فاطمة الزهراء راشد تكتب: رابعة بين مشهدي الدخول والخروج

سيقتحمون العمارةالآن الجميع أطفال ورجال ونساء يهرول علي السلالم صاعداَ بلا هدف, قناص من العمارة المقابلة يشاهدنا فيطلق رصاصاته فتصيب إحدي السيدات في العقد الخامس من عمرها في ظهرها. يتبع

 

مشهد 1

الجمعه 19 يوليو 2013

بدا الجو شديد الحرارة في هذه الجمعة ويبدو أنني سأندم لاحقاَ علي اتخاذ هذا القرار تحديداَ في هذا اليوم بالسفر والمشاركة في إعتصام رابعة العدوية .. ولكن لم يكن أمامي فرصة للمشاركة سوي هذه الجمعة قبل التوجه لأداء العمرة بمكة المكرمة خلال الأيام القليلة القادمة,  فلم يكن سفري من أسوان ثم إلي الإسكندرية إلا لإستكمال أوراق استخراج تأشيرة السفر بصحبة عمي, وها أنا ذا أستغل الفرصة لأقضي يوما برابعة العدوية التي طالما حالت بيني وبينها شاشات التلفاز فما ازددت إلا تعلقاَ بها .

أنزلنا السائق أمام بوابة “شارع الطيران”الطوابير المصطفه للتفتيش فيما يبدو أنها بلا مقدمة وبلا نهاية .. لم تروقني فكرة التفتيش في بداية الأمر حتي وصلت إلي تلك الفتاة التي لاقتني بابتسامة وترحيب لينتهي الأمر بمنتهي الوُد والبساطة.

الجو ترتفع حرارته والباعة يتجولون في أنحاء الميدان بالفاكهة والثلج وبعض متطلبات المعتصمين اللذين باتوا يعلمونها أكثر منهم .. فحتي هؤلاء الباعة أصبحوا جزءا من الإعتصام يقضون طوال يومهم بين المعتصمين ويشاركونهم الهتاف وبعض النقاشات حول الأوضاع الحالية .

كيف يتحمل المعتصمون هذا الجو في الشمس مسلطة فوق الرؤوس والأسفلت كأنه يحوي في باطنه بركاناً من شدة حرارته والخيم لا تقي شيئاَ في ظل هذه الحرارة العالية التي يصحبها صيام رمضان .. تنظر إلي الوجوه فتتبين أن صوت البلتاجي يلطف علي المعتصمين الأجواء  وحماسة د. صلاح سلطان تنسيهم ما أهمهم .

استوقفني رجلاَ ما بين الأربعين والخمسين من عمره قائلاَ: اثبتي مكانك, توقفت مندهشة ففاجئني برشاش مياه سلطه علي رأسي ثم قال ضاحكاَ “بس كده يلا عدي”

فتاة في العشرينات من عمرها تستوقفني وتسألني عن أسورة فلسطين التي بيدي فأجيبها بأني اشتريتها من غزة فتقترح علي استبدالها بعلم مصر قائلة: يطلقون الشائعات عنا أن من في الميدان سوريون وحماس وليسوا مصريين فلنحاول ألا نعطيهم فرصة لمزيد من الكذب والتضليلي هذا كل ما في الأمر .. أما عن فلسطين فهي في قلوبنا .. ثم احتضنتني حضنا صادقاَ فجأه وقالت لي أرجو ألا أكون قد ضايقتك بتدخلي ثم رحلت باسمة .

كل ما سبق بالإضافة لبضع ساعات تحت المنصة والخروج في مسيرة من مدينة نصر كان كفيلاً لتكون إجابتي حاسمة حين همت المجموعه التي قدمت معها بحزم امتعتهم في طريقهم إلي العودة : “لا أرغب في العودة من هذا الوطن سأظل في الميدان وسأنتظركم للجمعه القادمة بنفس الخيمة إن لم تنتهي إجراءات تأشيرة السفر قلت هذه الكلمات وأنا أرتدي زي التأمين” .

 

مشهد 2

عملية فض الإعتصام مراقبة ومصورة بشكل كامل .. عملية فض الإعتصام تتم بقرار من  النيابة العامة وبحضور وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني “صوت بغيض إلي النفس لازال بدني يقشعر كلما استمعت إليه “

لازلنا نرتدي زي التأمين ونحاول تمرير الحالات المصابة, صراخ الأطفال يتصاعد إثر الإختناق .. الطائرات أصبحت قريبة ورؤية القناص بداخلها باتت واضحت .. أشحت ناظري عنه .. محاولة إسعاف طفلة صغيرة لم تعد تجدي معها كمامة مبللة بالخل ,تكبيرات ورؤوس منفجرة قادمة من مدخل طيبة مول.

توقفت عن العد حين تعدي عدد الضحايا المائتين قبل أن تكتمل الساعة الأولي ,صوت البلتاجي ينبئ بأن الأمر جلل, تكبيرات صلاح سلطان يخنقها الغاز, قنبلة تهبط من السماء علينا فتصيب فتاة وأصاب باختناق وأفقد الرؤية تماما ,محاولات يائسة لنطق الشهادة .. يبدو أنه الموت.

أفقت علي يد أحد الأطباء .. والذي قام بخلع كمامته وإعطاءها لي قائلا: بلليها بالخل  كلما سنحت لك الفرصة.

لا يوجد شبكة

حاولت الإتصال بأمي في محاولة متناقضة لتوديعها وطمئنتها في نفس الوقت بأني لم أقتل بعد .. باءت كل محاولاتي بالفشل يبدو أنني لست وحدي جميع من حولي يحاولون الإتصال بذويهم ولا فائدة .. “الإتصال تم قطعه من الميدان” ! قال أحدهم .

الهجوم يزداد شراسة .. أُم تحاول إنعاش طفلتها ولا تدري حية هي أم فارقت كمن فارقوا .. شاب مبقور البطن ينظر إلي بطنه بفزع وأصدقائه يحملونه ويهرعون به مستصرخين, الجثث تتراكم .. المستشفي الميداني بركة من الدماء .. خدعة الممر الآمن مركز القتل .

محاولات الإستعداد للمواجهه بتكسير بعض الأحجار, محاولات إسعاف المصابين بالمحاليل والقطن والشاش علي الأرصفة.

نفذت المحاليل

نفذت الأكفان

الدماء علي ملابس الأحياء كما الأموات

الخيام بإمتداد الطيران تشتعل

جرافة تهرس خيمة .. صوت صرخة مكتومة وطقطقة عظام

صرخ أحدهم طالبا مني الإحتماء داخل إحدي العمارات .. لحظات أعقبها إنفجار مدوي لم أسمع مثله يوماَ مخلفاَ دخاناَ أسود وانهار علي إثره باب العمارة الزجاجي الذي نحتمي خلفه .

سيقتحمون العمارة الآن الجميع أطفال ورجال ونساء يهرول علي السلالم صاعداَ بلا هدف .. أطفال بلا عدد فقدوا ذويهم تم تجميعهم بهذه العمارة , قناص من العمارة المقابلة يشاهدنا فيطلق رصاصاته فتصيب إحدي السيدات في العقد الخامس من عمرها في ظهرها وهي في منتصف السلم , رجل في مثل عمرها أصيب في قدمه .. جلس ينزف وجلسنا بجوارهم .

افترشت سجادة الصلاة الغارقة بالدماء , دخان مجهول المصدر يصيب الجميع بالإختناق .. المستشفي الميداني تشتعل !

بالخارج وجوه سوداء بنفس لون ملابسهم وبالطبع لم تكن قلوبهم أفضل حالاَ ، يحيطون بنا من كل الإتجاهات مصوبين أسلحتهم تجاهنا .. صاح أحدهم موجهاً صيحاته إلي قائلاَ ” يلا يا بتوع سوريا ” أعقبها سباب وقذف عنيف … لم أتبين الأمر حتي أشارت إلي المرأة التي تستند علي ساعدي ولا تكاد تحملها أقدامها من الذعر : أن “اخفي أسورتك التي بمعصمك حتي لا يتعرضون لك” !

مسناَ يجهش بالبكاء مردداَ : “حسبنا الله ونعم الوكيل” فيفاجأ بأحد القوات الخاصة يجره من لحيته لعدة أمتار وصفعه علي عدة أماكن من وجهه قائلاَ : منذ اليوم تصلي في بيتك  يااا شيخ  لا مساجد بعد اليوم .. ستصلي أين ؟؟ ظل يصفع الرجل ويسبه بأقذع الشتائم حتي قال باكياَ :سأصلي في البيت .

طائرة تطارد ثلاث أشخاص بينهم مصابان يحملون صديقهم المصاب بطلق ناري في بطنه ويهرولون به إلي خارج الميدان .. ينهمر عليهم الرصاص فيقع منهم صديقهم ويتفرقون .. لم يفزعني مشهدهم بقدر ما أفزعني صوت تصفيق أسره واقفة في إحدي الشرفات تتابع ما يحدث بسعادة شديدة .. مرددين “تسلم الأيادي ” بينما أطلق شاباً بينهم صفيراَ متواصلاَ تحية لقناص الطائرة الذي أردي هؤلاء المصابين علي الأرض .

عن يميني ثلاث جثث يتصاعد منهم الدخان .

ها أنا ذا أغادر الميدان من نفس البوابة التي كانت أول عهدي برابعة بوابة شارع الطيران

لا أثر للبوابة .. ولن أفتش هذه المرة .. ولا مجال لوجه باش أو ابتسامة تمحي وطئة هذا الكابوس

كل شئ يبدو مسوداَ ، كل التفاصيل مظلمة .. رفعت رأسي للسماء أشكو بثي وحزني إلي الله .. السماء مكدرة تختنق بسحابات الظلم السوداء الصاعدة إليها.

الأرض تحترق من تحتنا وبرك الدماء تملأ المكان .. لا تدري أين تخطو قدمك فوق النار أم علي دماء أخوتك .

هل العالم انتهي اليوم … لابد أنه انتهي

لما لازلت موجودة إذن !

لا أدري في هذه اللحظات هل خرجت من الميدان أم خرجت من الدنيا بأسرها .

ما أعلمه أنه ما عاد وطنى الذى أسكنه ولكن وطنى مازال يسكننى

 ما أدركه  تماماَ أنني لازلت هناك بينهم بزيً التأمين

 

شاهد علي المذبحة
فاطمة الزهراء راشد عبد الحفيظ

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها