”؛ فتوأم الروح هو شخص يظهر في حياتك بعنفوان يهدم الأسوار ويُظهر لك حقائق نفسك وكأنه يمسك بمرآة أمامك وقد يقلب حياتك رأسًا على عقب؛ في الغالب فإنه قد كان مهما لك لتفعيل قدرات معينة فيك ولكن حدة العلاقة لن تسمح لكما بعيش حياة مستقرة هادئة، ولذا فقد يكون الأفضل أن تدع هذا الشخص يمر في حياتك بعد أن ينجز مهمته.

فعلا قد يكون “توأم روحك” هو شخص قد ظهر في حياتك لتحريرك من أفكار معينة ولاستثارة قدراتك في التعامل معه ولكن لا يعني هذا بالضرورة أن ترتبط به، سَلْ نفسك، لماذا وُضع هذا الشخص في طريقك؟ ما الذي غيّره فيك سواء بطريقة إيجابية أو سلبية وكيف ساعدك ذلك على اكتشاف نفسك. لا تكره نفسك، تعلّم. لا تكرهه، فهو أيضًا كان في سبيله للتعلّم عن الحياة وعن نفسه. دعه يمر إلى محطته التالية. املأ قلبك بشعورٍ صادقٍ أن يصل كلٌ منكما إلى وجهته بسلام ويجد فيها نسخة أفضل من نفسه. نعم ستحب مرةً أخرى وستبدأ من جديدٍ مرةً أخرى بإذن الله وستبتسم مرةً أخرى إذا لم تنشغل بويلات الماضي ورفعت أشرع قاربك مرة أخرى وأقبلت على الرحلة التالية بأملٍ وعزيمة.

وعندما تغادر وطنك، وعندما ترحل طواعيةً أو قسرًا عمن تحب أو يرحلون هم طواعيةً أو قسرًا، وعندما تخسر تلك التجارة الرابحة أو يتخلى عنك مكان عملك، وعندما تكون وحيدًا تمامًا في بقعةٍ ما بعيدًا عن كل ما عرفت وألفت، حتمًا ستتجه إلى الحبيب الأعظم إن كنت فطنًا سويَّ الفطرة أو حتى إن كنت يائسًا تمامًا لا تدري أين تتوجّه بقاربك التائه في بحرٍ بلا شطآن تلوح لك في الأفق! فلن يكون لديك غيره. وستعلم أن كل ما تُعلِّق به نفسك، أوهامٌ زائلة وزائفة، وأنه الوحيد سبحانه الذي كان معك طوال الوقت مذ كنت جنينًا لا تدركك أيدي العناية، وفي كل أوقات ضعفك ووحدتك، وفي رأسك وقلبك يهدي ويرشد ما تؤمن به إن استجبت له، وبعد مغادرتك هذا العالم، ويوم البعث الذي سيفر منك فيه كل من تعلّقت بهم وستفر أنت منهم أيضًا، نعم كان معك، وهل سيكون الفرار إلا إليه وأنت آتيه فردًا؟!

وقد صدق ابن القيّم عندما قال “ولقد قضى الله قضاءً لا يُرد ولا يُدفع؛ أن من أحب شيئًا غير الله، عُذب به ولا بد”. حقًا نحن من نسلّط سيوف التعلّق على رقابنا وننحني لها، فنعذب أنفسنا ولا بد، ولو تعلّقنا به وحده سبحانه، لتحررنا من كل وهم، ولسعدنا بكل العلاقات والأشياء حولنا، سعادة من يتلقى هدايا مؤقتة يحافظ عليها ويسعد بها ولكنه لا يجزع لفراقها ولا يشعر أن هدفه في الحياة انتهى بانتهائها، ولا يشعر بالوحدة أبدًا.

ويملأ قلبه بطيب الأوقات الجميلة بلا حزن ويعزي نفسه عن الأحداث المؤلمة بما تعلّمه منها وما أحدثته في حياته من تغيير، وليكن الهدف دومًا هو صنع شيء أفضل، والاستمرار والمضي بقوة في حياةٍ لن تتوقف بفراق أحد لأنها غير مُصممة أصلاً للبقاء ولم تُصمم أنت أصلاً للبقاء هنا ونهايتها ستكون بداية جديدة يجدّدها الباعث سبحانه لك في مكانٍ آخر أفضل أيضًا بإذن الله. فلا تتخلى عن حلمك بالأفضل دومًا.

لم تكن أبدًا لوحدك، كان هو سبحانه معك، إن أدركت ذلك، استأنست به وندمت على كل تلك الأوقات المُهدرة التي قضيتها تبكي وحدتك وتتحسّر على ما يفوتك، هو الوحيد الذي ينبغي أن تبقى معه، والآخرون كلهم يمرون بك وتمر بهم، تتعلم منهم ويتعلمون منك. ولكن لم يكن الهدف أبدًا أن تبقى معهم.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها