في مواجهة القتل الكتلوي والقتل النخبوي

بشار الأسد لجأ إلى السياسة الاستثنائية الكتلوية في القتل بعد أسابيع قليلة من اندلاع الثورة السورية التي طالبت فقط بالحرية، القتل الكتلوي لوأد المطالبة والمطالبين بالحرية.

قد لا يذكر كثيرون عبارة قالها بشار الأسد في أول خطاب له في مجلس الشعب بعد أحداث درعا عام 2011 قال: “إنهم يشوشون علينا”، لقد كانت عبارة فجَّة وسافرة للغاية، لقد قصد وسائل الإعلام على ضعف تغطيتها وقتها أنها تشوش عليه وتفسد عليه إتمام عملية القمع وإخماد الثورة في مهدها وقبل أن تستعر.

القتل بصمت وبدون ضجيج هي القاعدة الأساسية الأولى التي طُبقت في قانون الأسد الأب وطبقها بشار من بعده.

قتل كل من يشكل خطراً على بقاء آل الاسد في الحكم…خطراً قريباً أو بعيداً ولكن من غير ضجيج.

قتل بعد اختيار وانتقاء، اختيار للأفراد الذين يشكل فعلهم أو فكرهم أو توجههم أو قولهم خطراً على النظام، الاختيار الجيد ثم القتل المتقن بطريقتين، إما قتل مباشر بتعذيب أو بدون تعذيب، أو اعتقال طويل بلا حدود يستوي فيه الاعتقال عند المعتقل وذويه مع الموت وقد يزيد.

كانوا يقتلون بشكل نخبوي ويختارون كل معارض أو “مشروع معارض”، ويحرصون على استئصال أي قامة من القامات التي برزت أو قد ظنّوا أنها ستبرز في كل مكونات الشعب السوري.

 ولم يستثنوا في ذلك الطائفة العلوية بل ركزوا على بتر أي قامة فيها حتى أنك لا تجد اليوم رجلاً بارزاً فيهم تحاوره لإنقاذ الوطن.

ومع الاختيار الدقيق كانوا يُجَرِّفون من حول الفرد الخَطِر بطانته التي حوله ويرسلونها إلى الفحص بضع سنين.

وفي انتفاضة حماة في الثمانينات خرج حافظ الأسد عن السياسة الأساسية “النخبوية” إلى سياسة استثنائية مدروسة، فمارس القتل الكتلوي الجمعي بطريقة مفزعة مرعبة مقصودة واللافت أن أغلب ذلك حدث بعد انتهاء الانتفاضة وليس أثناء المواجهات، وكان عدد من قُتل بعد الانتفاضة عشرة أضعاف من قُتل أثنائها، وكان القتل يجري بإعدامات جماعية ميدانية، ولم يعلم أحدٌ إلى الآن الرقم الدقيق للضحايا غير أنه عشراتُ آلافٍ من المدنيين.

ورغم هذا العدد الكبير المفتوح لم “يشوش” أحدٌ وقتها على حافظ الأسد ومضى الأمر بدون أي موقف او إدانة دولية، وظن الجميع أن التعتيم الإعلامي الحديدي الذي فرضه حافظ أسد قد منع الخبر من الوصول إلى الدول والحكومات.

ولكن كثيرون فوجئوا بوجود تقارير ومعلومات وافية في مكتبة الكونغرس عن أحداث حماة وضحاياها وبتواريخ قريبة جداً من الحدث:

لقد فعل حافظ أسد فعلته بعلم الغرب ودرايته“.

أما بشار الأسد فقد لجأ إلى السياسة الاستثنائية الكتلوية في القتل بعد أسابيع قليلة من اندلاع الثورة السورية التي طالبت فقط بالحرية، القتل الكتلوي لوأد المطالبة والمطالبين بالحرية.

وفهم شبيحة الأسد الآلية والطريقة وراحوا يقتلون ويذبحون وهم يرددون قولتهم المشهورة: “بدكن حرية…بدكن حرية” فلخصوا كل شيء، لخصوا سياسة الأسدين الواضحة، وما كان لهم أن يقتلوا من غير توجيهٍ وأوامر.

ولم يتمكن بشار أبداّ من إخفاء المذابح والمجازر فقد وثق الثوار كل شيء بكاميراتهم ونقلوها للعالم كله فلم يتكلم أحد عن الجدار الحديدي العازل للخبر والحدث.

وانتظر الملأ موقف الغرب من القتل الجمعي الموثق، انتظروا طويلاً فحصلوا في النهاية على أقصى موقف انساني غربي وهو “رفض القتل الكتلوي الجمعي بالأسلحة غير التقليدية والسماح به فقط بالأسلحة التقليدية”.

وراح بشار الأسد ومن وقت مبكر “منذ عام 2013″ يستثمر القتل الكتلوي الجمعي فطرح سياسة الهدن و”المصالحات الوطنية” وجعلها على مستوى القرية والحي، لكل قرية اتفاق ولكل حي تفاهمات.

وكانت كلها تهدف إلى وقف الثورة في كل موضع مقابل تخفيف القتل الكتلوي على هذا الموضع، القتل بالقصف والقتل بالحصار والتجويع.

ولم يكف حجم كتلة القتل الجمعي للوصول إلى الحد المطلوب لوقف الثورة في أغلب المناطق السورية رغم دخول إيران بكل مليشياتها في عملية القتل فسلم بشار سورية للروس ليوسِّعوا من دائرة القتل الكتلوي وأدواته ففعلوا بعد وعود مغرية هائلة وحددوا لذلك ثلاثة أشهر غير أنهم وصلوا لثلاثة وعشرين شهراً بكل ثقلهم وأدواتهم ثم طرحوا من جديد نفس الأمر القديم.

مفاوضات واتفاقيات كثيرة وعديدة محلية وموضعية للتسليم التدريجي مقابل تخفيف القتل الكتلوي الجمعي.

القتل بالقصف والقتل بالتجويع.

ولكنهم هذه المرة وأكثر من كل مرة يستثمرون الأعداد الهائلة من القتلى ويستثمرون المعاناة المريرة للمدنيين ويوهمون من يستعصي عليهم من الثوار بأنهم إنما يخففون القتل بلا مقابل.

كان النظام في المرات السابقة يستعين بأعوانه في المناطق المحررة، أعوانه من البعثيين السابقين الذين ما زالوا على العهد سراً وآخرون مجندون ينسقون ويتواصلون ويُنفذون رهباً ورغباً.

والروس بلا ريب يستفيدون ويرتبون مع هؤلاء أنفسهم، وهؤلاء لا يتوقف جهدهم ومسعاهم وهم يمهدون ويروجون وينشرون ويستصدرون الفتاوى من بعض المشايخ الذين يميلون أصلاً مع كل ميلةٍ وموجة…. ويقولون اليوم تحت عنوان الحكمة:

 “الأمر قد دُبر ورُتب من الدول الكبرى في الخارج وليس لنا من الأمر شيء، ليس لنا إلا الرضوخ“.

 وكأنهم لا يعلمون أصلاً أن حافظ وبشار مرضي عنهما من كل أجهزة مخابرات الدول الكبرى

من يستطيع في هذه الأجواء أن يقف في وجه هذه الاتفاقات والصفقات وهناك من صدَّق أن العدو الذي رجح كفة بشار هو الضامن المنشود لحياة مستقرة يبقى فيها الثوار أصحاب شوكة؟

من يستطيع أن يتحدث اليوم عن ثوابت الثورة السورية أمام الوعود بوقف القتل والتجويع حتى لو كانت وعوداً مؤقتة كاذبة؟

فلسفة الأسد للبقاء في سورية تصبح اليوم أحدث فلسفة لهذا العصر:

اقتل ولا تلين…اقتل بشكل جمعي كتلوي…اقتل لأقصى حدٍّ تستطيعه واستقدم من يساعدك في القتل …ثم خفف من “التوتر” ووتيرة القتل قليلاً باتفاقيات كثيرة متفرقة ليتنازل الناس عن الحرية التي رفعوا لواءها.

كل الدول الكبرى وافقت على هذه الفلسفة ويبقى السؤال: “هل تنجح هذه الفلسفة وتمضي للنهايةٍ في سورية بعد كل تلك التضحيات”؟

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها