كبت الحريات أشد من القتل

بادرني أحد الأصدقاء بتهنئة رقيقة مع ابتسامة وادعة لم أكن أتوقعها إذ أنها كانت بمناسبة قدوم شهر رجب، قابلته التهنئة بمثلها، ثم قلت في نفسي: وما خاصية شهر رجب ليكون مناسبةَ تهنئةٍ وفرحةٍ بين بعض المسلمين؟ ربما لأنه يمهد لاستقبال شهر رمضان المبارك، أو لأنه شهد بعض أحداث الإسلام الكبرى كرحلة الإسراء والمعراج، ثم تذكرت -على الفور- أن شهر رجب من الأشهر الحرام التي جاء الإسلام مؤكدًا حرمتها، ضابطًا ترتيبها وفق إرادة الله يوم خلق السماوات والأرض، وأعلن النبيr في خطبة الوداع العالمية المشهورة قوله:” أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا”. ثم رجعت إلى نفسي قائلا: إن كانت هذه ميزة شهر رجب التي يهنئ الناس بعضهم بعضًا من أجلها، فهل يمكن أن يكون هذا هو نفس السبب للتهنئة في هذه الأيام الحوالك التي يأتي فيها شهر رجب الحرام بينما العالم (المتحضر) يشاهد أكبر مجازر العصر الحديث في قتل الإنسان البريء بكل صنوف الأسلحة وأشنعها، وبينما المنظمات الدولية والإقليمية تعلن فشلها الذريع في حماية الأبرياء العزل من النساء والأطفال والشيوخ، الذين يموتون، إما جوعًا من طول الحصار وقسوته، وإما قتلًا شنيعًا بالأسلحة الكيماوية… وغيرها، كل ذلك يحدث أمام مرأى ومسمع العالم بجميع أديانه وطوائفه ومذاهبه وأيدولوجياته ومؤسساته في تحدٍ سافرٍ -ليس فقط للضمير الإنساني الذي غاب عن عالمنا اليوم- إنما في تحدٍ رهيب لقوانين الخالق في ضبط ميزان القوى في الكون وحفظ الدماء البشرية في ظل هدنة الأشهر الحرم على الأقل.

لقد كانت الجاهلية الأولى في مراعاتها لحرمة الأشهر الحرم وحقنها للدماء فيها أكثر إنسانيةً ورحمةً من كثير من زعماء وقادة العالم (في القرن21) الذين يساهمون في سفك دم الإنسان وتشريده على الهوية أو المذهبية، إما بالفعل الفظيع أو السكوت الرهيب، كما كانوا أكثر التزامًا بالقوانين والأعراف من كثيرٍ من دعاة حقوق الإنسان وحماة القوانين الدولية ومنتسبي الأديان؛ الذين لا يحركون ساكنًا، ولا ينطقون حرفًا أمام هذه الجرائم الشنيعة. لقد أقرت الجاهلية قبل الإسلام حرمة هذه الأشهر، وعظمتها تعظيمًا فطريًا، فاعتقدوا -رغم شركهم بالله- أنه لا قتال فيها ولا ترويع للآمنين، حتى إن الرجل كان يلقى قاتل أبيه في الشهر الحرام فلا يجرؤ أن يتعرض له بسوء تقديرًا لحرمة الشهر.

وتعجب إذا علمت أن المقصود بحرمة الدماء في هذه الأشهر هو ابتداء القتال المشروع، فماذا عن القتل غير المشروع على الهوية والانتماء؟ وماذا عن قتل الشرفاء والأحرار في ميادين المطالبة بالحقوق العادلة؟ وماذا عن التصفية الجسدية للمخالف والمعارض؟ وماذا عن أطياف البشر من اللاجئين الذين يموتون في عرض المحيطات أو على حدود البلدان والقارات؟ وماذا عن إخراج الآمنين من بيوتهم ظلمًا وعدوانًا، وتهجير المواطنين من منازلهم ودورهم، واحتلال الأرض والاعتداء على العرض؟… وغيرها من الأهوال والفظاعات التي تشهدها الأشهر الحرم وغيرها من أيام الله في هذا العصر.

لاشك أن قتل الإنسان وسفك دمه من أعظم ما يرتكب من جرائم في هذا العصر، ولكن الأعظم جرمًا والأكثر خطرًا، هو القتل  المتعمد لنعمة الحرية التي فطر الله الإنسان عليها وجعلها من أسباب تكريمه بين الخلائق، وذلك بإسكات صوته عندما ينطق بالحق مدافعًا عن قيمه، وبإهدار حقه في التعبير عن رأيه وقناعاته، وبجعله عبدًا لسلطان القوة الباطشة ولشهوات المنصب والأموال، وبإفساد روحه وفطرته عن الشعور والإحساس، وبتعطيل عقله وقلبه عن تمحيص الأكاذيب والافتراءات والنظر في  العواقب. وهذا ما أكده الإسلام في قوله تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ”.(البقرة:217) فالآية الكريمة تبين أن القتال في الشهر الحرام إثمٌ كبير، ولكن الأكبر منه “الفتنة” وفي آية أخرى أنها(أشد من القتل). والفتنة تعني كما يشير  بعض المفسرين: الامتحان والبلاء، والإيقاع في الحيرة، واضطراب العيش، فهي اسم شامل لما يَعْظم من الأذى الواقع على الفرد أو الجماعة، ويُقصد بها التعرض للآمنين من البشر بالأذى القولي والفعلي والمادي والمعنوي لصدهم عن ممارسة شعائر الدين والحقوق الإنسانية العامة؛ فتسلط عليهم أجهزة الاستهزاء والسخرية، ويُوضعون في زنازين التعذيب والتنكيل، ويُهددون بالإخراج من الأوطان، والمنع من استخدام الأموال، والتعرض للنساء والأطفال… وغير ذلك من اعتداءات الطغاة المتجبرين؛ مما يفرض على الإنسان الحر الكريم أن يكون بين اختيارين كليهما فيه تدمير لحقيقة الإنسان وضياع لقيمته الحقيقية: فهو إما يتنازل عن قيمه ومبادئه وحريته وكرامته، فيخضع ويستسلم؛ فيصبح بذلك جسدًا مهينًا، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، ويدب على الأرض كالدواب العجماوات بلا غاية ولا هوية، أو يواجه بقوة وصمود، فيتعرض للقتل والتشريد ومزيد من الطغيان والاستذلال.

والآية تبين أن قتل البدن أقل ضررًا من قتل الكرامة والقيم في قلوب البشر؛ فقتل البدن من أجل الغايات العظام، يجعل صاحبه شهيدًا للحرية ورمزًا للكرامة؛ فتحيى على ذكراه أجيالٌ متعاقبة. ولكن، ما قيمة الإنسان إذا انتزعت حريته؟ وما فائدة عقله إذا لم يكن طليقًا مبدعًا؟ وما لذة العيش إذا كان إدَامه الذل والامتهان؟ وأين التكريم اذا تحول بنو آدم إلى عبيد وقطعان؟ وعلى هذا كانت مخططات قتل الحريات في عالم الإنسان وجرائم تكتيم أفواه البشر أعظم إثمًا من قتل الأبدان، وأشد جرمًا في الشهر الحرام من سفك الدماء. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها