قطب العربي يكتب عن رابعة: كنت مشروع شهيد

كنا نحاول الوصول إلى قلب الميدان، ووصلتنا أنباء عن استشهاد عدد من الصحفيين، منهم أحمد عبد الجواد، مصعب الشامي، حبيبة عبد العزيز، ومايك دين.. يتبع.

 شارع الطيران يوم فض رابعة ـ أرشيف

ما إن تقترب ذكرى فض رابعة والنهضة حتى تتداعى إلى الذاكرة تلك المناظر والمآسي التي تهز الجبال الرواسي، والعقول “الرواسخ”، لم يكن العقل ليتصور على الإطلاق أن مصريين يفعلون بأشقاء لهم ما فعلوه في رابعة، رصاص يمطر المعتصمين السلميين من كل مكان برا وجوا، جرافات تجرف الجثث لتلقي بها في مقالب القمامة، أطفال تصرخ “اصحي يا ماما بالله عليك”، أناس تجري هنا وهناك بوعي او بدون وعي كأننا في يوم الحشر.

لم أكن حاضرا اللحظات الأولى للفض، فقد كنت معتادا على تقسيم وقتي بين رابعة والنهضة ومتابعة عملي والذهاب إلى منزلي لبعض الوقت، ما إن بدأت اخبار الفض تتداعى هرولت فورا من المنزل إلى نقابة الصحفيين حيث كنا قد اتفقنا مسبقا في حركة “صحفيون ضد الانقلاب”  على التوجه  مباشرة إلى النقابة حال وقوع الفض لتنظيم وقفة على سلالمها، ثم نتجه بشكل جماعي إلى رابعة لنقيم حاجزا بشريا للفصل بين الأمن والمعتصمين.

وبالفعل وصل إلى النقابة عدد كبير من الزملاء الصحفيين أعضاء الحركة،  ووقفنا نهتف ضد الانقلاب وضد العسكر وحاول بعض الصحفيين المؤيدين للسيسي والبلطجية الاشتباك معنا، لكننا تصدينا لهم، ثم تحركنا عبر المترو  حتى محطة الدمرداش ثم مشيا على الاقدام إلى رابعة، قطعنا طرقا متعرجة تجنبا للأكمنة الأمنية والبلطجية الذين كانوا يشتبكون مع أنصار الشرعية في اماكن كثيرة.

ووصلنا قرب نادي السكة الحديد حيث أحد المداخل الرئيسية إلى ميدان رابعة، كانت قوات الشرطة والجيش تغلق المدخل تماما، حاول الالاف من القادمين مثلنا من خارج الميدان الدخول مرارا دون جدوى، وسط  عمليات كر وفر وملاحقات من رجال الشرطة وإطلاق الغاز والخرطوش وحتى الرصاص الحي وهو الرصاص الذي قتل أحب الصحفيين إلى قلبي الشهيد احمد عبد الجواد في ذاك المكان بينما كان يقوم بعمله في نقل الأحداث ( قرب نادي السكة الحديد) .

حاولنا كمجموعة صحفيين ضد الانقلاب ان نقيم ذاك الحاجز بين الطرفين لكن المسالة كانت أكبر منا بكثير، وزخات الرصاص وكميات الغاز جعلتنا مشغولين بأنفسنا فلم ننجح في مهمتنا.

أتذكر انني رغم تلك الأجواء العصيبة إلا انني حاولت نصح بعض الشباب ان يحافظوا على سلميتهم، وأن يمتنعوا عن إحراق المنشآت العامة، في تلك المنطقة لكن الأعصاب كانت منفلتة ولا يمكن لأحد السيطرة على أحد.

حين احتدمت المواجهات والمطاردات لنا وكانت من قبل مدرعات الجيش وليس الشرطة ( وهذه شهادة مني ان الجيش شارك في الفض على عكس الرواية الرسمية)  لجأنا إلى  الاحتماء بمسجد الإيمان القريب من وزارة المالية وهو يختلف عن مسجد الإيمان في شارع مكرم عبيد وكلاهما تحول إلى مستشفى ميداني تكدس فيها عشرات الشهداء والمصابين.

الهم الصحفي والحرص على زملائي الصحفيين لم يفارقني في تلك اللحظة رغم صعوبتها وذلك بحكم موقعي كأمين عام مساعد للمجلس الأعلى للصحافة، وقد بلغني في تلك اللحظة ان صحفيا محتجزا داخل المسجد من قبل المتظاهرين بدعوى انه كان مصاحبا لقوات الجيش لحظة القبض عليه، فدخلت إلى المسجد لإنقاذه وهو صحفي من شبكة يقين  وهو يشبه كثيرا المصور أحمد جمال زيادة الذي ألقي القبض عليه يوم الفض وظل حبيسا حتى أيام قليلة مضت وربما يكون هو، فانا لا اتذكر اسمه، فقط عرفت منه أنه يعمل في شبكة يقين وأن مديره في العمل يحيي خلف وهو المحبوس حاليا أيضا.

وقد بذلت جهدا في استنقاذه حيث توهم والد أحد الشهداء في مذبحة المنصة أن هذا الصحفي هو من قتل ابنه، ورغم أنني جادلته كثيرا أن هذا صحفي يقوم بعمله إلا أنه كان يصرخ بصوت عال هذا قاتل ابني ولن أتركه، ومن الطرائف في تلك اللحظة العصيبة انني بينما وفرت لذلك المصور مخرجا سريعا إذ به يتباطأ بحثا عن حذائه، وانا أدفعه للخروج بدون حذاء، على أن  اتبعه أنا بالحذاء، وقد تسبب ذلك في ابقائه لفترة أطول داخل المسجد، حتى تمكنت من تهريبه بمساعدة أحد الاطباء المسئولين عن  المستشفى الميداني والذي كان يعرفني

ظللت في المسجد اتقاء للملاحقات والمطاردة وقنابل الغاز والرصاص خارجه، وفي الأثناء دخل إلى المسجد مجندان مصابان، وبينما شرع الأطباء في إسعافها انهال علينا الرصاص الحي من زملائهما خارج المسجد والذين تصوروا أنهما مختطفين ويريدون تحريرهما، وقد اضطر الأطباء لإسعافهما سريعا وتركهما يخرجان تجنبا لمزيد من الرصاص الذي قتل بالفعل بعض من هم داخل المسجد.

 كنت على وشك الموت حين مرت بجواري مباشرة رصاصة قتلت أحد الأطباء و كان يعالج مصابا، وظللت مع غيري في المسجد مستلقين أرضا تجنبا لزخات الرصاص التي استمرت لبعض الوقت قبل أن تهدأ مع مغادرة القوات للمكان بعد ان كانت قد اقتحمت رابعة بشكل كامل وأخرجت المعتصمين، عندها أيقن المتظاهرون القادمون للدعم والمساندة أن الأمر قد انتهى فتوقفوا عن محاولاتهم المتكررة للوصول إلى قلب الميدان.

بينما كنا نحاول الوصول الى قلب الميدان وصلتنا الأنباء تترى عن استشهاد عدد من الصحفيين وهم بالإضافة إلى أحمد عبد الجواد كل من مصعب الشامي مصور شبكة رصد، وحبيبة عبد العزيز الصحفية في جلف نيوز الإماراتية ومايك دين مصور سكاي نيوز، كما اصيب عدد آخر من الصحفيين بإصابات مختلفة.

لحظة الانصراف عائدين من رابعة كانت من أصعب اللحظات في حياتي، إذ كان الآلاف يملؤون الشوارع التي تؤدي إلى اتجاهات مختلفة بحثا عن وسائل مواصلات تنقلهم إلى احيائهم أو محافظاتهم، وكل من يجد تاكسي او ميكروباص يتعلق به، كنت في تلك اللحظة بصحبة أحد الأخوة الصحفيين، قلت له فلنركب اي “مواصلة” أيا كان اتجاهها لنخرج من هذا المكان، لكننا تمكنا بفضل الله من اللحاق بسيارة متجهة إلى ميدان الجيزة حيث كان مقصدنا، ما أن وصلنا إلى ميدان الجيزة حتى بدأنا رحلة البحث عن وسيلة مواصلات اخرى إلى 6 اكتوبر حيث أقيم، بعد مرور بعض الوقت وجدت ميني باص ، اكتظ فورا بالركاب، صاح السائق مطالبا بنزول كل صاحب لحية وكل منقبة، لكننا اقنعناه بالتحرك بالجميع وكانت فترات حظر التجوال قد بدأت بالفعل، واجهنا صعوبات كثيرة على الطريق الدائري حيث المتاريس المنتشرة على الطريق ومجموعات البلطجية، وأصر السائق على نزول بعض الملتحين في الطريق حتى يتمكن من إكمال السير فنزلوا فعلا على مدخل كرداسة، ولكن ذلك لم يشفع له لإكمال السير حيث منعنا بعض البلطجية من إكمال السير فعاد بنا السائق الى شارع الهرم واضطررت إلى المبيت عند شقيقي.

تتابعت الأخبار بعد ذلك عن أعداد الشهداء والمصابين، وعن التحركات الغاضبة في المحافظات خصوصا في الصعيد.

وأهمها حرق أقسام الشرطة وبعض الدواوين الحكومية الأخرى وبعض الكنائس، واختفت الشرطة بشكل شبه تام من الصعيد، الذي كان اشبه بدولة مستقلة لا ينقصها إلا قائد يعلن الانفصال، وقد شجعني وضع الصعيد على الانتقال إليه للإقامة بين الأهل لبعض الوقت قبل أن أغادر مصر.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها