فاطمة المهدي تكتب: بالله لا تقدسوهم

أرى الألم النفسي الذى يزداد يوما بعد يوم لإخوتي ثم أقف عاجزة مكتوفة الأيدي لا أعلم ماذا أفعل سوى محاولتي لفهم الأمر جيدا عن طريق الإنصات حينا والمشاركة حينا. يتبع

دلفت إلى غرفته في وجل وترقب.. مشيت خطوات ثقيلة في خشوع حتى وصلت إلى كرسي يقبع تحت النافذة.. وما إن وصلت حتى رميت بجسدي جميعه عليه عله يخفف ما ألم بي من هول ما رأيت.. رفعت عيني في حذر لأسترق النظر إلى ذراعه مرة أخرى… ذاك الذراع الذى تآكل  فلم يتبق منه سوى عظم مهترئ وبعض من الجلد الذى يكسوه على استحياء.. حتى إنك لا تكاد تميز شكله أو لونه أو حتى كنهه.. ضاعت منى حروفي.. فأخذت أستجديها من الشرق تارة ومن الغرب تارة أخرى.. لا يفصلني عنه سوى ابتسامة بلهاء.. ولم أعد  أعلم هل تبتسم تقاسيم وجهى أم أنها تشتاق إلى البكاء.. كان شابا ثلاثينيا.. لا أتذكر اسمه.. فكلهم صاروا أرقاما.. أو أنني من هول ما رأيت تناسيت اسمه فلم يتبق لي سوى لقب “إنسان.

هو فقط إنسان.. لديه زوجة وأطفال.. تركهم في غزة بعد قصفها مباشرة.. كان ذلك في عام ألفين وثمانية، حيث استقبلت مصر بعض الجرحى بعد القصف مباشرة ليتلقوا العلاج .. وكانت فرصتي.. أو ألمى -لا أدرى حقيقة- أن أتلقى تدريبا في عملي التطوعي  للقيام بالدعم النفسي المناسب لمن لم يفقدوا فقط أجزاء من أجسادهم بل فقدوا أجزاء من حياتهم بعد اختطاف الآلة الصهيونية أحب الناس الى قلوبهم.

ما إن أنهيت التدريب حتى كان من نصيبي مشفى الهلال الأحمر الكائن في ميدان رمسيس بالقاهرة.

رأيت حالات عدة.. كبارا وصغارا.. رجالا ونساء.. لكن ذاك المشهد لم يكاد يبرح رأسي, إلا ووجدته عائدا محكما قبضته عليها مرة أخرى.

لا أنسى تلك المرأة التي وقفت مشدوهة بجرأته وبراعته في تجرع الألم وتحمله.. لا أنسى كلماتها التي ألقتها عليه فنالت منى قبل أن تنل منه.. كلمات معدودات معهودات في مثل تلك المواقف.. لكنها على صغر حروفها ,  تمنيت في لحظات أن أسحبها من يدها وأرسلها الى حيث لا رجعة.. أو لعل خيالي الخصب قد صور لي أنى قد وضعت لها سما في كوبها كي تغادرنا في هدوء.

بالله لا تصدر حكمك على قلبي، فلا تربطني بين “سكينة” واختها, أي جينات وراثية، وإن كنت في موقفي.. لتمنيت أن تفعل.

عندما دخلت إلى الغرفة في البداية ابتسمت ابتسامة المهلل.. ابتسامة المنتصر.. قالت له بصوت جرئ: ما الذى حدث لذراعك :

أجابها والسكون يملأه: إنه اليورانيوم.. كان ممسكا ذراعه اليمنى المصاب بذراعه اليسرى التي لم تمس بسوء، وهو يسرد لها قصته وينظر لها خجلا.. متعجبا.. متسائلا بنظرات حائرة: من أنت؟

ثم بادرته بعدما سمعت تفاصيل الحكاية ..

الله..

رائع..

ما شاء الله عليك..

سبقتك الى الجنة..

كم كنت أتمنى أن أكون مثلك..

ستكون غدا مع الصحابة..

وطيلة وقت سرده للقصة وهى تبتسم ابتسامة إعجاب لا مثيل لها, وكأنها تجلس في مدرجات كرة القدم ..

أنهت صديقتنا زيارتها وكلما دخلت غرفة من الغرف قامت بنفس الدور في الإعجاب والإطراء والمدح المبالغ فيه..

بالله ما هذا؟

ذاك الجريح الذى ينزف قلبه ألما.. يريد حقا من يخفف عنه.. لكننا لم نتعلم بعد من أين تؤكل الكتف..

ليست هكذا  تكون المساندة يا سيدتي..

مضت السنون تلو السنون ثم دارت الأيام لأجد المشهد يعود إلينا مرة أخرى ما بين استشهاد واعتقال وإصابة ومطاردة..

أرى الألم النفسي الذى يزداد يوما بعد يوم لإخوتي ثم أقف عاجزة مكتوفة الأيدي لا أعلم ماذا افعل سوى محاولتي لفهم الأمر جيدا عن طريق الإنصات حينا والمشاركة حينا.. وإن كنت أرى أن دوري لا يكاد يذكر.. لكن هذا ما أستطيعه اليوم حقا..

أسمع عبارات التشجيع والفخر الموجهة إليهم .. والتي قد فاقت كل الحدود.. حتى تكاد تصل الى مرحلة القداسة..

قداسة أهل الشهيد…

منهم من يريد أن يأخذ صورة مع أبنائه ليفخر بها أمام أصدقائه..

ناهيك عن عبارات المدح والثناء.. عبارات التشجيع بالتثبيت المستمرة

كلمات اللوم إذا ما اشتكى أولاده أو زوجه..

أهكذا تكون زوجة الشهيد.. أهذا سلوك أبناء الشهداء؟

لو كان الشهيد بين أظهرنا ما فعلتم كذا وكذا.

أيها الناس.. أنسيتم انهم بشر مثلنا.. يتألمون مثلنا ..يتوجعون.. يعتصرهم الحزن والأسى.. تتبدل أيامهم ..وقد يغيرهم الوجع..

هل حرمتم عليهم شعورهم بالحزن..

هل ستحبسون دمعتهم في مآقيهم..

هل بذلك تخففون عنهم..

أرى أنكم تقومون بطعنهم .. بتجريدهم من بشريتهم والصاق صفة الملائكية عليهم..

لا تحملوا الأمور فوق طاقتها فيكفى ما هم فيه..

فقط أنصتوا إليهم.. اعترفوا بآلامهم وأحزانهم.. احتضنوهم إن كانوا في احتياج إلى أحضانكم.. وابتعدوا إن هم طلبوا ذلك ..

كفوا عن إرسال نبرات التقديس لهم.. يكفى فقط أن تقولوا أنكم تقدرون مشاعرهم وأنكم متاحون في أي وقت إن احتاجوا لدعمكم.

فاطمة المهدي 
أستشارية تربوية مصرية

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها