فن صناعة الهيبة

هذه المواقف وأخرى جعلتني أدرك أن النجاح الزائف ليس في الطريقة الحقيقية التي ترى بها نفسك لكن بحسب الأسلوب الزائف الذي تصدر به صورتك للآخرين.

كم من مواقف جرحت صبانا فكشفت لنا قُرَح التضليل في أغوار بعض نفوس البشر الآسنة.

لا أنسى يومًا هذه الرواية التي سمعتها في صباي من سيدة روت بأسى كيف تكفل زوجها بمصروفات زواج ولديهما فيما ضنّ عليها بشراء خاتم ماسيّ أسوة بكنّاتها رغم إلحاحها، ثم شرحت بنبرة علا فيها صوتها حِدة، كيف أنها اقتنصت الفرص، فتمكنت من ادخار مبلغًا من مصروف البيت، فاشترت الخاتم وتساوت بكنّاتها.

التقيت بالهانم في محفل يَضُم هذه المرة صفوة المجتمع، فإذا بها تَزُج برواية مختلفة للخاتم الماسيّ، وقد رفّعت صوتها ونطقت بنبرة أنثوية رقيقٍ تختلط فيه الباء العربية بنظيرتها اللاتينية: “پنات، زوجي أهداني هذا “السوليتير” ليشبكني من جديد بمناسبة عيد زواجنا”!

يوم أرادت أن تبدو قوية، استعانت برفع الصوت لرسم “رتوش” شخصيتها بريشة المناضلة لتبدو ثورية، على أنها حين ارتأت لعب دور الأنثى المرغوبة، استعانت بخفض صوتها وتصابت لتبدو كما المرأة التي يتودد إليها زوجها بالقرابين!

” ماك جايفر”

ولكم صادفت سيدات مُدّعيات للإنهاك على أنه متى قيل لهن: “هيا شوبينج”، “هَلُم سفرة”. هنا يتحولن “لماك جايفر”، فتجول الواحدة منهن بعدة “مولات” بيوم واحد “أبالغ”.

ويَلُح عليَّ ذكر واقعة إصابة والدتي بورم في المخ إبّان دراستي، وفي ليلة اشتد عليها الألم، فاستدعيت الطبيب المناوب وكان شابًا قصيرًا، ولا أعلم كيف سألته: “هل حضرتك طبيب أطفال أم جراح مخ وأعصاب؟”

فامتعض الرجل وذهب مُغاضبًا كما ذهبت معه جهوده في رسم مظاهر الهيبة على محياه، فالكلام بالقطارة والخطوات المثقلة والحركات المدروسة، والنظرات المحدقة واللفتات المفتعلة مع نبرة الصوت المخنِّف، كل هذا ثم تأتي طالبة لتتعامى عن هذه التجليات وتسأله:

أجراح مخ وأعصاب أم طبيب أطفال؟

هذه المواقف وأخرى جعلتني أدرك أن النجاح الزائف ليس في الطريقة الحقيقية التي ترى بها نفسك لكن بحسب الأسلوب الزائف الذي تصدر به صورتك للأخرين.

إن سر النجاح الزائف كما وصفه الدكتور أحمد خالد توفيق ” ليس أن تكون، بل أن تبدو”، أما أنا فأقول:

– ليس أن تكون ناجحًا بل أن تبدو مطلوبًا.

– ليس أن تكون خبيرًا بل أن تبدو عالمًا.

– ليس أن تكون حرًا بل أن تبدو منطلقًا.

– ليس أن تكون جراح مخ وأعصاب، بل ” ألا ” تبدو طبيب أطفال.

– ليس أن تكون خيرًا بل أن تبدو نبيلًا.

– ليس أن تكون ورعًا بل أن تبدو مُنسبًا.

– ليس أن تكون عطوفًا بل أن تبدو منكسرًا.

– ليس أن تكون مثاليًا بل أن تبدو قريبًا من الكمال.

– ليس أن تكون جميلًا بل أن تبدو فاتنًا.

– ليس أن تكون قويًا بل أن تبدو صلبًا.

– ليس أن تكون ذكيًا بل أن تبدو، أريبًا، لبيبًا، حاذقًا، المعيًا، ولوذعيًا.

– ليس أن يكون محتواك مُثقلًا، لكن أن يكون مظهرك براقًا، مترفًا.

– ليس أن تكون نزيهًا بل أن تبدو عفيفًا.

– ليس أن تكون متحضرًا لكن أن تبدو مدنيًا، ولو كان قاعك ريفيًا، وقناعاتك بالبداوة، وفكرك مُسَمَدًا بالضيق وأفقك مُسَمَمًا بالانغلاق، وقلبك مُسَبَخًا بالصد وثوابتك مُسَمَرًة بالتماثل بالموروث.

– ليس أن تكون شخصًا مُهًما بل أن تبدو واسع العلاقات، غير قادر على إتمام محادثة.

– ليس أن تكون بطلًا بل أن تبدو فارسًا.

– ليس أن تكون غنيًا بل أن تبدو عليك مظاهر الثراء، ومنها ألا تظهر اكتراثًا بالثمين بل “بالنادر” مع التظاهر بالبساطة لتبدو مميزًا عن سائر الأثرياء.

– ليس أن تكون خلوقًا بل أن تبدو خدومًا مهما أسهمت بسهام همزك وطعنات لمزك.

– ليس أن تكون طيبًا بل أن تبدو وديعًا، فتُعَنوَن أليفًا.

– ليس أن تكون عاقلًا بل أن تبدو صموتًا، تعلوك أمارات الحكمة وتكسوك بشت الشيوخ.

– ليس أن تكون فصيحًا بل أن تبدو مفوهًا، مفرداتك ناصعة وعباراتك لامعة ومنطوقك رنان، مقلقلًا لقسمك، معطشًا لجيمك ولو كانت معانيك خواء.

– ليس أن تكون واثقًا بل أن تمشى واثق الخطوة، متثاقلًا، متجاهلاً، غير مكترثًا، فتبدو خبيرًا ببواطن الأمور.

– ليس أن تكون قنوعًا بل أن تبدو للناس راضيًا، زاهدًا.

– ليس أن تكون محبوبًا بل أن تبدو محاطًا، مع يقينك أن محيطك هذا جاهلًا بجرائمك.

– ليس أن تكون شجاعًا، مصاولًا، مغوارًا، بل أن تبدو للناس جسورًا.

– ليس أن تكون حييًا بل أن تبدو للناس خجولًا، ولو كنت صفيقًا، متواقحًا.

– ليس أن تكون نقيًا، بل أن تبدو للناس طفوليًا.

– ليس أن تكون مهيباً بل أن تبدو فخيمًا، جليلًا، مُفتخرًا، غائبًا، شاهقًا، قصيًا.

– ليس أن تكون كريمًا بل أن تبدو جوادًا تتيه لتخصيصك لأنصاف الجنيهات، تمنحها للسائلين لاسترضاء ضميرك بمسكنات شلنات الفضة

– ليس أن تكون ذاتك الحقيقية، بل ذاتك الخيالية التي تختال بها على الأخرين بل لربما على نفسك.

هذه الذات المصنوعة من مئات اللبِن كما وصفها “عدنان إبراهيم” لبِنة المال، الجمال، القوام، الصحة، اللقب، العلاقات إلخ” وكلها حجارة خيالية تؤسس هيكلك الوهمي، بأهوائه العاصفة المفرقة التي وصفها “الحلاج” بالتالي:

كانت لقلبي أهواء مُفرقة   فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

فصار يحسدني من كنت أحسده  وصرتُ مولى الورى مُذْ صرتَ مولائي

تركتُ للناس دنياهم ودينهـم      شغلاً بحبـّك يا ديني و دنيائــــي

وستحقق لك هذه الهيبة الزائفة، وهذا الهيكل الخيالي نجاحًا زائفًا؛ لكنه ليس ببراعة عصا الكليم تلك التي تلقف ما يؤفكون.

وفي نهاية المطاف، ستتربع أنت نفسك، وبنفسك على عرش من خدعتهم، وقد سطر الرومي أبياتا لإيقاظ الواهمين من خبراء فن صناعة الهيبة:

اللهم إني سجين قبري بدني هلم يا إسرافيل

فانفخ في صوري من أجلي، حتى توقظني

لا حيا الله خبراء فن صناعة الهيبة ولا أيقظهم وليتمتعوا في سباتهم ويعمهون.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها